الصباح الباكر.
كان الخادم الذي نهض عند الفجر يكتم تثاؤبًا وهو يقطع الفناء الداخلي للقلعة. كان في طريقه للعناية بالخيول في الإسطبل، تلك التي تخصّ الفارس الذي يخدمه. ومع عودة الشاب الكونت وفرسانه، الذين غادروا قلعة إرتينيز للمشاركة في جهود الإغاثة، عادت الحياة إلى الإسطبلات بعد أن كانت هادئة خامدة.
“لِمَ توجد بغال في إسطبلات القلعة؟”
تمتم لنفسه وهو يلتقط سلة وفرشاة ويتجه نحو حافة الماء. كان يسير بخطى متراخية حين مرّ به خدم آخرون استيقظوا مبكرًا، يحملون صحونًا وأوانيًا تحتاج إلى تنظيف. كان مشهدًا يوميًا عاديًّا. لكنّ الشائعات التي التقطتها أذناه لم تكن عادية أبدًا.
“أحقًّا؟ هل فعلها السيد الشاب الثاني…؟”
“أقول لك، رأيته بعينيّ أمس! كان واقعًا في الغرام تمامًا. عليك أن تراه في قاعة الولائم.”
السيد الشاب الثاني من عائلة إرتينيز، المعروف بلقب مُثير المتاعب، ليوناردو. كان الخادم قد سمع الخبر بالفعل: السكير الشهير من إيل دانتي، الذي اختفى وظُنّ أنه مفقود، عاد أخيرًا.
“ألم تكن القلعة كلها في حالة ضجة يوم أمس؟”
حين انتشر خبر عودة مُثير المتاعب، أسرع الخادم إلى مكان يطلّ على الفناء الداخلي ليلقي نظرة خاطفة. وصُدم حين رأى النبيل الكسول الذي كان يتهرب من تدريبات السيف، وقد بات يحمل نفسه بجدية وهيبة تشبه كثيرًا تلك التي لدى الفارس الذي يخدمه.
يُقال إن الرجل لا يصير رجلًا بحقّ إلا بعد مواجهة اختبارات الحياة القاسية؛ ويبدو أن السيد الشاب قد مرّ بالكثير خلال شهر غيابه. ولعلها لم تكن قسوة التجارب وحدها… فغالبًا ما يعتني المرء بنفسه إن وُجد من يسعى أن يؤثر فيه أو يثير إعجابه.
“سمعت أن اللورد يعارض ذلك؟”
“يقولون إنه أرسله إلى حصن ليليوم النائي.”
“أمرٌ مثير للاهتمام.”
في وسط روتين يومي ممل، كان من المستحيل تجاهل مثل هذه الأخبار المشوقة. أصاخت أذناه باهتمام بينما يواصل الاستماع للقيل والقال. وواصل الخدم الآخرون الهمس.
“هناك حتى رهان يدور حول المدة التي سيصمد فيها هناك. إن كان قد جاء وهو يتوقع معاملة ملكية فقط لأنه نبيل، فسينهار ويستسلم بسرعة.”
“آه… بصراحة، أميل لتصديق الشائعة التي تقول إنه قد تغيّر بالفعل. وإن صادف رفيقه في السفر مجددًا، فسأختلق المدائح وأقول عنه كلامًا حسنًا. يقولون إنه يتصرف كشخص مختلف تمامًا حين يكون معه. ومن يعلم—ربما لو ظلّ متمسكًا به، فقد يعود ذلك بالنفع علينا جميعًا.”
“أهكذا هو الأمر…”
لم يمرّ سوى يوم واحد على عودة مُثير المتاعب، لكن الخادم كان قد سمع الكثير والكثير عنه بالفعل. فالقصص تنتشر داخل القلعة أسرع من انتشارها في السوق، خصوصًا بين الخدم من الطبقات الدنيا، حيث تنتشر الكلمات كالنار في الهشيم.
وبالطبع، وكأي شائعة، فقد تعددت الروايات.
فبعضهم قال إن مُثير المتاعب وقع في غرام عاميّ، وأنه ذهب إلى حد إحراق مصدر رزقه بتهور قبل أن يجرّه إلى إيل دانتي. ورواية أخرى ادعت أن عاميًا ساذجًا هو من تبعه، مسحورًا بمظهره النبيل ونَسَبه المرموق، دون أن يدرك أنه يتعلق بقشّة متعفّنة. وأخيرًا، كانت هناك حكاية تقول إن مُثير المتاعب قد وجد نظيره الحقيقي أخيرًا، وأن ذلك جعله يُهذّب سلوكه ويعود إلى القلعة نادمًا حقًا.
كان الخادم لا يولي اهتمامًا كبيرًا لأيٍّ من تلك القصص.
فأيُّ شخصٍ رأى مُثير المتاعب ممدّدًا منذ الفجر، يضرب صفائح الخمر شربًا حتى آخر قطرة، سيجد صعوبة بالغة في تصديق أيٍّ منها. سواء داخل القلعة أو خارجها، كان يُعرف عنه أنه ينهار أرضًا بلا حراك، لا يختلف كثيرًا عن خرقة مُبتلّة.
هل يمكن لشخص كهذا أن يتغيّر بهذه السهولة؟
ساخرًا، ملأ الخادم دلوًا بالماء وعاد أدراجه نحو الإسطبلات. وهناك، رأى رجلاً طويل القامة، وسيماً، يقف مرتاحًا وهو يربّت على ظهر بغل. وحين شعر الرجل بحضور الخادم، استدار نحوه، ترتسم على شفتيه ابتسامة ماكرة تشبه ابتسامة الثعالب.
“يوم جميل، أليس كذلك؟”
“نـ نعم، بالفعل…”
وحين دقّق النظر، أدرك الخادم أن هذا هو نفسه الرجل الذي كان بجوار مُثير المتاعب حين تَسلّل هو لإلقاء نظرة على عودته يوم أمس. وما إن استوعب أن هذا الرجل هو ' الرفيق ' الذي تحدّثت عنه الشائعات، حتى تنفّس الخادم تنهيدة حسرة صامتة.
يا لخيبة الأمر… يبدو أنّ رهاننا سينهار قبل أن يبدأ!
يبدو أنّ الرفيق العامّي قد أدرك بالفعل حقيقة مُثير المتاعب، وأنه يعتزم الرحيل. طفلٌ صغير خرج بخجل من خلف ساق الرجل، يحيّيه بتحية لطيفة. أكان هذا هو الطفل الذي أحضره معه؟
إن كان قد جلب معه طفلاً أيضًا، فربما هو حقًا يرحل.
وعلى الرغم من أنه لم يكن مهتمًا عادةً بالشائعات، إلا أنّ رؤية الأمر بعينيه جعلته يتوق إلى الثرثرة. وبينما تظاهر بالانشغال، كان الرجل والطفل يجثوان قرب البغل، يتحدثان بصوتٍ منخفض.
“سنخرج نحن الاثنين فقط…؟”
“نعم. ليو ممنوع من مغادرة القلعة لبعض الوقت، لذا سنجلب له بعض الأشياء التي يحبّها في طريق عودتنا.”
أوه… ربما ليس كذلك؟
لم يبدُ عليهما أنهما يستعدّان للرحيل نهائيًا. بدا أن الرهان لن ينتهي فجأة، فكّر الخادم. سواء كان ذلك حسنًا أم سيئًا، فلم يكن قادرًا على الجزم بعد.
مثير للاهتمام!
في الحقيقة، مثل هذه الأمور لم تكن ذات أهمية كبيرة لأناسٍ مثله على أية حال.
⸻
كان الشعور واضحًا: الناس كانت تُلقي نظرات نحوهما. لم يكن وهمًا—كانت هناك أعين تتبعهم حقًا.
حسنًا… لا يمكن الإنكار أن مظهرهما من بعيد قد يبدو مشهدًا ممتعًا للمشاهدة. تمامًا من النوع الذي يُشعل القيل والقال.
“لم أقصد سوى أخذ البغل لشراء بعض الحاجيات من البلدة في الأسفل.”
كانت مجرّد جولة سريعة لإنجاز بعض المهام، لكنه لم يستبعد أن تؤدي إلى افتراضات جامحة. مثل شائعة تقول إن مُثير المتاعب، الذي هرب ثم عاد وبجواره عامّي، قد تخلّى عنه العامّي بعد يوم واحد فقط.
لكن لهذه الجولة لاستكشاف أنحاء إيل دانتي، كان لا بد أن يكون هو وفيتوريو فقط. فمع أوامر الكونت المباشرة التي تمنع ليوناردو من المغادرة، كان عليه على الأقل أن يُظهر الالتزام بها. هذا عدا عن أنّ وجوهًا كثيرة في أزقة إيل دانتي قد تتعرف على ليوناردو فورًا. ثم إنّ الملاحظات الجديدة في السيناريو أشارت إلى أنّ على الأخر أن يقوم ببعض الأمور داخل القلعة.
وبعد أن تُرك وحده، بدا ليوناردو كمن غمرته الكآبة. كان الجسر المتحرك عند حافة البحيرة هو أبعد نقطة سُمح له بالذهاب إليها، لذا رافقهما حتى تلك الحدود.
“سنعود قريبًا.”
كان لديهما حتى قدرة على التواصل، لذا لم يكونا منقطعين بالكامل عن بعضهما. كما كانت فرصة جيّدة لاختبار مدى عمل تلك القدرة. لقد جرّبها مع فيتوريو ذلك الصباح، لكن قدرة <العاشقان السريان>، تلك القدرة الفريدة، هي وحدها القادرة على إنشاء اتصال بينه وبين ليوناردو.
ولم يكن ينبغي أن يكون لها أي قيود على المدى.
‘سأعود.’
همس بخفة عبر رابط الاتصال بينهما، فانفرجت أخيرًا حدّة التعبير الكئيب على وجه ليوناردو قليلًا.
「عُد سالمًا.」
وهكذا، انطلق فيتوريو وأنا في نزهتنا الصغيرة. كانت في الحقيقة مهمة استطلاعية متنكرة في هيئة جولة تسوّق، لكنّ فيتوريو بدا سعيدًا بها حقًا.
“إنها المرة الأولى لي في مدينة مختلفة.”
“وكيف تقارنها بسينسترا؟”
“رائحة البحر ليست هنا…”
سرنا في الشارع الرئيسي المزدحم، نلتقط بعض الأشياء من هنا وهناك، إلى أن انعطفنا نحو زقاق ضيّق. الجدران القريبة والمساحة الخانقة منحت المكان أجواءً مغايرة تمامًا عن السوق المفتوح—شعورًا بالعزلة عمّا حوله من المدينة. أعشاب مجففة، وجلود حيوانات صغيرة، وحليّ خشبية خُشِنت يدويًا انتظمت فوق بسطات مرتجلة، مما أضفى على المكان طابعًا ترابيًا ريفيًا.
وفجأة—
صبي نحيل، ينعطف من الجهة المقابلة، كاد أن يصطدم بنا وهو يمر.
“…..”
ولولا أن فيتوريو أمسك بمعصم الصبي فجأة، لكان اختفى بالسرعة نفسها التي ظهر بها.
“مـ ماذا؟ ما خطبك؟”
“…..”
“ما الذي تفعله؟!”
حاول الصبي النحيل أن يُفلت من فيتوريو، الذي كان أقصر منه برأس كامل، لكنه لم يستطع بسهولة. لم يقل فيتوريو كلمة واحدة، بل ظلّ يحدّق بالصبي بنظرة ثابتة ذات مغزى. كان صمته وحده كافيًا ليوضح مقصده بلا لبس.
ولم يكن من الصعب فهم الموقف، فمددت يدي ببساطة.
“…هفف.”
“هذا صحيح.”
ولعله أدرك أنه لن ينجو بالمراوغة، فأعاد النشّال المحفظة مطيعاً. حينها فقط ترك فيتوريو كمّه.
“انتظر لحظة.”
[جارٍ الوصول إلى معلومات الكيان المحدد.]
[جارٍ عرض المعلومات.]
الرتبة – إضافي (وزن السيناريو 4.00%)
الدور – النشّال رقم 1
النص – [فتى شوارع من أزقة إيل دانتي. يعيل إخوته من خلال النشل لكسب لقمة العيش.]
[يكثر من التجوّل قرب أوكار القمار لكنه يُطرد دائمًا، وليس مقامرًا.]
الحوارات – لا يوجد
“هل تودّ التحدّث قليلًا، إن لم يكن لديك مانع؟”
وبينما حاول الصبي الانسلال سريعًا والهرب، قمت بفكّ رباط كيس نقودي بخفّة. وبدلًا من النقود الفضية، كان بداخله حفنة من الفواكه المجففة—أشياء اشتريتها للتو من السوق.
كنت أتوقع حدوث شيء كهذا ما إن ندخل الأزقة المعزولة. تناولت قطعة وقدّمتها لفيتوريو، الذي أخذ يقضم اللبَّ الحلو المرقّط بالأبيض وهو مستمتع. ثم أمسكت بيد النشّال ووضعت فوقها حفنة من الفواكه المجففة.
رفع الصبي نظره إليّ مصدومًا، فبادلته بابتسامة هادئة.
“الأمر ليس خطيرًا أبدًا. لقد وصلت إلى هذه المدينة منذ فترة قصيرة، ولدي الكثير من الأسئلة. وبما أن طريقينا التقيا، ما رأيك أن ترشدني قليلًا؟ سأعطيك هذه الحقيبة من الفواكه المجففة كمقدّم. ما رأيك؟”
“فواكه مجففة فقط؟”
“حسنًا، يبدو أنها الأنسب لهذا المكان، أليس كذلك؟”
كانت الشمس في كبد السماء. في سوق عادي، يكون الباعة منشغلين للغاية، يرفعون أصواتهم لجذب الزبائن. لكن هذا الشارع كان يسوده صمت غريب، أشبه بساحة معركة مهجورة. لا جلبة، بل جو كئيب يخيّم في الهواء. بين حين وآخر، كنت أرى أشخاصًا جاثين على الأرض، منطوين على أنفسهم في يأسٍ خالٍ من أي شيء.
كانوا ملتفّين بقطع قماش رقيقة، يرمقون كيس النقود بنظرات متعبة، ثم يصرفون أبصارهم حين يدركون أنه لا يحتوي مالًا بل فاكهة. لافتة تهتز في الريح في نهاية الطريق، ومبانٍ مصطفّة على الجانبين، نوافذها مُغلقة بألواح خشبية، وكأنها لا تُضاء إلا ليلًا—دكاكين رهن وحانات.
انتزع النشّال الكيس وسأل:
“ما الذي تريد معرفته؟”
“وكر القمار.”
في وضح النهار، كان الشارع يعجّ بأولئك الجاثمين كجنود مهزومين. يظنون أن الحظ والاحتمالات ستنقلب لصالحهم، يتجرّأون على المحاولة، ثم يفشلون فشلًا ذريعًا، فيجلسون كالأشباح ينتظرون الجولة التالية من اللعبة.