في رواق المستشفى، كان السكرتير تشين يتحدث بخفوت مع عدد من الأطباء المشرفين على حالة يي مان
قال السكرتير تشين شيئًا ما، فهزّ الطبيب رأسه نافيًا
تجمّد تعبير السكرتير قليلًا، وبعد أن غادر الطبيب، لم يبق في الممر سوى هو وحده، التفت نحو غرفة المريض خلفه
كان الباب مغلقًا بإحكام، ومن شقّه تسلّل خيط من الضوء، الداخل كان هادئًا ساكنًا، وعلى الأرجح أنّ الفتى قد نام في هذه اللحظة
حين استُدعي على عجل، كان لا يزال مرتبكًا، لكن ما إن وصل إلى المستشفى حتى رأى رئيسه يهبط من السيارة مسرعًا وهو يحمل ذلك الفتى بين ذراعيه ويركض به بجنون، حتى ليظنّ من يراه أنّ كارثة قد وقعت
أطلق السكرتير تشين تنهيدة خفيفة
لكن لا يمكن القول إن الأمر لم يكن خطيرًا
فالفتى الكفيف قد فقد آخر خيط من الضوء كان يتمسّك به بصعوبة، صحيح أنّ الجميع كانوا يعلمون أنّ هذه اللحظة ستأتي عاجلًا أم آجلًا، واستعدّوا لها منذ زمن، إلا أنّ أحدًا لم يتوقع أن تحلّ بهذه السرعة وبهذا الشكل المفاجئ
رنّت فجأة خطوات متسارعة مضطربة، وامرأة تركض بكعبها العالي تقترب، شعرها مبعثر وأنفاسها لاهثة، أمسكت بذراع السكرتير تشين بلهفة وسألته باضطراب:
"كيف حال شياو مان الآن؟"
أسرع السكرتير تشين إلى دعمها بلباقة، وظلّ صامتًا لوهلة
فأدركت تشين فانغ روي على الفور ما يعنيه صمته، وأغمضت عينيها بقوة، وبعدها وصل ثلاثة رجال آخرون من العائلة
وعندما رأوا دموع تشين فانغ روي المنهمرة وعجزها عن السيطرة على حزنها، أدرك أبناء عائلة تشي على نحوٍ عام حقيقة الوضع
تمتم تشي جوي: "كيف حدث هذا؟"
أما تشي يان فقد بدا وجهه متجمدًا ببرود: "قبل لحظات فقط كان بخير تمامًا، كيف انقلب الحال فجأة إلى هذا؟"
قال السكرتير تشين: "أنا نفسي لست متأكدًا من التفاصيل، قال الطبيب إنّ الحالة النفسية للمريض قد تؤثر على عينيه، لعلّه تعرّض لشيء ما جعل مشاعره تضطرب بعنف في فترة قصيرة، بفرح شديد أو بحزن شديد، فانعكس ذلك على عينيه، يمكن النظر في الأمر لاحقًا، لكن الأغلب أنّ الأمل…" ثم توقف، وكأنّه يوحي بانعدام الجدوى
وحين لاحظ أنّهم ينوون دخول الغرفة لرؤيته، رفع السكرتير تشين يده ليمنعهم قائلًا: "لقد غفا الآن، والسيد شو يرافقه بالداخل، فالأفضل أن تنتظروا حتى يستيقظ، لقد نام بصعوبة بالغة"
أومأ تشي يان برأسه: "شكرًا للسيد شو ولسكرتير تشين، حين يستيقظ شياو مان، أرجو أن تخبروني"
ابتسم السكرتير تشين قليلًا وقال: "لا داعي للشكر يا سيد تشي، فهذا واجبي"
ربت تشي يانرونغ على كتف تشي يان: "ابقوا هنا قليلًا، سأذهب للتحدث مع الطبيب مرة أخرى"
قال تشي جوي وهو ينظر إلى الأرنب الصغير في كفّه ثم يتماسك: "سأذهب معك" وتبادل مع تشي يان نظرة متفاهمة، ثم لحق بأبيه للقاء الطبيب
…
وعلى سرير المرض، كان الفتى ذو الشعر الأسود نائمًا بهدوء، وعلى وجهه آثار دموع لم تجف بعد
كان تنفّسه خافتًا جدًا، لا يُسمع إلا إذا اقترب المرء منه كثيرًا، ملامحه الدقيقة كانت شاحبة إلى حدّ يكاد يكون شفافًا، ومظهره هذا وحده كان كافيًا ليُوجِع القلب
ومع ذلك، لم يكن كعادته يشدّ حاجبيه حتى في أحلامه
لقد غفا بسلام، وفي ملامحه بدا شيء من الاسترخاء والإرهاق، أشبه بمتسوّلٍ للراحة ظلّ يجوب العواصف والثلوج وحيدًا زمنًا طويلًا، ثم وجد أخيرًا كوخًا في ليلة مثلجة تشتعل فيه نار المدفأة، فألقى عن كاهله كل القلق والأثقال، وغرق في نوم وادع مطمئن
لا يُعرف ما الذي رآه في حلمه، غير أنّ ابتسامة طفيفة بالكاد تُلحظ ارتسمت على طرف شفتيه، مجرد انحناءة صغيرة كافية لتجعل أنفاسه تفوح بعذوبةٍ حلوة
إلى جوار السرير، كان الرجل قابضًا على يده، جبهته ملتصقة براحة كفّ الفتى
خيّم الصمت على غرفة المرضى
رفع شو هويتينغ رأسه، وبدا أكثر هدوءًا من أي وقت مضى
قال بصوت مبحوح إلى الفراغ:
"أيها النظام، إن كنت موجودًا حقًا، أيمكنك أن تظهر وتجيبني؟"
لم يكن هناك أي رد
شعر شو هويتينغ أنّه ربما صار مجنونًا
لكنه استمرّ يتحدث مع الفراغ بوجهٍ ساكن:
"يمكنني أن أنجز عنك المهام، إن كنت تراقب دائمًا فأنت تدرك أنّني أقدر منه على الأداء، أي مهمة كانت، ومهما كان عددها، واحدة أو اثنتين، ثلاثة أو عشرة، مئة… أستطيع القيام بها، وإن كنت تريد شيئًا آخر، أي شيء، أستطيع أن أقدمه لك، وحتى إن لم يكن بحوزتي، فسأسعى إلى كسبه أو ابتكاره أو الحصول عليه، فقط اطلب"
لكن الصمت ظلّ سيّد الموقف
احمرّت عيناه، وقال بألم:
"أيها النظام، إن كنت موجودًا، فقط اظهر وأخبرني، ماذا عليّ أن أفعل لأجعل عينيه تتعافيان؟ قل فقط، وأنا سأفعل كل شيء…"
لم يعرف أحد مقدار تمزّق قلبه حين سمع يي مان يبكي ويقول: "الظلام حالك" كأن قلبه نفسه قد انتُزع من صدره بقسوة
خفض رأسه ثانية، وانهمرت دموعه قطراتٍ تتساقط فوق اليد التي كان يقبض عليها
…
رنّ هاتف موضوع إلى جانبه بإشعار قصير، ثم أضاءت شاشته
وخرج منها صوت آلي بلا أي انفعال:
"موجود"
رفع شو هويتينغ رأسه مدهوشًا، وحدّق في الهاتف على الطاولة
قال متردّدًا:
"النظام"
…
"موجود"
حدّق بالهاتف العادي الذي بدا بلا أي ميزة، وللحظة ظنّ أنّه قد فقد عقله بالفعل
لكن، وعلى خلاف ما ظنّ، جاء صوته هادئًا بشكل غريب:
"هل تملك وسيلة لمساعدته في استبدال عينيه؟"
"… لا، النقاط غير كافية"
"سأكسبها بدلاً عنه"
"العدد هائل، لا يمكن جمعه"
كان صوت النظام رتيبًا هادئًا، بينما كان في داخله يختنق من العجز
لقد سبق أن وعد بمساعدته على التظاهر بالموت بعد انتهاء المهمة ومنحه المال، وهذه أمور لم تكن سهلة أصلًا، لكنها تُحسب ضمن مكافآت إنجاز المهمة، أي كنوع من "التغطية الرسمية" أما استبدال العينين، فهو أمر آخر، مكافأة إضافية خارج إطار المهام، ويستلزم "دفعًا شخصيًا"
والفرق بين التعويض الرسمي والتكلفة الذاتية فرق شاسع
اطّلع النظام على تكلفة استبدال عينين للمستضيف… وبالنسبة له، وقد صار الآن معدمًا، كان ذلك رقمًا فلكيًا، حتى لو أنجز عشر مهام متتالية فلن يكفي
وربما في السابق كان ممكنًا، لكن كل رصيده قد استُهلك بالفعل في المرة الأخيرة، أما ما جمعه مؤخرًا فزهيد، حتى إن تمّ إنجاز مهمة تشي جوي، فلن تكفي النقاط، ولا تزال الفجوة كبيرة جدًا
غرق جو الغرفة مرة أخرى في صمت ثقيل
حتى النظام نفسه شعر بالأسى والحزن
(شياو مان… عذرًا…)
قال شو هويتينغ:
"إذن… إن لم تكن عينين جديدتين، فماذا لو أعطيته إحدى عينيّ؟ هل يمكن إجراء مثل هذه العملية؟ هل النقاط المطلوبة ستكون أقل؟"
أُصيب النظام بالذهول، وطلب منه أن يكرر كلامه
فأجابه شو هويتينغ بهدوء:
"أعطه إحدى عينيّ"
ساد صمت قصير، ثم جاء الصوت الاصطناعي:
"هل تدرك ما الذي يعنيه ذلك؟"
رفع شو هويتينغ يد الفتى من على السرير، وأخذ يداعبها بوجهه بشوقٍ وحنان، ثم همس:
"أدرك، لا بأس… يمكننا أن نتشارك عينين معًا"
وفوق ذلك، فإن خسارته لعين واحدة فقط لن تمنعه من الاستمرار في رعايته، بل لا يترتب على الأمر إلا الفائدة، فلا ضرر فيه البتة، وهذا لا يستحق أي تردّد
"……"
"انتظر قليلًا"
ذهب النظام ليتحقق من النقاط المطلوبة لإجراء هذه العملية
واتضح أنّ استبدال عينٍ بصرية من شخص آخر بالفعل يحتاج إلى نقاط أقل بكثير من استحداث زوج جديد تمامًا، فوجود عين جاهزة يسهّل الأمر كثيرًا
صحيح أنّ الكلفة لا تزال أعلى من رصيد النقاط الحالي، لكنها باتت في حدود ما يمكنهم الحصول عليه بالجد والاجتهاد، فلو أُنجزت مهمة تشي جوي ربما يكفي الأمر
أنهى النظام حسابه بسرعة، ثم ردّ: "ممكن"
عندما وجد الحل، مدّ شو هويتينغ يده ليمسح وجه الفتى الراقد على السرير، وأزاح خصلة شعر عن وجنته، ثم قال:
"شكرًا لك، إذن فليكن الأمر كذلك، أعطيه عينًا من عيني"
"……حقًا؟" فجأة انبعث صوت من الفتى الذي كان يفترض أنه غارق في النوم
لم يفتح عينيه، وكأنّ كلماته خرجت همسًا من بين شفتين نائمتين
حبس شو هويتينغ أنفاسه
وبعد لحظات، كان الفتى ما يزال مستغرقًا في هدوء نومه
لكن، وفي اللحظة التي ظنّ فيها أنه توهّم، شعر بدفء يلامس ظهر يده
رفع رأسه، فإذا بالفتى على السرير يضع يده فوق يده التي كانت تمسح وجهه، ثم راح يداعبها بخده
تحرك الغطاء بخفة، ثم استدار الفتى ليستلقي مواجهًا له، قبض على يديه بكلتا يديه، ووضعهما تحت وجهه كوسادة، وبعدها فتح عينيه اللتين غشيهما ظلام كامل
شدّ شو هويتينغ الغطاء الذي انزلق عليه قليلًا وقال:
"هل أيقظتك؟"
هزّ يي مان رأسه: "لقد استيقظتُ، ما الوقت الآن؟ هل لم ترتح حتى الآن؟"
"إنها الثانية بعد منتصف الليل، لا يزال أمامنا وقت طويل حتى الفجر" أجاب شو هويتينغ بهدوء، "يمكنك أن تنام قليلًا بعد، وحين تستيقظ نعود معًا إلى البيت"
النظام: (أيها المستضيف! خبر رائع! عيناك يمكن إنقاذهما، هذا الجدّ الحيّ عندك قال إنه سيعطيك عينًا من عينيه، وما علينا إلا أن…)
"نعم، لقد سمعتُ"
تراجع يي مان قليلًا إلى الوراء، ورفع الغطاء قائلاً: "هل تريد أن تستلقي بجانبي أيضًا؟"
انتظر قليلاً، ثم تمدد شو هويتينغ إلى جانبه ومدّ يده ليحضنه في صدره
كان يعانق من يحبه دائمًا بقوة، حتى يكاد يخنقه، كأنه يريد أن يذوبه داخل حضنه
لكن يي مان كان يحب ذلك
فهو أيضًا شخص شديد التعلّق
قال يي مان: "لقد سمعت ما قلتَه، قلت إنك تريد أن تبدّل عيني"
داعبه شو هويتينغ بذقنه وقال: "إنها مجرد عين واحدة، ليست مشكلة كبيرة، لا تقلق، لن يؤثر ذلك على أي شيء"
قال يي مان وهو يقبّله: "حين أسمعك تقول ذلك، لا أنكر أنني متأثر، لكن لا أريد ذلك"
شدّ شو هويتينغ ذراعه حوله أكثر: "أنا حقًا لا بأس عندي…"
قال يي مان وهو يضغط على صدره: "أما أنا فلي شأن، عندما يحب المرء شخصًا، يرغب أن يعطيه كل ما هو أفضل، ويريد له حياة أجمل، أليس هذا ما علمتني إياه؟ بالطبع أريد أن تكون بخير أيضًا" ثم تنهد وقال بجدية: "ألا تعتقد أنني لا أحبك بما فيه الكفاية؟"
أجاب شو هويتينغ بسرعة: "بالطبع لا"
رفع يي مان ذقنه بفخر وقلّد صوته قائلًا: "حبيبك مجرد أعمى، لكنه مميز جدًا في كل شيء آخر، شخص رائع ومتميز"
"إنه وسيم، وإن فاتك، فلن تجد أجمل منه في حياتك، يعرف كيف يصنع أرنبة ووردة، ويستطيع طي أشياء كثيرة، إنه محبوب من الجميع، كنز الجميع" قال ذلك بابتسامة ساخرة: "أنت لا تعرف كم من الناس يحبونه!"
"ورغم أنه لم يقرأ كثيرًا من الكتب، إلا أن تعلمه سريع وذكي، لذلك حتى وإن كان أعمى، سيكون الأذكى والأجمل بين كل العميان، وسيتقن المهارات بسرعة"
منذ أن أصيبت عيناه، ظل يي مان يتظاهر بأن الأمر ليس مهمًا، كان يتحدث بخفة، ويواجه الصعوبات وكأنها لا تغير شيئًا، يعيش ويفكر ويتصرف كما لو أنه لم يفقد بصره
كان "ينسى" أخذ عصا العميان، ويعتمد على ما تبقى من بصره الضئيل ليعيش بحماقة، كان يخدع الجميع بأنه بخير
لكنه كان خائفًا من الاعتراف بأنه أصبح أعمى فعلاً، وكأن رفضه لهذا الواقع يجعله غير موجود
فجأة فقد بصره، ولم يكن يعرف كيف سيعيش مستقبله، شعر ببعض الضياع
لكن الآن لم يعد كذلك
رمش بعينيه، فلم يرَ سوى ظلام كامل، حتى بقعة الضوء الصغيرة التي كان يعرفها اختفت
قال يي مان وهو يبتسم له: "سواء أفتح عيني أم أغلقهما، فالنتيجة واحدة: الظلام، قد يبدو هذا مخيفًا، لكنني الآن لا أشعر بأي خوف، ستظل معي، أليس كذلك؟"
أجاب: "ليس أنت فقط، بل أبي وأمي، وأخي الكبير وأخي الثاني، وعمة لي، وعمتي وانغ … والجدة لو" عدّهم واحدًا واحدًا ثم تنهد: "آه، كم هم كثر، وأنا شخص واحد فقط، كيف سأوزع نفسي بينهم؟"
أخفاه شو هويتينغ أكثر في حضنه وقال بشفاه مطبقة: "أنت لي"
كانت نبرته الجادة والمليئة بالغيرة واليقظة تجعل يي مان يدفن وجهه في صدره ويضحك بصوت خافت
ضحك يي مان، بينما شعر شو هويتينغ بألم في قلبه: "العينان…"
كان النظام متصلًا بكيان يي مان، ومن الصعب أن يتخطاه ويتخذ قرارًا منفردًا
قال يي مان بحزم: "لن أبدّل عيني، ونتفق من الآن: لا يمكنك أن تخفي عني أي قرار يخصنا نحن الاثنين، كن صريحًا وواضحًا، هل تسمع؟"
أجاب شو هويتينغ: "نعم" وهو يقبّله مرارًا بينما يحتضنه: "كل ما تريد"
لكن تعابير شو هويتينغ ما زالت تظهر أنه لم يتخل عن فكرة استبدال عينيه
ذلك الانخفاض في نظره بدا وكأنه يفكر في قرار داخلي
رأى النظام ما بينهما، فعض على "نفسه" وقال: "أيها المستضيف، انتظر، سأغيب قليلًا وأعود سريعًا"
قال يي مان بقلق: "أخي تونغ؟ إلى أين ستذهب؟"
أجاب النظام: "سأفكر في طريقة أخرى لأرى إن كانت عيناك ما زالت قابلة للإنقاذ!"
توتر يي مان فورًا وقال: "لا تتسرّع! إن كان الثمن فقدانك، فأنا أفضل أن أبقى أعمى!"
قال النظام: "لا تقلق، سأجرب فقط، ومهما حدث سأعود إليك، فقط انتظر!"
ثم خيّم الصمت، ولم يعد النظام يجيب مهما نادى يي مان