🦋



استغرق شو هويتينغ بعض الوقت ليفهم طريقة تفكير يي مان 


أصابه الدهشة لوهلة، لكنه سرعان ما ابتسم دون أن يشعر 


كان يجلس أمام الفتى منحنياً، وعيناه تحدقان فيه بتركيز، بينما يقترب منه الفتى مائلًا نحوه، ولجعل يي مان ينام براحة، أضاءت غرفة المعيشة بمصباح أرضي خافت، حيث رسم الضوء الناعم ملامح الفتى الجميلة بدقة 


ربما كان الأمر بسبب جديته أثناء الكلام، خطرت في ذهن شو هويتينغ فكرة بلا مبالاة 


لكن شيئًا ما جعله أيضًا يركز بجدية فيما يقول، ويعيد الكلمات في قلبه كلمة كلمة، حتى شعر أن أوتار قلبه تُثار أكثر فأكثر 


وبإصبعه نقر جبهة يي مان برفق، وفي صوت "آيّو" المشتكي من الطرف الآخر، قال: 

"حتى لو جاء يوم وأصبحت مفلسًا حقًا، فلدي وسائل كثيرة لكسب المال لأعتني بك، خزانتك الصغيرة احتفظ بها لنفسك" 


رغم ذلك، استلم شو هويتينغ مفتاحه من الطرف الآخر، ووضعه بعناية في صدره 


فحين استلم مفتاحه، بدا يي مان مبتهجًا وفخورًا بطريقة طريفة، وبالطبع، كان السبب الأكبر هو أن هذا تعبير عن مشاعره الصادقة 


قال يي مان إنه لن يتخلى عنه مهما كانت الظروف 


كان واضحًا أنه يحبه حبًا عميقًا 


وكان فعلاً شخصًا رائعًا 


أوشك قلب شو هويتينغ أن يذوب من شدة الحب، فلم يتمالك نفسه وأمسك بيد يي مان الموضوعة على ركبته، وانحنى وقبّل كف يده بمحبة: "Tesoro mio" 


*بالايطالية تعني كنزي الثمين أو حبيبي الغالي 


لا يعلم من أين استنتج يي مان أن عقله متعلق بالحب فقط… فهو ليس حفيده الأحمق، الذي يتصرف دون أن يحرك دماغه الصدئة منذ ملايين السنين، شو هويتينغ دائمًا يتخذ قراراته بعقلانية واضحة 


هو فقط بعد تفكير واعٍ قرر أن يحب شخصًا ما، هو فقط أحبه جدًا، فكيف يمكن أن يُسمّى هذا عقلًا متعلقًا بالحب؟ 


لكن قول يي مان ذلك كان أيضًا تعبيرًا عن حبه له 


لذلك قرر شو هويتينغ تجاهل أسلوبه الطفولي في التعبير عن المشاعر 


قال يي مان: "تاي…؟" 


أجابه شو هويتينغ مقسّمًا اللفظ: "Te…so…ro…" يعلمّه نطق كل مقطع على حدة 


قال يي مان: "Teso…ro؟" 


قال شو هويتينغ: "نعم، كرّر مرة أخرى" 


قال يي مان: "Tesoro… هم؟" 


ثم دُقّت أصابعه على وجهه، فسمع شو هويتينغ يضحك ويجيب 


وبينما كان على وشك السؤال عن معنى ذلك، سُمعت خطوات متعمدة من مدخل الدرج، فجلس يي مان متوترًا مستقيمًا 


النظام: "ماذا تفعل خلسة؟ أنت في علاقة حب، وليس في علاقة سرية" 


أدرك يي مان فجأة: "…أجل" 


النظام: "وما زلت تمانع؟" 


يي مان: "هم… ليسوا يعلمون بعد، لا أدري كيف أقول…" 


هذا العيب لم يختفِ بسرعة، فهو معتاد على التفكير في كل الاحتمالات، دائمًا يشعر بالقلق حيال الكثير من الأمور، ما يجعله مترددًا وخائفًا أحيانًا 


لكن جدّه الحي لم يضغط عليه أبدًا 


شعر يي مان أن جدّه الحي كان يرافقه بصبر، ينتظر منه بهدوء، دون أن يغضب أبدًا من إخفائهما للأمر عن الآخرين 


لم يستطع إلا أن يتمسك بطرف ثياب شو هويتينغ اعتمادًا عليه 


بعد أن خلت خطوات الدرج لفترة، نزل أحدهم 


قال تشي يان بابتسامة مصطنعة: "لقد أشرقت الشمس، الأخ الأكبر قال إنه سيأخذنا جميعًا للتنزّه" 


في الحقيقة، كان القصد أن يدعو يي مان معه، وتشي يان سيقود السيارة لأخذهما إلى المدينة للتجول، خارج المدينة هو موطن الدببة القطبية، ومع أنه يمكن استئجار دليل من المدينة، وهناك أيضًا محلات أسلحة في المدينة يمكنهم من خلالها حمل الأسلحة خارج المدينة، إلا أنه من الأفضل عدم الاقتراب كثيرًا، لون الدب القطبي يجعل يي مان غير قادر على رؤيته بوضوح، وإذا حدث هجوم من دب قطبي، فقد يخطئ من لا يستخدم السلاح باستمرار المخاطرة كبيرة، ورأى تشي يان أن التجول داخل المدينة يكفي 


كان بينهم بالفعل من يُجيد استعمال السلاح، وله خبرة قتالية غير قليلة، وردّة فعله في المواقف المفاجئة لا يُستهان بها، غير أنّ تشي يان لم يُرِد أن يأخذه معه 


أمّا تشي جوي فكان أكثر دبلوماسية من أخيه، فلطّف كلامه عند نقله 


وقبل الخروج كان لا بدّ من بعض التحضيرات، فذهب يي مان ليبدّل ثيابه فارتدى ملابس أثخن، وفوقها معطفًا طويلًا من الريش 


وحين وصل إلى الباب ليجتمع بالبقية، كان شو هويتينغ قد سبقه ووقف هناك ينتظره، ثم لحق بهم تشي يان وتشي جوي ومينغ ياو، كان تشي جوي يخطّط لإيجاد عذر يُبعد شو هويتينغ ومينغ ياو معًا، حتى ينفرد هو وأخوه بالفرصة لأخذ شياو مان وحدهما، وليدعُ ذلك "شو" وذلك "مينغ" يتدبّران أمرهما معًا 


لكن قبل أن ينطق بكلمة، بادر شو هويتينغ قائلاً: 

"شياو مان، أين وشاحك؟" 


تحسّس يي مان عنقه مجيبًا: 

"تركته في الغرفة، لا داعي لأخذه، سأبقى هكذا" 


قطّب تشي يان حاجبيه وحدّق به نظرة معاتبة: 

"الريح بالخارج شديدة، انتظرني، سأُحضره لك" 


ومع أنّ تشي يان وتشي جوي اكتفيا بارتداء معطف الريش دون قُفّازات ولا قبّعة ولا وشاح، إلّا أنّ تشي يان كان مُصرًّا على أن يُلفّ يي مان جيدًا 


فقد تركت حادثة خروجه سابقًا في "تشونغهاي" وهو في غاية السرور ليركب البحر ثم مرضه لأيام طويلة بعدها أثرًا عميقًا في نفسيهما 


ومنذ ذلك الوقت، بات الاثنان يخشيان أن يغفل أحدهما عنه فيُرهقه المرض مجددًا، وجسده الضئيل لا يقوى على مثل هذه المعاناة 


أومأ تشي يان بعينيه إلى تشي جوي ليبقى يراقب، ثم استدار وصعد الدرج 


كان شياو مان يحب التعلّق بشو هويتينغ، ولم يُرِد تشي يان أن يُفسد سعادته، إذ خرجوا للمرح واللهو، فلم يُشدد في منع تلاقيهما، لكنّه لم يستطع أيضًا أن يُهمل الأمر كليًّا، كان قلقه كامنًا في صدره، فظل يراقبهما من بعيد، وإن لم يستطع بنفسه فليتولّ تشي جوي مراقبتهما 


وما إن غادر تشي يان، حتى أخذ شو هويتينغ يُعدّل ياقة يي مان بملامح هادئة، ثم همس فجأة بصوت منخفض: 

"تشبّث بعنقي" 


فامتثل يي مان دون وعي لما قاله 


وإذا بجسده يرتفع في الهواء فجأة 


فتحت عينا تشي جوي ومينغ ياو على اتساعهما، وتدلّت أفواههما في ذهول، يكاد الكلام يتقطع من ألسنتهما 


إذ شدّ شو هويتينغ ذراعه حول خصر يي مان، وهزّه قليلًا ليثبته، ثم في لمح البصر ـ وأمام أنظار الجميع، حتى يي مان نفسه المصدوم ـ رفعه وانطلق به هاربًا بسرعة البرق 


تعلّق يي مان بعنقه بإحكام، وبفعل الارتفاع أحاطت ساقاه خصر شو هويتينغ غريزيًّا لئلّا يسقط، بينما صفير الريح يجلجل في أذنيه، لم يسمع سوى دقات قلب شو هويتينغ وأنفاسه، فيما أخذ صوت تشي جوي يتلاشى تدريجيًّا خلفه 


مدّ تشي جوي يده مرتبكًا: 

"انتـ…" ولم يُكمل الكلمة، إذ كان الاثنان قد اختفيا عن الأنظار 


وظل يحدّق مذهولًا بذلك الرجل الذي خطف أخاه كما لو كان لصًّا، ثم توارى به في ظلمة الليل 


ولم يبقَ خلفهما سوى صدى جملة لم تكد تتبدّد في الهواء: 

"ذهبنا في موعد، سنعود لاحقًا" 


بل إنّه وهو يحمل جسدًا حيًّا بين ذراعيه، قفز بيد واحدة فوق الجدار! 


فأصاب الذهول الشديد الشابين الباقيين، وزلزل عالمهما 


ارتجفت شفتا تشي جوي قائلًا: 

"كيف يستطيع أن… كيف يجرؤ أن…" 


أما مينغ ياو فاكتفى بالصمت، ثم التفت قائلًا: 

"دعني أشرح لك، فليس كل أهل بيتنا مثله!" 


دقّ قلبه بمرارة في داخله 


يا عمي الصغير، ألا تستطيع التظاهر أكثر قليلًا! لقد ورّطتنا 


"لكن لا تقلق، فهو حتمًا سيعيد أخاكم إليكم سالمًا" حاول مينغ ياو إنقاذ الصورة المتحطّمة بشتى الطرق 


فقد كانوا جميعًا قد لاحظوا خلال هذه الأيام طريقة تعاملهما معًا، وكل من له عينان رأى شيئًا، فضلًا عن أنّ مينغ ياو وتشي جوي قد تبعا الأمر سرًّا، ويعلمان كل شيء، أليس موعدًا غراميًّا فحسب؟ 


صوت خطوات تشي يان صعد من الطابق العلوي، فتجمّد جسد تشي جوي أكثر 


وفجأة سمع مينغ ياو تشي جوي يقول له: "لنركض نحن أيضًا" 


مينغ ياو: "! حقًّا؟!" 


ولم يقل تشي جوي كلمة أخرى، بل انطلق يركض 


وحين نزل تشي يان وهو يحمل وشاحًا، لم يجد أمامه سوى مدخل الفيلا الخالي 


كان الباب مفتوحًا، والريح الباردة تعصف داخله 


تشي يان: "…" 


تشي يان: "هاها" 


صدغاه يخفقان غضبًا 


أصلهما كانا أخوين مطيعين، أمّا الآن فقد أُفسدا تمامًا 


بالفعل رائعون 


جلس على حافة الأريكة، والتقط الصحيفة الموضوعة على الطاولة، وراح يقلّب صفحاتها بلا أي تعبير 


"العبوا كما شئتم، وحين تشبعون لهوًا لا بد أن تعودوا إلى البيت، وعندها سأحاسب هذه المجموعة المزعجة حسابًا وافيًا" 


… 


مدينة لونغيير صغيرة جدًّا، يمكن الوصول إلى معظم أماكنها مشيًا على الأقدام، مخزن البذور بعيد قليلًا، لكن ليس كثيرًا 


وما إن خرج شو هويتينغ من الفيلا وركضوا قليلًا، حتى غيّر وضعيّته، فبدل أن يحمل يي مان من الأمام، رفعه أفقيًّا بين ذراعيه 


فلم يستطع يي مان، وهو محمول هكذا، أن يمنع نفسه من سؤاله: "ألست متعبًا؟ أستطيع النزول والمشي وحدي" 


هزّه شو هويتينغ قليلًا في حضنه وقال: "لست متعبًا، هكذا أريح، أنت فقط أمسك بعصا المكفوفين جيدًا" 


وكانت العصا مزوّدة بحلقة، بحيث يمكن تقصيرها إلى طول الساعد وتعليقها بالمعصم، قبل قليل كان يي مان قد علّقها بيده وهو متشبّث بشو هويتينغ، أمّا الآن فقد ضمّها إلى صدره 


ورغم أنّ السماء قد صفَت، إلا أنّ عواصف الرياح القطبيّة ما زالت شديدة، فخبّأ يي مان وجهه في صدر شو هويتينغ ليحتمي من الريح 


مدينة لونغيير وقد دخلت ليلها القطبي بدت مرعبة في نظره، فالعالم كلّه غارق في ظلمة حالكة، لا يُميّز فيها المرء الشرق من الغرب، والطرقات مغطاة بالثلوج فلا سبيل لإيجاد المسار، فضلًا عن دروب المكفوفين، مجرّد التفكير في ذلك كان مرعبًا 


لذلك لم يكن يي مان راغبًا كثيرًا في النزول والمشي، لكنّ حمله هكذا طوال الوقت جعله يشعر بالحرج 


فاقترب أكثر من حضن شو هويتينغ 


فهذا وحده ما يسكّن خوفه، وما يمنحه الطمأنينة 


"حين نعود بعد قليل، سأساعدك في التحدث مع أخي الأكبر، فلا تخف" 


كان شو هويتينغ قد خطفه وجرى به بعيداً، ومع ذلك كان المخطوف في هذه اللحظة هو من يواسيه، ويخبره ألّا يخاف 


مع أنّ شو هويتينغ لم يكن قلقاً بشأن ذلك أصلاً، فأسوأ ما قد يحدث هو أن يترك نفسه لأخيه الأكبر يضربه ضربتين ليفرغ غضبه، إذ من ذا الذي يجرؤ على خطف أخيه علناً؟! فليضربه وليشتمه كما يشاء، وهو سيقبل ذلك، بل وسيجرؤ على تكراره لاحقاً، غير أنّه في تلك اللحظة فُتن ببراءة الذي بين ذراعيه 


والأطرف أنّ ذاك الآخر أخذ يعلّمه بنبرة سرية أشبه باللصوص كيف يلفق العذر مسبقاً: "قل فقط إنني أنا من طلبت منك أن تخرجني، فإذا غضب أخي فسوف يوبّخني أنا" ثم حرك رأسه في صدره بسعادة، وقال بفخر: "لكن أخي لا يوبّخني" 


هكذا، فلن يُعاقب أيٌّ منهما، يا لها من حيلة ذكية! 


أما تشي جوي، فكيف له أن يجرؤ على الغضب منه؟ وهل لا يزال يطمع في عيشٍ مريح في الأيام القادمة؟ 


ارتج صدر شو هويتينغ باهتزاز مكتوم من الضحك، وقال وهو يكتم ابتسامته: "إذن كل شيء يعتمد عليك، عليك أن تحميني" 


فأجابه يي مان: "لا تقلق" 


"...لكن عليك إذن أن تدعني أضمك أكثر" 


وهنا تجلّى قصده الخفي 


فقط لأجل أن يجد من يتوسّط له عند العودة، لم يجد شو هويتينغ بُداً من أن يحتضنه بإحكام أكبر 


ثم توقف عند متجر، فوضعه أرضاً، ودخل ليشتري له وشاحاً جديداً ربطه حول عنقه، وبعدها ذهب يستأجر سيارة من أحد السكان المحليين 


في البداية تردّد الرجل في التأجير، لكن أمام سطوة المال لم يلبث أن سلّم المفاتيح بسرور، بل وعرض عليهم بحماسة أن يكون دليلاً لهما 


إلّا أنّ شو هويتينغ كان قد أعدّ العدة مسبقاً، والمكان المقصود لم يكن بعيداً، والطريق مستقيم، فاكتفى برفض العرض 


وبينما كان شو هويتينغ يصف له مكان مستودع البذور، بدأ الحماس يلمع في عيني يي مان طوال الطريق 


توقّفت السيارة في موضع مناسب للمشاهدة، ونزلا منها معاً 


وما إن أضاءت خضرة باهرة تنبض بالحياة في قلب الظلام، حتى اندفعت في صدر يي مان مشاعر جياشة غامرة، بالنسبة إليه، كان ذلك أشبه بالشعاع الوحيد الذي يضيء عالمه الغارق في ظلام القيامة، وكان شو هويتينغ هو من ساقه نحو ذلك النور 


ظل يي مان مأخوذاً بالمشهد، غير دارٍ بأنّ الرجل الذي بجواره يستند إلى السيارة، يحدّق بلا انقطاع في ملامح وجهه الجانبية 

هل وجدت خطأ؟ قم بالإبلاغ الآن
التعليقات

التعليقات [0]