🦋


ما إن عبر هذا الخاطر ذهنه حتى تكسّرت نظرات شو هويتينغ إلى شظايا لا تُحصى قبل أن تومض عينا الآخر 


حاول أن يتمالك نفسه، غير أنّ أنفاسه اضطربت بلا سيطرة 


حيث لامست الأصابع جسده، شعر بألم خفيف، ليس حادًّا بل متباطئًا، يتغلغل ببطء في العمق 


حدّق فيه مليًّا، متأمّلًا ملامح يي مان المركّزة وهو يلمسه، دون أن يرمش لحظة واحدة 


تأمّل عينيه المحمرّتين، وشفتيه الملطّختين بالحمرة، منقشًا كلّ ذلك عميقًا في ذاكرته 


ارتجفت يدا شو هويتينغ وهو يفكّ أزرار معطفه 


كانَت ساعة يي مان قد انزلقت على طريق الجبل، جرفها المطر، ودفعها العابرون بأقدامهم، وربّما ساعدتها الحيوانات أيضًا حتى تدحرجت إلى وادٍ أعمق، وكان شو هويتينغ رشيقًا قويًّا، لذا حتى لو سقطت الساعة في موضع وعر، لم يكن انتشالها أمرًا صعبًا عليه 


بعد نظرة سريعة، اختار منحدرًا لطيفًا وانزلق إلى الأسفل، ثم تسلّق مجددًا متشبّثًا بجذور الأشجار، لكن المطر جعل الأرض رخوة وزلقة، فاحتاج إلى عدة محاولات ليصعد، قاطعًا بعض الجذور في الطريق، وأخيرًا، عثر على جذر ثابت مكّنه من الصعود، ولأجل ذلك، وللوقت الذي قضاه في التفتيش في الظلام، تأخر وعاد بعد الموعد المقرّر 


بعد أن صعد ونزل، غطّاه الطين من رأسه حتى قدميه، صار معطفه وحذاؤه وسرواله في حالة يرثى لها، حتى إنّ أيّ شخص يراه سيُذهل 


لكنّه لم يُبالِ كثيرًا، شعره المبلّل بمياه المطر مسحه عرضًا بيده وهو في الطريق 


والآن كان يندم بشدّة 


فقد مدّ يي مان، بعد أن لمس وجهه، يده ليمسّ شعره 


وكانت هذه الهيئة أبعد ما تكون عن الوسامة، ولم يرغب أن يكون انطباعه الأول عنه بمظهرٍ شعثٍ مبعثر 


"شياو مان" 


سمع يي مان الصوت المبحوح يناديه، وفي اللحظة التالية، كان غارقًا في حضن دافئ 


فتح شو هويتينغ معطفه ولفّه به 


وعلى الرغم من أنّ الخارج مبتلّ متّسخ، فإنّ الداخل كان لا يزال دافئًا نظيفًا 


جسد يي مان المبتلّ التصق بشدّة إلى صدره، جسده المتصلّب المرتجف أخذ يلين رويدًا بين ذراعيه، فشدّ شو هويتينغ المعطف، يطوّقه عبر طبقته الخارجية 


وفجأة اختفى صوت الريح والمطر 


انعزل يي مان في مساحة صغيرة، لا يسمع فيها سوى دقّات القلب 


وعندها فقط بدا وكأنّه يتراخى من حالته المتوتّرة، وأصابعه على صدر شو هويتينغ تنقبض، مشدودة على ثيابه 


لم يستطع عقل يي مان أن يفكّر كثيرًا، ولا أن يحكم إن كان هذا تجاوزًا للحدّ، ولا أن يفسّر معنى فعل الآخر، كلّ ما عرفه أنّه ينبغي أن يدفن نفسه في حضنه 


وبعد وهلة، خرجت أنيناته المكتومة من صدر شو هويتينغ 


ضمّه، وربّت على ظهره بلطف: 

"ألم أسترجع ساعتك؟ فلم البكاء إذن؟" 


قال ذلك، لكن يي مان لم يستطع الجواب 


فاكتفى برأسه المدفون في صدره يهتزّ بعشوائية، لا يدري ما الذي يعبّر عنه، ولم يكن شو هويتينغ ينتظر جوابًا حقًّا، بل يواسيه بخفوت 


وكان من في أحضانه هادئًا ما لم يتحرّك، فإذا تحرّك جعل قلبه يضطرب 


وبخاطره همس: 

"إن واصلت البكاء، فسوف..." 


لكن وقع أقدام مضطربة، تتبعها أصوات صاخبة من جهة الجبل، قطعت كلماته 


"أسرعوا، أسرعوا! لقد سحبناه إلى الأعلى!" 


تعاون بعض المتنزهين على حمل الرجل الذي سقط في الحفرة ونزول الجبل، وصادف حضور سيارة الإسعاف في الوقت المناسب، فسارعوا لوضعه على النقالة ونقله إلى المستشفى 


وبينما كانوا يرفعونه، كان يئنّ من الألم، متشبّثًا بأحدهم وهو يقول: 

"شكرًا لكم لإنقاذ حياتي، وشكرًا لذلك الرجل الذي ساعدني أيضًا... آه، يؤلمني كثيرًا!" 


ومع انطلاق سيارة الإسعاف به، تنفّس الجميع الصعداء 


لكن أحد المتنزهين التفت فرأى شخصًا مألوفًا يقف عند مدخل المتجر 


"مرحبًا، شكرًا لمساعدتك آنفًا، لولاك لكان لاو ليو وأنا قد انجرفنا معه، هل خدش غصنٌ عنقك؟ هل أنت بخير؟" 


وما إن اقترب أكثر، حتى أضاء نور المتجر شعر الرجل الفاتح، وحين أدار رأسه، بدت ملامحه حادّة متناسقة، وسماته عميقة بارزة 


فجأة أدرك الأمر، فضرب المتنزه على فخذه وهو يهتف: 

"انتظر، ألستَ شو... شيء تينغ، ذلك الشاب الهجين؟" 


ثم أردف على عجل: 

"اذهب وابحث عن صديقك بسرعة! لقد كان هنا للتو! لن تصدّق، لكن حين نزلنا، صادفنا شابًّا صغيرًا لم يستطع الوصول إليك، لقد كان مرتبكًا أكثر مما كنت حين فقدت زوجتي—" 


فجأة تحرّك من بين ذراعي شو هويتينغ من يضمه، وأطلّ برأسه من صدره ليلقي نظرة فوق كتفه 


"أنا؟" 


توقّف المتنزه عن الكلام 


فرك عينيه بقوة، يحكّ رأسه بحرج: 

"آسف، يبدو أنّني أخطأت" 


ابتعد بضع خطوات، ثم استدار قائلًا لشو هويتينغ: 

"اختصر الحديث، واعتنِ بالجرح، لا تدعه يلتهب" 


حينها فقط استوعب يي مان، واحمرّ وجهه خجلًا: 

"لا، ليس الأمر كما تظن—" 


لكن شو هويتينغ أعاد يي مان إلى صدره بهدوء مجيبًا: 

"شكرًا على التنبيه، نحن نعلم" 


لوّح المتنزه بيده بلا اكتراث، حمل حقيبته على ظهره، ومضى في طريقه 


… 


وبانقضاء الأمر، انصرف المتنزهون كلٌّ إلى شأنه؛ بعضهم دخل المتجر لشراء مؤن جديدة، وآخرون عادوا بالسيارة إلى منازلهم، وتفرّقوا جميعًا ليتابعوا أمورهم 


أما موظفو المتجر، فقد بذلوا جهدهم لمساعدة هذه المجموعة التي مرّت بظروف صعبة 


جلس يي مان وشو هويتينغ على المقعد قرب المدخل، وصندوق الإسعافات الأولية مفتوح على الطاولة 


"تفضلا، اشربا شيئًا ساخنًا" قالت فتاة المحاسبة وهي تحمل كوبين من الشاي الساخن، تناول شو هويتينغ الكوبين وشكرها 


كان يي مان يمسك عودًا قطنيًّا مغموسًا بالمطهّر، ينحني نحو شو هويتينغ الذي وجّه يده إلى الخدش في عنقه 


لكن قبل أن يلمس الجرح، ارتجفت أصابعه كمن يخشى الإيذاء، فانقبضت يد شو هويتينغ عليه تلقائيًّا 


رأى يي مان يضمّ شفتيه وينظر إليه بعجز، فكأن شو هويتينغ قرأ أفكاره وطمأنه: 

"مجرد خدش بسيط، ليس خطيرًا، ولا يؤلم" 


ارتعشت رموش الصبي بسرعة 


ومع الوقت، خفّ توتر قبضته، وأخيرًا لامست أصابعه بشيء من الخفة بشرة عنق شو هويتينغ 


تفحّص يي مان الموضع بعناية، وحين بلغ طرف الجرح، ارتدّ كما لو احترق، عاضًّا شفته قبل أن يواصل عمله، ملامحه مركّزة جادّة وهو يقترب أكثر ليضع الدواء 


كان المنظر يثير رغبة شو هويتينغ في الضحك 


هل يحتاج الأمر حقًّا إلى كل هذا الاهتمام من أجل خدش صغير؟ 


فحتى إن أصيب بخدش، كان معتادًا على الجروح والإصابات، بل تعرّض لما هو أسوأ بكثير، فلم يكن ليعيره اهتمامًا 


لكن لمّا نظر إلى تعابير يي مان، فجأة لم يشأ أن يقول تلك الكلمات، بل تركه يعبث بقلقه، والدموع تكاد تترقرق في عينيه 


كانت أصابعه تتحرك بخفة حول عنقه، لم يكن يؤلمه، بل كان يدغدغه قليلًا 


تحرّكت تفاحة آدم في حنجرته وهو يبتلع ريقه 


فجأة قبض شو هويتينغ على يده: 

"يكفي، سأكمل من هنا" 


ففيما يخص نفسه، كان يضع الدواء سريعًا بلا إبطاء، ولو أبطأ قليلًا لبرئ الجرح وحده 


وأثناء التفاته، لمح شقًّا عند طرف شفة يي مان، فلم يستطع منع نفسه من مدّ يده ليلامسه 


كان يي مان ممسكًا بالساعة التي استعادها أخيرًا، شارد الذهن، فأطلق شهقة قصيرة حين لامسته اليد 


حاول أن يبتعد، لكن شو هويتينغ أمسك بذقنه 


"لا تتحرّك، أرجع رأسك إلى الوراء، لنضع عليه بعض الدواء، جروح الشفاه تأخذ وقتًا طويلًا لتشفى، وإذا آلمتك فلن تأكل لأيام" كان العود القطني يلمس بلطف حافة شفته المتشقّقة، فقد كان يعرف أنّ يي مان يمتنع عن الطعام إذا تألم فمه 


شدّ يي مان قبضته، وأرخى جفنيه، ولم يحاول الإفلات، بل استسلم لأفعال شو هويتينغ، يتركه يضع له الدواء 


بعد أن أنهى وضع الدواء، عاد إلى صمته من جديد 


وبالمقارنة مع حاله المرح حين وصل، بدا واضحًا أنّه غارق في الكآبة 


يي مان كان يبدو حيويًّا، لكن تلك الكلمات الصادقة التي في قلبه لم يكن يبوح بها مباشرةً للآخرين 


لقد بكى كثيرًا—بكاءً جميلاً، هشًّا، مؤثّرًا 


لكن حين يعتصره الحزن حقًّا، كان يرفض أن يبكي بصوت عالٍ 


بل كان يكتم دموعه، ساكنًا، يحدّق في الآخرين بلا كلمة 


ألقى شو هويتينغ عليه نظرة جانبية وقال: 

"السوار تالف، لكن الساعة بخير، فقط بدّل الحزام" 

فهو قد أخرجه في مزاج طيب، ولم يشأ أن يعود إلى البيت مكسور الخاطر، متسائلًا إن كان حزنه سببه الساعة التالفة 


ظلّ يي مان ممسكًا بالساعة التي يقدّرها، رأسه مطأطأً، غارقًا في شروده، لا ينبس ببنت شفة 


أما شو هويتينغ فاكتفى بابتسامة جانبية، غير مكترث بالصمت، إذ إنّ صبره واسع، قادر على انتظاره حتى يبوح بما يخفيه 


إن لم يكن اليوم، فغدًا، أو لاحقًا، لا بدّ أن يفيض بكل ما يعتمل في صدره 


تمطّى قليلًا، وهمّ أن يقول له إنّه سيقوده إلى المنزل 


"لم أعد أهتم بالساعة بعد الآن" 


توقّف شو هويتينغ، وأدار رأسه ببطء ليتأمّل الشخص الجالس على المقعد مطأطئ الرأس 


رفع يي مان رأسه، ونظر نحوه، مكرّرًا بجدّية: 

"لم أعد أهتم بالساعة بعد الآن" 


"في المرة القادمة..." شدّ قبضته أكثر على الساعة، "في المرة القادمة، لا تذهب" 


"أنا..." 


تعثر في كلامه، لا يعرف كيف يعبّر، وقد أخرج صوته بتكلّف ممزوج بأنين باكٍ 


"فقط... لا تُصب بأذى، حسنًا؟"

هل وجدت خطأ؟ قم بالإبلاغ الآن
التعليقات

التعليقات [0]