🦋


لم يكن مطعم أرزّ اللحم المطهوّ على نار هادئة في شارع مينغهوا موجودًا هناك في الأصل، بل كان يقع في حيّ قديم داخل إحدى القرى بالمدينة، حيث كان زبائنه في الغالب من السكان المحليين 


لاحقًا، ازدهر العمل، فادّخرت المالكة بعض الأموال وجمعت تمويلًا إضافيًا، ثم نقلت المطعم إلى جوار شارع مينغهوا، بالقرب من مباني مركز المال والأعمال 


اختار يي غووين هذا المكان للقاء لأنه كان يعلم أنّ له معنًى خاصًا لدى يي مان 


ففي أصعب أيامه، حين اضطر إلى إخلاء المنزل المستأجر والنوم على الأرض تحت صندوق المحاسبة في المتجر الذي كان يعمل فيه، تمكّن رغم ذلك من ادخار خمسة آلاف يوان ليعطيها لصاحبة المطعم، كان يفضّل أن يذهب إلى دائني الديون متوسّلًا تأجيل السداد، واعدًا بالعمل الجاد وسداد الدين في الشهر التالي، على أن يرى المطعم يُغلق أبوابه 


وفي النهاية، ورغم أنه أُصيب بجراح، فقد حقق ما أراد 


لكن المالكة، لي مينغيان، لم تكن تعلم بذلك، ولو علمت، لما قبلت ماله قط 


إلا أنّ يي مان كان ذا وجه لا يُكذّب، ولسان معسول، يجيد نسج الحكايات بلا عناء، أخبر المالكة أن المال مصروف جيب من قريبٍ ثريّ على جهة يي غووين، وحتى قصة كهذه، التي تبدو ضربًا من الخيال، صارت مقنعة حين حكاها، فصدّقه الكبار عن طيب خاطر 


غير أنّ يي غووين كان يعرف الحقيقة، فقد سمع عنها من شركة القروض حين كان يستدين منهم 


لم يكن الأمر مفاجئًا تمامًا 


فقد بلغ يي مان هذا الحدّ لأنه ذات ليلة عاد يي غووين سكران وحاول ضربه وضرب أمّه، فكانت صاحبة المطعم من آوتهما بضعة أيام 


كان يي غووين يعرف جيدًا طبيعة يي مان 


عنيد كالبغل، ولم يتغيّر كثيرًا على مرّ السنين، كما كان طفلًا: إن أعطاه أحدهم قطعة حلوى، ظلّ محتفظًا بغلافها تحت غطائه، يعتزّ به كأنه كنز 


كان يتذكر أصغر معروف لسنوات طويلة، وقطرة حلاوة تكفي لأن تجعله يتبع الآخر مطيعًا 


ومنذ خلافهما الأخير، صار يي غووين أكثر حذرًا من يي مان 


التقيا مرة بعد ذلك الخلاف، في نقاش مع عائلة تشي بشأن مشكلات الطفلين، يومها اتفق يي غووين ويي مان مسبقًا على ما سيقولانه، وقد وعد يي مان أن يوفّر مبلغًا ضخمًا من المال، وهو ما ساعد على إنهاء النقاش بسلام، وإلا، فبما أنّ طبع يي غووين هو الجدال والمطالبة بما ليس له، لكان أثار ضجّة وأفسد الأمر 


عائلة تشي لم تلاحظ حينها لماذا كانت ابتسامة يي غووين متصلّبة، ولم تفهم لماذا كان يتجنب غريزيًّا مواجهة نظرات يي مان الخالية 


لم يكن يريد أن يعترف بأنه يخشى غلامًا صغيرًا قليل الخبرة، لكنه اختار غريزيًّا مكانًا يقلّ فيه احتمال أن ينفجر يي مان غضبًا 


فعلى الأقل، في هذا المكان ذو المعنى الخاص له، وبين أناس يكنّ لهم المودّة، سيتصرّف يي مان بطاعة أكبر 


وصل يي غووين أبكر قليلًا، وكان وقت الغداء، والمطعم مزدحمًا، وبعد هذه السنين، ما زالت المالكة تتذكره، فرحّبت به بحرارة ودعته للجلوس، وقدّمت له وعاءً من الأرزّ تعلوه طبقة وفيرة من اللحم المطهوّ المتراكم كجبل صغير 


قالت لي مينغيان بفرح واستغراب: 

"تفضّل اجلس! لم أتوقع أن نلتقي مجددًا، أين شياو مان؟ لماذا لم يأتِ معك؟ كيف حاله الآن؟" 


هي لم تكن تظن خيرًا كثيرًا في يي غووين، لكن تذكّرها الخمسة آلاف يوان التي قال يي مان إنها جاءت من أقارب يي غووين، جعلها تشعر أنها مدينة له على الأقل بشيء من الامتنان 


غير أنّ يي غووين لم يبدِ أي اعتذار، بل قال بفخر: 

"شياو مان سيأتي قريبًا، حاله رائع الآن، لقد حظي بفرصة كبيرة، صار شابًا ثريًا مترفًا، مختلفًا تمامًا عن أمثالنا من عامة الناس" 


فمازحته لي مينغيان: 

"حسنًا، حين يصل السيد الشاب، علينا أن نختار له أطيب قطعة لحم وأطراها ليتمتع بها" 


وفي أثناء حديثهما، عادت ابنتها، التي بدأت للتو الدراسة الإعدادية، لتناول الغداء خلال استراحة منتصف النهار 


مسحت لي مينغيان وجه ابنتها المتورد بمنشفة مبللة، وقدّمت لها الوجبة التي أعدّتها مسبقًا، وقالت: 

"مينمين، أتذكرين أخاك شياو مان الكبير؟ كان يحملُكِ حين كنت صغيرة" 


فأجابت تشنغ مين بصوت مرتفع: 

"أذكر! الأخ الوسيم!" 


قالت: 

"نعم، هو بعينه، وهذا والد أخيك شياو مان، العم يي، سيأتي أخوك شياو مان قريبًا..." 


خارجًا، سُمِع صوت إيقاعي للنقر بالعصا، يتناوب بين اليمين واليسار، ويقترب شيئًا فشيئًا 


شدّ الصوت انتباه الأم وابنتها، فرفعتا رأسيهما نحو الباب 


ولمّا رأتا القادم عند العتبة، همّت لي مينغيان أن تهتف بفرح: "شياو مان!" لكنها توقفت فجأة حين لاحظت العصا البيضاء وعيني الفتى الخاليتين 


ذلك الفتى على العتبة، وقد ازداد طولًا، بدا أكثر نحافة وهشاشة من ذي قبل، ملامحه الدقيقة وبشرته الشاحبة جعلت منه كقطعة خزف جميلة هشّة، تأسر كل من ينظر إليه، فيصعب صرف البصر عنه 


"هل هو ممثل؟ هل جاء للتصوير؟" 


"لا يبدو مألوفًا، هل يعرفه أحد؟" 


وفي مدينة مثل بكين، لم يكن غريبًا أن يُرى المشاهير هنا وهناك، لذا فإن أنظار الناس في المطعم، رغم أنها لم تستطع مقاومة النظر إليه، لم تثر ضجّة تُذكر 


ومع ذلك، تجمّد يي مان للحظة، قابضًا على عصاه بإحكام، يحاول جاهدًا كبح رغبته في التواري إلى زاوية 


قالت لي مينغيان مترددة: 

"شياو مان...؟" غير متأكدة إن كان هو 


لقد ملأت عائلة تشي خزانة ملابسه بقطع منتقاة مسبقًا، بحيث لا يتعثر في اختيارها، كلها من أحدث ماركات الموسم الفاخرة، وعلى قوام يي مان النحيل الشبيه بالعارضين، بدت أكثر بروزًا وجمالًا، تضفي عليه أناقة لافتة 


لكن تردّد لي مينغيان في التعرّف عليه لم يكن بسبب مظهره المترف 


بل بسبب عينيه، والجبيرة على ذراعه 


لم يتطابقا مع صورة المزدهر كما وصفه يي غووين 


أمال يي مان أذنه قليلًا، وانحنت عيناه في ابتسامة: 

"خالتي لي، أنا هو، مرّ زمن طويل!" 


كان صوته مبهجًا، وسلوكه كله يشعّ دفئًا 


ارتاحت لي مينغيان بسرعة، وأسرعت لتساعده على الجلوس إلى مائدة يي غووين: 

"تعال، اجلس يا شياو مان، أنت... عيناك..." 


توقف يي غووين عن تحريك عيدانه 


أومأ يي مان، رافعًا بصره بوجهٍ يفيض بالشفقة: 

"عيناي مصابتان، لم أعد أرى، خالتي لي، هل يمكن أن أتناول قطعتين من اللحم اليوم؟" 


وما إن رأته كذلك، حتى اعتصر قلب لي مينغيان الألم، وقالت وهي تدمع: 

"بالطبع! ليس فقط قطعتين، بل عشرين! تعال في أي وقت، وسأطهو لك ما تشاء!" 


ذهبت لتجلب له الأرز، وفي اللحظة نفسها تجمّد وجه يي مان، فيما بدا يي غووين غير مكترث، يفرك يديه ويقول: 

"أنا في ضائقة مالية هذه الأيام يا شياو مان، ما رأيك..." 


لقد كانت عائلة تشي قد بحثت مسبقًا في مشكلات ديون يي غووين، فسددت عنه ديونه، بل ومنحته مبلغًا ما كان ليكسبه في عمره كله، غير أنّ عائلة تشي لم تستوعب طبيعة شخص كيي غووين؛ مدمن على القمار، كسول، بلا حياء، لن يكفيه أي قدر من المال 


ومع أنّ ابنه بالتبني وريث لعائلة ثرية، وابنه البيولوجي شاب مدلل، إلا أنهم لم يكونوا ليقفوا مكتوفي الأيدي ويتركوه يُضرب حتى الموت 


ومع وجود سند له، أخذ يقامر بتهور أكبر 


وحين كان يملك المال، ويُحظى بمعاملة لم يسبق لها مثيل، ويُتملّق من الناس، ويعيش في بذخ لبعض الوقت، صار الرجوع إلى حياة البؤس القديمة عذابًا لا يُطاق عنده 


وحين خسر كل شيء، كان أوّل شخص خطر بباله هو يي مان 


في الماضي، لم يكن عليه أن يتوسّل بهذا الشكل 


كان يغيب عن المنزل لنصف عام، وعندما يعود، كان يقتحم المكان دون كلمة، يأخذ ما يريد بالقوة أو بالإقناع، وكان دائمًا يزعم أنّه ما إن يحصل على المال ويصبح ناجحًا، فسوف يسدّد ليي مان ما عليه، كأن يي مان، الذي يدّخر ماله ويرفض المساعدة، هو شرير قاسٍ بلا قلب ولا امتنان 


لكن يي مان كان يعلم أنّ المال، حالما يُسحب، لن يراه مرة أخرى أبدًا 


وكانت المرة الأخيرة على نفس الحال 


لقد كان مالًا ادّخره طويلًا، استخدم في سبيله كل الوسائل حتى تفاوض مع الدائنين، وسدّد القسط الأخير، وأزال جميع الديون، مع فهم واضح أنّ مشاكل يي غووين لن تعود لتشمله 


لكن يي غووين، بطريقة ما، اكتشف أنّه لا يزال يملك المال، فوضع عينه عليه 


وقد أُصيب في عينيه أثناء الصراع مع يي غووين حول ذلك المال 


ارتسمت على شفتي يي مان ابتسامة، لكن صوته كان باردًا، لمس المقص الذي أحضره في جيبه وقال: 

"يي غووين، لا أصدق أنّك تجرؤ على مواجهتي، هل تظن أنّه لمجرد أنّنا في محلّ خالتي لي، سأجلس مكتوف اليدين وأدعك تدفعني كيف تشاء؟" 


همس في قلبه: "الأخ تونغ، قل لي، هل أنا الأسوأ والأشرس في هذه الرواية، أليس كذلك؟" 


شعر النظام بعصبية لا تفسير لها 


"هذا ما يقوله النص، نعم" 


قال يي مان لنفسه: "إذن لابد أنّني قوي وصلب، أليس كذلك؟ شخصيات المدافع عن النفس القاسية تكون هكذا—الناس يكرهونهم لكن لا يستطيعون الإطاحة بهم" 


"...يي مان، ماذا تخطط؟" شعر النظام بالانزعاج 


وسأل يي غووين نفس السؤال: "يي مان، ماذا تريد أن تفعل؟" 


اقترب يي مان من يي غووين مبتسمًا وقال: 

"لوضعك خلف القضبان" 


قال يي غووين بدهشة: "لا أصدق أنّك تجرؤ على إحضار كل هؤلاء الشهود، أمام الجميع، في العلن، من تعتقد أنّهم سيصدّقون—رجل أعمى ضعيف أم رجل متوسط العمر قوي ولديه تاريخ من العنف المنزلي؟" 


شعر يي غووين بشيء بارد يُضغط في يده، واتسعت عيناه 


همس النظام متأوّهًا: "يي مان، اهدأ!" 


تغيّر تعبير يي مان على الفور، وامتلأت عيناه بالدموع: "أبي، ماذا تفعل!" 


في الخارج 


لقد تعثّر شو هويتينغ على كاذب صغير مثير للشفقة يمشي وحده، وبدافع الفضول قرّر تتبعه ليرى ما يفعله، تحوّل بصره فجأة إلى حاد 


لم يسمع السكرتير تشين سوى كلمة سبّ، وفي اللحظة التالية، اندفع رئيسه، الجالس في المقعد الخلفي، إلى الخارج دون أي تفكير

هل وجدت خطأ؟ قم بالإبلاغ الآن
التعليقات

التعليقات [0]