🦋


كان يي مان، المثخن بالجراح والكدمات، يكابد العناء طَوال اليوم، فيما كان ذهنه يَغْلي مرارًا، وما إن جلس في السيارة حتى غلبه الإعياء، فراح يَغْفو مرارًا 


لكنها كانت فرصة نادرة ليبقى وحده مع تشين فَانغ رُوي، بعيدًا عن الابن الأكبر والثاني اللذين اعتادا مزاحمته على نَيْل اهتمامها، فقرص فخذيه مرتين ليطرد النعاس عن عينيه، آمِلًا أن يترك لديها انطباعًا أفضل 


سألته تشين فَانغ رُوي إن كان يتألم، فأصرّ على النفي، متظاهرًا بالطاعة والعقل، مما جعلها تُلقي عليه بين الفينة والأخرى نظراتٍ، وكأنها همّت أن تقول شيئًا 


ولما لمح نظراتها، سأل النظام متباهياً إن كانت أمه البيولوجية راضية عن أدائه 

لكن النظام لم يشأ أن يبدّد وَهْمه 


"الخادمة تشو وغيرُها قد أبلغوا والديك بما صنعتَه مع تشي جوي، لقد فات أوان التظاهر باللطف الآن" 


فتلاشى الابتسام المرسوم على شفتي يي مان 


وتمتم متذمّرًا: "لو كنت أُبصر لما انكشف أمري بهذه السهولة" 


فمنذ أن أصاب بصرَه العطب، لم تَجْرِ الأمور كما ينبغي 


وحين رآه النظام مطأطئ الرأس، وقد أوشك الدمع أن يفيض من عينيه، لم يستطع إلا أن يواسيه: "لا تقلق، فبحسب مسار الحبكة الأصلي سيظهر طبعك الحقيقي في النهاية" 


غير أنّ تلك الكلمات لم تُسْلِه، فظل مطرقًا في هزيمةٍ مُرّة، بينما أطلقت تشين فَانغ رُوي تنهيدة ارتياح، 

كانت ترغب في الكلام، لكن الكلمات أبت أن تخرج 


عاد الأم وابنها إلى المنزل في صمتٍ ثقيل، وبعد أن أوصلت ابنها إلى غرفته ورأته لا يزال واجمًا، عجزت تشين فَانغ رُوي عن التصرف، عند نزولها، اقترحت الخادمة تشو: 

"سأبخّر بيضتين، سيدتي، يمكنك أن تقدّميهما للصغير لاحقًا، في المرة السابقة حين كان حزينًا، سرعان ما انفرجت أساريره بعد أن أكل منهماه" 


تساءلت تشين فَانغ رُوي متحيّرة: "بيض مبخَّر؟" 


ابتسمت الخادمة تشو قائلة: "نكسر بيضتين في وعاء، نضيف صلصة الصويا وزيت السمسم والبصل الأخضر المفروم، ثم نضعه على البخار دقائق قليلة، وهو سريع التحضير" 


وهي تتحدث، اتجهت إلى المطبخ، وأخرجت وعاءً، وكسرت البيض، وأخذت تُثرثر وهي تتابع: "الصغير أكثر حساسية من الشابين الكبيرين، لكنه في الحقيقة مطيع ويسهل إرضاؤه" 


كانت الخادمة تشو، التي تعمل في البيت منذ أن كان تشي يان وتشي جوي طفلين، تعامل السادة الصغار كما لو كانوا أبناءها 


فقد كان تشي يان وتشي جوي ذكيين مستقلّين منذ صغرهما، أنضج من أعمارهما، وحتى حين كانت الأسرة تجادل، بدا الأمر وكأنه نقاش على مائدة تفاوض، بلا أصوات مرتفعة، وقد اعتادت الخادمة تشو على أجواء عائلة تشي الهادئة والعقلانية، ففاجأها ظهور من يهوى التمدد على الأرض وإحداث الجلبة 


رفعت تشين فَانغ رُوي بصرها إلى الطابق العلوي، ثم سكبت لنفسها كأسًا من النبيذ الأحمر من الثلاجة، وأسندت جسدها إلى منضدة المطبخ قائلة: 

"لقد سمعتُ من قبل تقارير تفيد بأن شياو مان يستهدف آه جوي" 


وقد شهدت بنفسها ذلك مرتين 


في نظر تشين فَانغ رُوي، كانت وسائل الأطفال ساذجة، وغاياتهم مكشوفة 


وما إن فرغت الخادمة تشو من إعداد البيض ووضعه في القدر البخاري، حتى ترددت قليلًا ثم قالت: 

"لقد خطر لنا مثلما خطر لكِ في البداية، سيدتي" 


وأضافت متلطفة: "رجاءً لا تأخذي الأمر على محملٍ سيّئ، بعد أن رأينا مواقف مشابهة مرارًا، خُيِّل لنا أن الصغير يشبه أولئك الأطفال الذين يُؤتى بهم من خارج الأسرة في بيوت الأثرياء…" 


ففي بيوت الثراء، حيث تتشابك المصالح وتتصارع القوى، لا يختلف الأمر كثيرًا عن صراعات القصور، والخدم الذين يعيشون في تلك الأوساط يطّلعون على ما يُخفى، فيصبح لهم من التجارب ما يجعلهم يُسرفون في الظنون 


في البداية، ظنّوا أن يي مان يُدبّر المكائد 


ولم يكن أولئك الخدم وحدهم، بل حتى أفراد عائلة تشي أنفسهم، ألم يظنّوا الأمر ذاته؟ 


كانت أوضاع عائلة تشي أعقد من أن يُجزم فيها بالانحياز لطرفٍ دون آخر بين الابن الحقيقي والمزيّف، وحين تنشب الخلافات بين الاثنين، لم يكن أمامهم سوى رفع الأمر سرًّا إلى مَن بيدهم القرار في الأسرة 


غير أنّ تشين فَانغ رُوي لم تكن تعرف كيف تتعامل مع النزاع بين ولديها، فترجيح كفّة أحدهما يعني ظلم الآخر، وأحيانًا، لا يرغب الآباء أن يُؤدّوا دور الخصم في علاقة الوالدين بالأبناء، ولحسن الحظ، كان تشي جوي، كعادته، لا يُسبّب المشكلات، ويعرف كيف يحلّها بنفسه 


ابتسمت الخادمة تشو بصفاء قائلة: "في الحقيقة، السيد الصغير شديد التعلّق بإخوته، وبالأخص السيّد الثاني، إنّه أوثق صلةً به" ثم أكّدت بثقة أمام تشين فَانغ رُوي: "شقاوته ليست إلا طلبًا للاهتمام!" 


لكن تشين فَانغ رُوي لم تقتنع تمامًا 


فمع أنّها أشفقَت على محنة يي مان وعمى بصره في عمرٍ صغير، وكانت الأسرة قد دلّلته كثيرًا، إلا أنّ ما ظهر من أفعاله لم يَبدُ مُتّسقًا مع ما ذكرته الخادمة تشو 


ــ في الطابق العلوي 


كان يي مان يُكابد النعاس وهو يُصغي لثرثرة النظام الرتيبة 


فجأة— 


"لماذا انحرف المسار عن الحبكة مرّة أخرى؟!" 


"آآآه، أيها المضيف، شخصيّتك تنهار مجددًا!! إنّ قيمة البيدق قد هبطت، هبطت!" 


اتّسعت عينا يي مان المحمرّتان بالدموع على حين غرّة 


مَن الذي يسيء إليه من وراء ظهره؟ 


لقد تودّد أخيرًا إلى النظام وانتزع منه مليونًا، فمن ذا الذي يعبث برزقه؟ 


قبل أن يركب السيارة، كان يي مان قد سأل النظام، ورغم إخفاقه في الالتزام بالحبكة، إلا أنّ أداؤه البارع أمام شو هويتينغ قد أنقذ صورته بوصفه خصمًا خسيسًا، لقد كان الوضع ما يزال قابلاً للإنقاذ—لم يفشل بعد—بل كان يخطط لأن يكسب ثقة شخصية كبرى ويخدع القرّاء 


فما دام حافظ على تمثيل دوره كالبيدق الشرير، وتمكّن من إعادة الحبكة المضطربة إلى مسارها، فسوف يجتاز 


تسلّم يي مان مستحقاته من النظام، فهدأت نفسه القلقة، وسرعان ما حوّل المبلغ إلى الحساب المعتاد 


ولمّا جاءه الرد: "وصلت الأموال، وكل شيء بخير في دار الأيتام، لا داعي للقلق" 


هنالك فقط اطمأنّ وأرخى جفنيه لينام 


لكن، أيعقل أن شخصيّته توشك على الانهيار ثانية؟ 


ظلّ هو والنظام مذهولين 


تمتم يي مان: "هل حَسَم الشيخ نقاطًا في غيابي؟" 


طرقت تشين فَانغ رُوي الباب ودخلت وهي تحمل صينيّة البيض المبخَّر 


… 


بينما كان الشقيقان تشي يسهران في غرفة الدراسة، كان شو هويتينغ قد غادر مأدبة عشاء 


وكان عدد من الرجال المسنّين، بدَوا مألوفين بعض الشيء، محاطين بمجموعة من السكرتارية والمساعدين، يلتفّون جميعًا حول أصغرهم شأنًا في المجلس، وقد ارتسمت على وجوههم مسحةُ تزلّف 


وما إن لمحوا سيارة "هونغتشي" متوقفة عند المدخل، حتى ازدادت ابتساماتهم صدقًا 


قال أحدهم: "يبدو أنّ الشيخ شو يفتقد حفيده، فلن نُطيل عليك، سيد شو، بلّغ تحيّاتنا للشيخ" 


وبينما ارتسم شيء من الضيق على وجه السكرتير تشين، أسرع يهمس للنادل متأكّدًا أين مضت سيارة "المايباخ" التي جاؤوا بها 


كان رجلٌ في منتصف العمر ينتظر بجوار السيارة، وما إن وقع بصره على شو هويتينغ حتى أشرق وجهه بابتسامة: "هويتينغ، لقد مضت عدّة أيام منذ عدت إلى بكين، ولم تَزر البيت العتيق بعد، إنّ الشيخ قلق عليك، فأرسلني خصيصًا لأصحبك" 


لكن ملامح شو هويتينغ لم تتغيّر كثيرًا وهو يهبط الدرج، وما أن همّ الرجل بابتسامة أعرض وخطوة أقرب ليحيّيه، حتى انصرف شو هويتينغ نحو سيارة المايباخ التي كانت قد توقّفت للتو 


فتجمّد وجه الرجل 


وكان المشهد، أمام أعين الناس، إهانةً صريحة 


فتح السكرتير تشين باب السيارة، ودخل شو هويتينغ بلا التفاتة، ومع يقينه أنّه يتجاهله عن عمد، ارتجف قلب شو وِيبينغ بالذعر، وألقى كبرياءه جانبًا وهو يسارع إليه: "هويتينغ، بخصوص الشيخ…" 


فابتسم شو هويتينغ بسخريةٍ خفيّة: "أوقع يانفِـنغ في ورطة مرّة أخرى، أليس كذلك؟" 


ارتبك شو وِيبينغ وأجاب متعثّرًا: "إنّه ابن عمّك، لقد…" 


إذ بالخادم يقترب ومعه علبة، فانقطع كلامه 


"سيدي، الكعكة التي طلبتموها" 


تحرّك السكرتير تشين ليتسلّمها، لكن شو هويتينغ أخذها بنفسه 


ومن غير أن يمنحه شو وِيبينغ نظرةً واحدة، رفع زجاج النافذة 


فتح العلبة، فإذا هي ذات الكعكة التي ظلّت إلى جانبه من قبل دون أن يمدّ إليها يده 


وكان قد لمح أثناء التعريف السريع أنّها من صُنع طاهٍ فرنسي محلي، حلويات فرنسية أصيلة 


ولم يكن شو هويتينغ مولعًا بالحلويات، لذا لم يتناولها 


غير أنّه، عند انصرافه، التقطها بدافع خاطرٍ عابر، فطلب أن يُجلب له جزء منها ليأخذها معه 


وبالفعل، حملت نفس العبير المرتبط بذلك الفتى الضرير 


تذوّق منها قضمة واحدة، ثم وضعها جانبًا 


صعد السكرتير تشين إلى السيارة، ولاحظ أنّ شو هويتينغ قد أغمض عينيه، فتمتم إلى السائق: "إلى فيلا التلال الغربية" 


… 


كان يي مان غارقًا في سعادة وهو يلتهم البيض المبخّر الذي جاءت به تشين فَانغ رُوي، وفي قلبه يتبادل همسًا مع النظام حول تلك اليد الخفيّة التي تعبث بدوره كبيدقٍ خسيس 


وبعد نومٍ هانئ، استيقظ في الصباح التالي، فإذا به يعود إلى قلقه القديم 


قال: "أخي تونغ، إن واصلتُ مضايقة البطل، وجعلتُ مزيدًا من الناس يكرهونني، أيمكنني أن أرفع نقاط شخصيتي؟" 


"من حيث المبدأ، نعم" 


جلس يي مان إلى مائدة الطعام، وفكّر في نفسه: هذا أمر يسير 


وفي تلك اللحظة، وبينما جلس تشي جوي بجواره، مدّ له قائلًا: "شياو مان، تفضّل بعض الروبيان" 


فأجاب يي مان بنبرة لطيفة: "يدي تؤلمني، ولا أستطيع تقشير الروبيان، هل يمكنك مساعدتي، أيها الأخ الثاني…" 


فاتجهت إليه الأبصار جميعًا على المائدة 


خفض يي مان أجفانه، متظاهرًا بالبراءة، وكأنّ الأمر غير مقصود، فيما كان يضحك ساخرًا في دخيلته 


وحين يرفض، سأ… 


"حسنًا" 


رفع يي مان رأسه في ذهول 


… ماذا؟ "حسنًا"؟ 

هل وجدت خطأ؟ قم بالإبلاغ الآن
التعليقات

التعليقات [0]