صمت لين تشينغ يي لحظة، ثم قال بصوت خافت:
“سموك، آمل أن تتذكر ما قلته.”
أومأ كي روان بإصرار:
“بالطبع!”
“كي روان.”
صوت ناعم، مفعم بالرقة، تسلل من باب القاعة.
استدار كي روان فورًا، ولما رأى القادمة، انحنى وقال:
“أمي.”
انحنى لين تشينغ يي أيضًا باحترام:
“جلالتك.”
قالت برقة:
“الجنرال لين، أنت هنا أيضًا. أظنك جئت من أجل ابني عديم الفائدة.”
ورغم كلماتها، لم يكن في صوتها أي لومٍ حقيقي.
نظر إليها كي روان.
كانت ترتدي ثوبًا أبيض خفيفًا مطرزًا بفراشة زرقاء، يتمايل برقة مع نسيم الصباح. شعرها الأسود كالحرير انسدل على كتفيها في عشوائية متقنة.
وجهها ناصع البياض، ناعم الملامح، وبشرتها صافية كالماء النقي.
تحت حاجبيها المقوسين، لمع بريق في عينيها يشبه ضوء النجوم.
فمها الصغير انحنى بابتسامة خفيفة لا تفارقها.
بدت كملاك هبط من السماء، بجمالٍ سامٍ لا يشبه البشر، تنبعث منها هالة من النقاء والسكون.
كانت تلك هي والدة كي روان، روان تشينغ تيان.
اسمها كجمالها، هادئة كزهرة لوتس في بركة صافية، تحيطها هالة من الرقي والسلام.
لم تكن تتجاوز الثامنة والعشرين من عمرها، ورغم ذلك كانت فاتنة بجمال يصعب تفسيره.
لا عجب أن الإمبراطور قد هام بها عشقًا، ولم يتزوج عليها قط، خلافًا لسائر الأباطرة.
ربما لأنه أراد أن يصون روحها النقية من دنس العالم الفاني.
حتى اسم كي روان لم يكن سوى دمج لاسمي والديه، وقد تناقلت الألسن قصص حب الإمبراطور كي تشان وروان تشينغ تيان لسنوات.
تقدمت منه، وأمسكت بيده برقة وهمست:
“لا تسبب المتاعب للجنرال لين، بني.”
وصل صوتها إلى أذنيه كنسيم يلاعب أغصان الصفصاف.
من ذا الذي يقدر على القسوة في حضرتها؟
أجاب كي روان بابتسامة:
“لا تقلقي، أمي… لن أكون مدللًا كما كنت.”
بدت السعادة على وجهها، وربتت على شعره برفق.
أحس كي روان ببعض الخجل. ففي داخله، كان رجلاً يقارب الثلاثين، وليس بعيدًا عن سنها.
لكن في هذا العالم، أصبح ابنها، وها هي تدلّله بحنان.
أحس بحرارة تتسلل إلى وجهه.
قالت روان تشينغ تيان بحسرة ناعمة:
“لقد كبرت، بني…”
في تلك اللحظة، لمح كي روان علامات الحرج على وجه لين تشينغ يي، ولم يستطع إلا أن يبتسم بخفة.
تفهم موقفه؛ فهما أم وابن يتبادلان الحديث، وهو مجرد غريب بينهما. مكانه لم يعد مناسبًا، لكن لم يطلب أحد منه الانصراف.
قالت روان تشينغ تيان للجنرال:
“الجنرال لين، أعهد إليك بابني… أرجوك، اعتنِ به.”
انحنى لين تشينغ يي بسرعة، وقال بصوت ثابت:
“هذا واجبي، يا جلالتك.”
بعد قليل، غادرت روان تشينغ تيان، ولحقتها نظرات ابنها.
ولم يطل بقاء لين تشينغ يي أيضًا، إذ كان لا يزال عليه تجهيز أمور الرحيل.
لم يكن خافيًا أن لين تشينغ يي يتمتع بشخصية متزنة لا تهتز، وعدلٍ نادر.
لذلك، ولرغم خطورة المهمة، قام بتقسيم الرهائن العشرة الذين أُرسلوا مع الأمير، فخصص عربة لكل ثلاثة منهم.
لكنه لم يكن راضيًا.
فعندما التفت إلى من كانوا خلفه، عبس وجهه.
أولئك لم يكونوا من جنوده.
لم يكن ينوي اصطحاب عدد كبير من الجنود.
فالوجهة مجرد مقاطعة، والإكثار من القوات قد يجلب الانتباه غير المرغوب فيه.
“سموك… من هؤلاء؟” سأل بصوت هادئ لكنه صارم.
ابتسم كي روان وقال:
“ستفهم لاحقًا. وعندما نغادر القصر، أرجو أن نجد نُزلاً نستريح فيه أولًا.”
بان الاستياء على وجه لين تشينغ يي.
كانوا في طريقهم لمواجهة قطاع طرق، لا في نزهةٍ ملكية.
زمجر بخفة، ولو كان يرتدي ثوبًا بأكمام واسعة، لكان أطلق زوبعة به.
أما كي روان، فتجاهله وركب العربة.
ما إن دخل، حتى سمع صوتًا من الخارج.
رفع الستار ليرى جنديًا يتحدث مع لين تشينغ يي، وجهه متوتر.
تبع كي روان نظرات الجنرال، فوقع بصره على سي يوهان.
كان واقفًا بجانب إحدى العربات، يحيط به بعض الأولاد الذين يضحكون عليه.
لكن ملامحه كانت صلبة، نظرته ثابتة، لا يشي بأي خجل.
قفز كي روان من العربة وسأل:
“ما الذي يحدث؟”
كان واضحًا أن لين تشينغ يي لا يريد الحديث مع الأمير، لكنه اضطر للإجابة:
“سموك، بقي شخص إضافي… أُبلغنا أن العدد تسعة، لكنه أصبح عشرة الآن.”
كان الغضب واضحًا في عينيه… ليس على سي يوهان، بل على تقصير الجنود في التنظيم.
لكن في الحقيقة، لم يكن هذا خطأ الجندي.
فكي روان كان قد سجن سي يوهان في مكانٍ منفصل، ولم يكن مقيمًا مع بقية الرهائن، لذا لم يُحسب في عددهم.
وما إن علم كي روان بعدم تخصيص عربة لسي يوهان، حتى لمعت عيناه فجأة.
لقد كان يُفكّر طوال الأيام الماضية في طريقة مناسبة للتقرب من البطل، لكنه لم يجد مدخلًا مناسبًا…
وها هي الفرصة قد جاءت بنفسها.
حاول كي روان أن يبدو هادئًا، وقال بصوت ثابت:
“ليكن في عربتي.”
تنفّس لين تشينغ يي الصعداء، وأمر رجاله بجلب سي يوهان.
وبعد لحظات، أتى سي يوهان.
كتم كي روان الحماس الذي اعترى صدره، ونظر إليه وقال بنبرة عادية:
“اركب معي.”
ارتسمت ابتسامة باهتة على شفتي سي يوهان، وأخفض رأسه ليخفي البرود القاتل في عينيه، ثم أجاب:
“أمرك، يا سموّ الأمير.”
صعد كي روان أولًا إلى العربة، ثم مدّ يده إلى سي يوهان.
حدّق سي يوهان في تلك اليد الممدودة نحوه.
كانت أناملها طويلة وناعمة، بلون عاجيّ مائل إلى الوردي، تنبعث منها لمعة خفيفة…
وشعر داخله باضطرابٍ لا تفسير له، وكأن شيئًا فيه على وشك الانفجار.
ولما لم يتحرك سي يوهان، أدرك كي روان أنه بالغ في لطفه.
فكي روان القديم قد أذلّ سي يوهان على مدى عام كامل. والآن فجأة… يعامله برفق؟
ربما الشخص العادي قد يتغاضى عن ذلك، لكن سي يوهان… كان ذكيًا، معتادًا على المآسي، يعرف جيدًا كيف يقرأ النوايا.
في اللحظة التي همّ فيها كي روان بسحب يده، شعر بحرارة خفيفة تتسلل إلى راحته.
أمسك بيد سي يوهان، وشدّ عليها، وساعده على الصعود إلى العربة.
لكنه لم يترك يده بعدها.
ظلّت أيديهما متشابكة…
وكان سي يوهان يحدّق فيها، مذهولًا من دفء يد كي روان. كان الدفء حقيقيًا، لا يشبه برود جسده المعتاد.
وبعد أن جلسا داخل العربة، أشار كي روان له أن يجلس، ثم أفلت يده.
وفي تلك اللحظة، مع زوال الدفء، شعر سي يوهان بلحظة شرود…
وشيء يشبه الخيبة عبر قلبه.
هل أصبت بالجنون؟ هتف داخله.
رفع عينيه لينظر إلى كي روان.
كان كي روان جميل الملامح: بشرته بيضاء ناعمة، شفاهه حمراء، أسنانه بيضاء كحبات اللؤلؤ.
نشأ في نعيم، لم يذق ألمًا في حياته.
وإن أحب أحدًا، أكرمه…
وإن أبغض، صبّ عليه سواد قلبه دون أن يخفيه، تمامًا كما فعل مع سي يوهان سابقًا.
لكنه الآن، كان مختلفًا.
شعر كي روان بنظرات تخترق جلده.
استدار… والتقت عيناه بعيني سي يوهان الباردتين.
تجمد للحظة، ثم ابتسم بسرعة قبل أن يشيح سي يوهان بنظره.
كانت ابتسامته مشرقة، حتى أنها بدت غير لائقة لهذا التوقيت.
أسنانه البيضاء ظهرت بوضوح، وعيناه انحنتا في شكل هلالين صغيرين.