🦋

 كان مو رونغ سا يتساءل للتو عن سبب تصرف هوا تشي الغريب فجأة، حين وقعت عيناه على تشو بينغهوان واقفاً في البعيد. 

وعلى الفور، انتصبت شعيرات جسده.

كان معروفاً على نطاق واسع أن الابن الأكبر لـ يونتيان شويجينغ، تشو بينغهوان، يتمتع بطبع بارد وشخصية سامية. 

وبصفته الشاب المرموق في وادي فينغ مينغ، لم يكن مو رونغ سا يخشى هالته المهيبة، غير أنّ التفكير في الأمر من منظور هوا تشي جعله يشعر بقشعريرة تزحف في عموده الفقري. فبرأيه، عداوة هوا تشي مع تشو بينغهوان وضعته في موقف بائس، إذ صار مطارداً من قِبل شخص قوي كـ تشو بينغهوان، وهذا وحده كفيل بأن يجعل مو رونغ سا يرتجف.

زد على ذلك، ملامح تشو بينغهوان القاتمة الموحية بالخطر.

أخبره حدسه أن الأمور على وشك أن تسوء كثيراً.

في عالم الزراعة، كانت طائفة الخلود شانغ تشينغ تركّز أساساً على مسار السيف، بينما كانت قصر يي يو متخصصة في الآلات الموسيقية، أما يونتيان شويجينغ فقد تميّزت في فنون الشفاء. 

وكان تشو بينغهوان، المزارع الشاب الذي ذاع صيته في عالم الزراعة، ألمع مزارع طبي في تاريخ يونتيان شويجينغ.

عادةً، يُعتبر مزارعو السيف الأقوى، ومزارعو الطب الأضعف، إذ يملك الأولون حدة طبيعية وجسداً مفعماً بنية القتل، بينما تفوح من الآخرين رائحة الأعشاب الطبية، فيفيضون رحمةً وشفقة.

لكن تشو بينغهوان كان استثناءً، فبرغم تخصصه في فنون الشفاء، لم يكن يُستهان به في القتال. 

ناهيك عن براعته في نثر المساحيق السامة التي تُسبّب نزيفاً من المسامع والمناخر والعينين، وحرقاً للأعضاء الداخلية في غضون دقائق.

في عالم الزراعة المليء بالمفاجآت، لم يكن من الحكمة استفزاز مزارع طبي ماهر، حتى وإن كان صاحب مزاج سيّئ.

لم يستطع مو رونغ سا أن يفهم لماذا اضطر هوا تشي لاستفزاز تشو بينغهوان، وكأنه يطلب المتاعب من خصم خطير. 

لكن، ما باليد حيلة… فهما في النهاية إخوة!

تنهد في داخله، وأخذ وضعية جدية، ثم تقدّم ممسكاً بسيفه وقال بلباقة: "السيد تشو، أرجو أن تمنحنا بعض الوجه."

غير أن نظرات تشو بينغهوان تجاوزت مو رونغ سا واستقرت على هوا تشي الذي كان ينكمش خلفه.

فسخ الخطوبة… من أجل حبيبة.

هاه، جيد جداً!

ازدادت ملامح تشو بينغهوان ظلاماً، وتقدّم حاملاً سيفه. 

عندها، وكطائر مذعور، أمسك هوا تشي بذراع مو رونغ سا وصاح: "اركض، اركض، اركض!"

فغيّر مو رونغ سا الاتجاه بسرعة، محلّقاً بسيفه نحو السماء.

قال هوا تشي: "اهبط بسرعة."

لكن الهرب كان بلا جدوى، إذ لحق بهما تشو بينغهوان في لحظة.

لم يتمكّن مو رونغ سا من إعادة ضبط هالته الفوضوية في الوقت المناسب، فحماه غريزياً ووضعه خلفه، ثم نظر إلى تشو بينغهوان بابتسامة متملقة وقال: "أخي، أخي، لنتحدث بهدوء… لا تتصرف بتهور!"

أجابه تشو بينغهوان ببرود، مشيراً إلى هوا تشي: "لدي ما أقوله له."

ثم أضاف وهو يرمق مو رونغ سا: "على انفراد."

نظر مو رونغ سا إلى تشو بينغهوان، ثم إلى سيف تيان شوي جينغ في يده، والذي كان يتوهج بسطوع مخيف ويومض ببرودة حادة. 

حينها، قرّر خيانة هوا تشي بلا تردد: "حسناً، يا أخي هوا، أظن أن بعض الأمور يجب أن تُوضَّح. الركض بلا هدف ليس صواباً. بعد أن ترد ديونك، ستكون بطلاً! لا تقلق، سأنتظرك هناك."

ثم هرع مبتعداً بحزن.

مدَّ هوا تشي يده، لكنه لم يمسك بشيء، وشعر بعجز تام. 

قال بمرارة: "اتفقنا أن نواجه الصعاب معاً، والآن تتركني هكذا؟"

أجابه مو رونغ سا بابتسامة منتصرة وهو يرفع إبهامه علامة الإعجاب.

تنهد هوا تشي، ولم يبقِ أحدٌ بجواره، إذ أصبح وحده مع تشو بينغهوان. تذكّر الأحقاد والتشابكات من حياته السابقة، والندم في مواجهة الموت، والمرارة التي شعر بها لكونه أضاع على الآخر حياته كلها… كل ذلك جعله يشعر بالحرج من لقائه مجدداً.

ساد التوتر الجو، ممتلئاً بارتباك ثقيل.

كان هوا تشي يشعر وكأن تشو بينغهوان يحدّق فيه طوال الوقت، بنظرة ثابتة باردة جعلت شعره يقف.

وبعد وقتٍ لا يدري كم طال، نطق تشو بينغهوان فجأة: "هل أنت… خائف مني؟"

ارتجف قلب هوا تشي قليلاً.

كان صوت تشو بينغهوان عذباً، كماء ينبوع جبلي يتناثر كالجاد. لقد مر زمن طويل منذ أن سمعه آخر مرة.

في حياته السابقة، في قصر فين تشينغ، كان تشو بينغهوان إما صامتاً بوجه بارد، أو يصرخ بصوت مبحوح حين يضطره هوا تشي إلى ذلك. 

أكثر الجمل التي اعتاد سماعها آنذاك كانت: "لا تلمسني"، "يا عديم الحياء"، "إن لمستني مجدداً سأقطع مسارات طاقتي بيدي"، وأشباهها من العبارات.

أن يُقال إن سيد الشياطين المهيب يخشى الناس؟ لم يكن ذلك إلا بسبب شعوره بالذنب.

قال هوا تشي بابتسامة جافة: "أنا فقط… لا أشعر بالراحة عند لقائك."

سأله تشو بينغهوان: "لماذا؟"

رفع هوا تشي رأسه، وحشد شجاعته ليلتقي بعيني تشو بينغهوان قائلاً: 

"الابن الأكبر المهيب لـ يونتيان شويجينغ يواجه فسخ خطوبة على نحو مأساوي… إذا انتشر هذا الخبر، فلن يكون وقعه حسناً. لذلك أنا…"

قاطع تشو بينغهوان بسؤاله: "إذن، لماذا فسخت الخطوبة؟"

كان من الطبيعي لابن السماء الفخور أن يرغب بفهم سبب أن يُرفَض، لذا اعترف هوا تشي بصدق: "اختلاف المكانة. لم أجرؤ على التطلّع عالياً."

ربما كان تشو بينغهوان قد توقّع أن يقول هوا تشي ذلك.

في حياته السابقة، حين وصل هوا تشي إلى يونتيان شويجينغ، كان تشو بينغهوان قد غادر ليتدرّب على الطب. 

ولم تذكر مي كايلين، له هذا الأمر صراحة، لذا لم يعلم أن خطيبه جاء يبحث عنه، وأن مشادّة حادة قد وقعت بينه وبينها.

أما في هذه الحياة، فكان تشو بينغهوان يعرف أن هوا تشي سيأتي إلى يونتيان شويجينغ، لكنه لم يعرف متى، فسارع بالعودة إلى الديار بأقصى سرعة.

ومع ذلك… جاء متأخراً بخطوة.

ما أدهش تشو بينغهوان هو أن هوا تشي في الماضي كان ثابتاً مصمماً على إتمام الخطوبة، أما في هذه الحياة… فلماذا قطع العلاقة ورحل بكل بساطة؟

أتُرى… هل يمكن للتاريخ أن ينحرف عن مساره؟

عندما التقيا أول مرة، أعطى هوا تشي انطباعاً بأنه طائش، مستهتر، ولا يبالي بشيء. 

لكن مع مرور الوقت وتعرّف تشو بينغهوان عليه أكثر، اكتشف أنه شخص مرح، منطلق، متفائل وصادق، رغم لسانه الكثير الكلام وعادته في أخذ الأمور بخفة. كان حديثه مليئاً بالمداعبات، لكنه كان طيب القلب وصادق النية. 

في ذلك الوقت، حين كانا مطاردين من وحوش شيطانية، واضطرّا للاختباء داخل كهف، قال هوا تشي وكأنه استسلم للموت:

"لقد وعدت شخصاً بالزواج، وها أنا على وشك أن تلتهمني الوحوش الشيطانية. ما أتعس حالي! أيها البطل، إن استطعت النجاة، أرجوك أرسل عظامي إلى هانغتشو، وسلمها إلى مربيتي العزيزة جيانغ."

لم يجد تشو بينغهوان رغبة في مجادلته حول سخافة فكرة إرسال العظام بعد أن يُلتَهم من الوحوش، فسأله ببساطة:

"زواج؟"

قال هوا تشي وهو يتكئ بكسل على جدار الكهف الحجري:

"أجل، زواج مرتب مسبقاً. أنا من عائلة مرموقة، أسير على طرق مرصوفة باليشم وأشرب من أوانٍ زجاجية. أنا… أعرف حدودي. 

كنت أنوي أن أقدم رمز الخطوبة وأفسخ الارتباط، لكن حين خرجت سيدة الدار وبّختني توبيخاً شديداً، غضبت وفقدت أعصابي، فبالغت في القول وادعيت أننا مثال للتوافق، وأنني لن أتزوج أي شخص آخر، وأننا مقدَّران لبعضنا البعض. وبعدها… طُردت."

"نصف السبب في مجيئي إلى طائفة الخلود شانغ تشينغ كان تحدياً لازدراء تلك السيدة لي، أما النصف الآخر فهو أنني حقاً لا أقبل أن أعيش حياة عادية. حتى لو لم أصل إلى التنوّر والارتقاء، فعلى الأقل أعيش بضع سنين أخرى، أرى العالم، وأحاول أن أنجز شيئاً جيداً، فلا أضيّع شبابي هباء."

"إذا كان لدى البطل وقت، هل تسدي لي معروفاً؟ فقط أخبره أنني متّ، وأن الخطوبة قد انتهت، وأن عليه الزواج بغيري. 

لن أتحول إلى شبح انتقامي لأطارده."

تشو بينغهوان: "…"

قال هوا تشي وهو يخرج قلادة اليشم من جيبه عن طيب خاطر: "حسناً، هذه هي الوديعة. أرجوك أعدها إليه من أجلي!"

في اللحظة التي استلم فيها تشو بينغهوان القلادة، انفجر عقله بدهشة، واتسعت عيناه في عدم تصديق وهو يسأل:

"ما اسم خطيبك؟"

أجاب هوا تشي بفخر واضح: "تشو بينغهوان، الابن الأكبر ليونتيان شويجينغ. مهيب، أليس كذلك؟"

انفجر تشو بينغهوان ضاحكاً في تلك اللحظة. 

سواء كان السبب هو هذا القدر الملعون الذي أغاظه، أو لسبب آخر، لم يعرف لماذا يضحك، لكنه وجد الأمر مضحكاً بحق.

لقد ظن أنها مصادفة عابرة، ولم يكن يتوقع أبداً أن هذا الغريب الذي أمامه هو خطيبه المستقبلي.

نظر تشو بينغهوان إلى هوا تشي، الذي بدا غافلاً تماماً عن حقيقة الموقف، وشعر بإرهاق شديد. قال:

"إن متَّ، هل أستطيع النجاة بأمان؟"

فأجابه هوا تشي وهو يقطّب حاجبيه أولاً، ثم يعود ليبتسم: "في تلك الحال، لن يكون أمامنا سوى أن نموت معاً. 

الموت برفقة رجل نبيل مثلك… يستحق أن يُعَد شرفاً في هذه الحياة."

"فقط من أجل هذا؟" أعادت ذكريات الماضي عرض نفسها في ذهن تشو بينغهوان، فتجمّد وجهه ببرود. "سمعت أنك تحمل شخصاً في قلبك."

اتجهت نظرات تشو بينغهوان نحو مو رونغ سا، الذي كان ينتظر في البعيد.

؟؟؟

نظر هوا تشي إلى تشو بينغهوان، ثم إلى مو رونغ سا. 

يا سيّد الخلود… هل أسأت الفهم؟

ثبت تشو بينغهوان نظره على هوا تشي، حاجباً عنه مجال الرؤية، وأجبره على النظر إليه وحده. 

وقال بنبرة حازمة: "هذه الخطوبة رتبتها جدتي وجدتك. إن لم يلتزم الصغير، فهذا يُعَدّ عقوقاً." 

ثم أخرج شيئاً من كمّه، ودسّه بالقوة في يد هوا تشي قائلاً: "لا تفقده."

أخفض هوا تشي بصره، فإذا به يرى قلادة اليشم المنقوشة بكلمة تيان يو.

لا.

كيف انتهى به المطاف عائداً إلى نفس النقطة بعد كل هذه الدوائر؟

هوا تشي: "يا سيّد تشو، أنا…"

"إلى أين أنت ذاهب؟" قاطعه تشو بينغهوان. 

هذا الطريق لا يؤدي إلى طائفة الخلود شانغ تشينغ.

بالطبع، لم يكن هوا تشي ليخبره بالحقيقة. 

وبينما كان على وشك اختلاق عذر عشوائي، تدخل مو رونغ سا، كالعادة باعثاً للفوضى، وقال: "مرحباً، هل انتهيتما من الحديث؟ 

تسجيل قاعة الكنز لينغ شياو ينتهي غداً ليلاً. علينا الإسراع إلى قمة لينغ شياو!"

هوا تشي: "…"

بدا على تشو بينغهوان الدهشة. "أأنت ذاهب إلى قاعة الكنز لينغ شياو؟"

لم يعد هناك مجال للاختلاق، فلم يجد هوا تشي بداً من الإيماء على مضض.

"لنذهب." قالها تشو بينغهوان وهو يمسك بمعصم هوا تشي بكل طبيعية، مضيفاً: "سأذهب معك إلى قاعة الكنز لينغ شياو."

كاد هوا تشي أن يتعثر.

ما الذي يجري؟

معاً؟ لا، لا، لا!

ألستَ من المفترض أن تذهب إلى طائفة الخلود شانغ تشينغ؟

كان هوا تشي يصرخ في داخله بجنون، لكنه لم يجرؤ على سؤاله مباشرة، فاكتفى برفع عينيه إلى السماء بوجه يائس.

قاعة الكنز لينغ شياو—

بيوت مبلطة، أكواخ قشية، أرضيات حجرية تتخللها شقوق جميلة كخيوط العنكبوت، وجدران مطلية بالأحمر الباهت، يتقشر طلاءها عند اللمس.

تحت شجرة باغودا عتيقة، كان هناك كرسي استلقاء، عليه شيخ يتمدد بكسل وهو يهز مروحة ورقية من سعف النخيل.

هذا هو الرئيس الحالي لقاعة الكنز لينغ شياو، غافلاً عن أن طائفته الآيلة للسقوط على وشك أن تستقبل ضيفين مرموقين:

أولهما، زعيم الطائفة الخالدة الأولى التي تمتد عبر العوالم الستة، ذو قوة زراعية قادرة على جعل الشياطين والأرواح الشريرة تفر من على بُعد ألف ميل.

والآخر، سيد عالم الأشباح والشياطين، المسيطر على طريقي الأرواح والأبالسة، المتسلّط عبر العصور.

أوه، وهناك شخص ثالث أيضاً—

شاب يطمح للجلوس جنباً إلى جنب مع الإمبراطور اليشمي، طامحاً لاعتلاء منصب سيد الطائفة: مو رونغ سا، الشاب المدلل.

هل وجدت خطأ؟ قم بالإبلاغ الآن
التعليقات

التعليقات [0]