توغّل هوا تشي في أعماق غابة القيقب الأحمر، ولم يصرّ كثيراً على البحث عن لو ياو.
استدعى هان شوي، ورفع الناي إلى شفتيه، وبدأ يعزف.
كان اللحن حزيناً حدّ الفاجعة. وكما قيل قديماً: “الناي الموجع يرسل الروح إلى حتفها”—ولم يكن القول باطلاً.
بعد أن دمجه بالجوهر، اصبح صوته المأساوي سلاحاً قاتلاً.
وفي لحظة، توقفت الطيور التي تحلق في السماء وهبطت إلى الأغصان، تغيّر الطقس، وبكت الأزهار والنباتات دموع الندى.
وحين تدفقت غمامة شيطانية من بعيد، لم يتوقف هوا تشي، بل شدّد نغماته أكثر فأكثر.
فتفرّقت الغمامة على الفور، كاشفة عن لو ياو بداخلها، وعيناه محمرّتان كالجمر، وأصابعه كالمخالب تنقضّ صوب عنق هوا تشي. لكنه لم يستطع اختراق الحاجز الذي شكله الجوهر حوله.
عندها أوقف هوا تشي عزفه برفق، وقال باستخفاف:
“تركيزك… ليس بالمستوى الكبير.”
كانت عينا لو ياو محقونتين بعروق الدم كشبكة العنكبوت.
أمسك رأسه كأنّه سينفجر، وتكلم بصوت مبحوح:
“أتريد حقاً أن تقضي عليّ تماماً؟”
ابتسم هوا تشي ابتسامة هادئة وقال:
“لا… إنما سأعيدك إلى طائفة شانغ تشينغ الخالدة.
وسينظر الشيخ غان يانغ في جرائمك.
أنا لا أسيء استخدام سلطتي.”
قهقه لو ياو بضحكة جافة مبحوحة:
“هيه… كنت أظن أننا قد نصبح يومًا ما أصدقاء مقربين، نتحدث في كل شيء بلا حواجز… لكن لم أتوقع—”
فقاطعه هوا تشي ببرود:
“لم تتوقع أن يكون مصيرنا أن نصبح عدوين لا يمكن التوفيق بينهما، لا يجتمعان تحت سماء واحدة.”
سواء في الحياة السابقة أو الحالية… لم يتغير شيء.
كان هوا تشي قد فكّر في قتله مباشرة، لكنه عدل عن ذلك في اللحظة الأخيرة.
وقال ببرود:
“حين نصل إلى جبل كونلون، ستركع عند سفحه وتصعد زاحفاً. ولا تنسَ أن تؤدي التحية على طول الطريق، وتستحضر أرواح التلاميذ الذين قتلهم لو مينغ فنغ… من أجل أبيك، ومن أجل نفسك. فهم كانوا إخوتك الكبار بعد كل شيء.”
ثم ألقى عليه تعويذة تقييد، وختم نواته الذهبية.
وأضاف:
“أظن أن الشيخ غان يانغ سيفعّل التشكيلة القديمة لطائفة شانغ تشينغ، لذا أودّعك هنا مسبقاً. في حياتك القادمة، أو التي تليها، إلى الأبد… لا تلتقِ بي مجدداً. وبأي حال، لا تتعرف إليّ أبداً.”
اختنق عقل لو ياو بالهواجس والظلمات، فانهمرت من عينيه دموع من دم، وجثا على الأرض باكياً بحرقة.
أكان يبكي يأساً لأنه أدرك أنه لا يستطيع المقاومة؟
أم كان يندم؟
يندم لأنه التقى هوا تشي حينها؟
يندم لأنه أنقذه؟
لو أن هوا تشي لم يمدّ له يد الإنقاذ في ذلك الوقت… لو أنه لم يعرفه أبداً… هل كان سينتهي به المطاف هكذا؟
ربما، لو باعته العصابة لتجار العبودية إلى فرقة مسرحية جوّالة، لكان مصيره أهون بكثير.
من يعلم؟
وفي خارج قاعه فين تشينغ، لم تكن أوضاع الطريق الخالد مطمئنة.
أولاً، كان مو تشي يان ما يزال غائباً عن الوعي، فلا يمكن الاعتماد عليه كقوة قتال.
أما مو رونغ سا، فرغم تحسّن زراعته، فإنه لا يزال صغير السن.
شيه وانتينغ كان قد أصيب إصابة خطيرة قبل شهرين، حين قاتل يين ووهوي وجهاً لوجه، ولم تكن إصابته أقل خطورة من إصابة مو تشي يان.
وحتى تشو تشانغ فنغ، الذي كان قد جرح أثناء مواجهته لو مينغ فنغ، لم يتعافَ بعد.
وقد أثقلته خمس سنوات متواصلة من معالجة جرحى المزارعين، فأنهكته تماماً.
أما قادة الطوائف الثلاث الكبرى، فجميعهم كانوا جرحى، وتلاميذهم بين إصابات بليغة وخفيفة، وجروح ظاهرة وباطنة.
وعلى الجانب الشيطاني، لم يبقَ سوى ثلاثة من العشرة زعماء.
صحيح أن الحارس الأيسر قُتل، لكن الحارس الأيمن لا يزال على قيد الحياة.
أما شانغ وانغليانغ، فلم يظهر قط—ويُشاع أنه في عالم البشر، وربما كان جزءاً من خطط يين ووهوي.
نظر تشو تشانغ فنغ إلى الشيخ غان يانغ وسأله بصوت متهدج:
“أيها الشيخ… ما هي فرصنا في الفوز؟”
قبل خمس سنوات، كانوا قد طلبوا من شيه وانتينغ اختبار ضباب اليشم البنفسجي المائي، ليتأكدوا أن أسطورته في قلب الزمان والمكان لم تكن سوى خرافة.
أغمض الشيخ غان يانغ عينيه للحظة، ثم أجاب بهدوء ثقيل:
“عشرون بالمئة.”
شهقت مي كايلين بدهشة:
“ضئيلة إلى هذا الحد؟”
قال الشيخ، والألم يلمع في عينيه:
“هذا تقدير متحفظ. كان لطائفة شانغ تشينغ ثمانية آلاف تلميذ. بعد خمس سنوات من الحرب المستمرة، قُتل ثلاثة آلاف، وأُصيب ألفان بجروح بالغة. ولم يبقَ سوى هؤلاء البقايا، يتشبثون بالمستقبل الواهي لعالم الزراعة. علينا أن نفكر في صنع السلام مع قاعه فين تشينغ.”
صاح أحد الطاويين العجزة بغضب:
“السلام!؟ بعد كل هذه الحروب، وبعد كل تلك التضحيات من أرواح المزارعين، أنصنع السلام الآن؟ ذلك عار على دمائهم!”
تنهد الشيخ غان يانغ وقال:
“وما خيارنا الآخر؟ هل نترك يين ووهوي يذبح مستقبل الطريق الخالد؟”
تدخل تشو تشانغ فنغ قائلاً:
“حتى لو أردتم السلام، فلا بد أن يقبل يين ووهوي. ماذا لو كان شرطه تسليم شيه وانتينغ؟ ماذا سنفعل حينها؟”
ارتبك الشيخ غان يانغ وقال متلعثماً:
“هذا…”
فقاطعه تشوانغ تيان:
“إن يين ووهوي يضمر حقداً أعمى لشيه وانتينغ. كلام السيد تشو صحيح.”
صلب الشيخ غان يانغ كتفيه، وقال بصرامة:
“بالطبع لن نسلمه! ألهذا الدرَك يحسبنا؟”
قال تشو تشانغ فنغ بقلق بالغ:
“استعدوا لكل الاحتمالات. إن ساءت الأمور… فلتكن.”
وفجأة، دوّى صوت تاو رانلي، تلميذ شيه وانتينغ الأكبر، الذي كان يعزف على القيثار من بعيد:
“انظروا! إنه السيد الشاب!”
أربك هذا النداء الجميع لحظة، قبل أن يدركوا عمن كان يقصد.
ففي البعيد، كان هوا تشي يطير على سيفه، وتحت قدميه كانت أوراق القيقب الحمراء مشتعلة، تتحول إلى بحر شاسع من اللهب!
صرخ تشوانغ تيان بعينين تلمعان بالسموم:
“إنه يين ووهوي!”
ومن وسط بحر اللهب، برز يين ووهوي، جسده مغطى بالدماء، وشعره مبعثر كالمجنون، يطلق صرخات لا إنسانية، صوته أجش متحشرج، وقد استُنزفت قواه.
أما شيه وانتينغ، فقد كان يجرّ نفسه بعيداً ممسكاً بآلة جيويو، متقهقراً من ألسنة اللهب.
وصل تشو بينغهوان في اللحظة المناسبة، فأغلق خطوط الطول لمعلمه المصابة وختمها، ليمنع جراحه من التفاقم. ثم صاح بقوة إلى هوا تشي من بعيد:
“نار الأرواح!”
أومأ هوا تشي برأسه، وأطلق قوته الروحية ليكبح ألسنة نار الأرواح الطاغية.
وفي الوقت ذاته، نسج تعويذة جعلت السماء تمتلئ بشظايا من النور.
وما إن تفرقت، حتى انهمرت إلى الأرض، تتحول إلى حشود من الناس.
لقد كانوا المزارعين الذين شاركوا في الهجوم الأول على قاعه فين تشينغ!
والأعجب، أنه لم يُصب أي واحد منهم بأذى من نار الأرواح التي أطلقها يين ووهوي!
هتف تشو تشانغ فنغ بدهشة عارمة:
“ما هذه الحركة؟ كيف استطاع أن ينقذ أكثر من ألفي شخص في لحظة واحدة؟”
كان مو رونغ سا مذهولاً كذلك، ففغر فمه وقال بتلعثم:
“كيـ… كيف أصبح فجأة بهذه القوة الخارقة؟”
استمرت نار الأرواح في التهام كل ما حولها، فسقطت شجرة ضخمة تلو الأخرى، وتحول القصر العظيم لقاعه فين تشينغ إلى أنقاض يباب، لا أثر فيه للحياة.
قبض تشو بينغهوان على سيفه بقوة، فانطلقت هالة السيف المهيبة تجتاح المكان. ومع مرورها، أخذت النباتات الميتة تتجدد، وبزغت براعم خضراء ندية من الأرض المحترقة. هبّت نسمة رقيقة، فطهّرت الهواء من رائحة الدماء الكثيفة.
وكأن فأراً قد كُشف في وضح النهار، ارتبك يين ووهوي محاولاً تغطية وجهه وهو يلهث باحثاً عن الظلام:
“شي جين… ابني…”
كان جريحاً جرحاً بليغاً، بالكاد متشبثاً بخيط الحياة.
وفجأة، انطلقت منه ضحكة جنونية، وعيناه المحمرتان بالدموع تحملان حناناً ملتويًا وهو يرمق هوا تشي من بعيد:
“تعال، وانضم إلى هذا الملك الشيطاني في الجحيم!”
تغيرت ملامح تشو تشانغ فنغ بحدة وهو يصيح:
“لا! إنه يعتزم التفجير الذاتي!”
رفع هوا تشي يده اليمنى بحركة خفيفة، فعاد إليه سيفه النسيم الرقيق محلقاً في الهواء.
ثم ما لبث أن اختفت صورته أمام أنظار الجميع، تاركاً خلفه أثرًا قرمزيًّا كوميض البرق، ليظهر في اللحظة التالية خلف يين ووهوي.
اندفع الدم متفجراً، وقد شُقَّ حنجرة الشيطان العظيم بضربة واحدة.
ارتجف جسده بتشنج وانهار على الأرض.
ومع ذلك، كدودة أرض قُطعت أشلاء، لم يمت بعد؛ بل أخذ يصدر أصواتاً غرغرت من حنجرته الممزقة، لا يفهمها أحد.
تشو تشانغ فنغ، الذي كان قد استعد للموت في معركة يائسة: “…”
الشيخ غان يانغ، الذي كان يفكر في التراجع التكتيكي: “…”
تشوانغ تيان، الذي همَّ بحمل تلميذه والهرب: “…”
مي كايلين، مذهولة تماماً: “…”
هكذا إذن؟ ملك الشياطين، الذي ادعى يوماً أنه سيهيمن على كل شيء… مات هكذا؟
بضربة واحدة في الحلق، وانتهى الأمر؟
ألقى هوا تشي نظرة هادئة إلى الحشد، بعينيه المليئتين بالبرود كنسمة صيف عليلة، وكأنما يقول:
“ماذا كنتم تتوقعون؟ أتظنون أن الأمر أعقد من ذلك؟”
الجميع: “…”
أما المزارعون الشياطين الذين ما زالوا يقاتلون فقد تجمدوا في أماكنهم، مذهولين. في البداية ارتجفوا من الصدمة، ثم ارتسمت على وجوههم علامات عدم التصديق، وفي النهاية… لم يجدوا بداً من التسليم بالواقع.
وكما يقول المثل: “إن أردت القبض على اللص، فاقبض على زعيمه أولاً.”
وإذا كان ملك الشياطين نفسه قد سقط بضربة واحدة، فما أملهم هم في صنع فارق؟
لم يتبقَّ سوى ثلاثة من الزعماء الفرعيين، وهم بالكاد يصلحون أن يكونوا وجبة خفيفة لـ هوا تشينغ كونغ.
أما الحارس الأيمن، شانغ وانغليانغ، فما زال في العالم البشري ولم يعد بعد.
وحتى لو عاد، فهل سيكون خصماً يليق بمواجهة تشو بينغهوان؟
غمر اليأس قلوبهم.
وفي خضم الفوضى، كان هناك مبتدئ حديث العهد في درب الشياطين، لا يزال يجهل خفايا الأمور. نظر حوله بارتباك، ثم قال بكل بساطة:
“في عالم الشياطين، القوي يحكم. ووفقاً لقواعد قاعه فين تشينغ، من يقتل ملك الشياطين يصبح هو الملك الجديد. إذن… أليس هوا تشينغ كونغ هو الملك الآن؟”
فما كان من رفيقه إلا أن ضرب رأسه بقبضة ممتلئة غيظاً!
لكن هوا تشي، وقد سمع هذا، كاد ينفجر ضاحكاً.
التفت ليرى من الذي تفوَّه بمثل هذه ' الحكمة الإلهية '…
فإذا به ليس سوى ذلك الأبله الثاني من سجن الماء!