في المخيّم، كان تلاميذ طائفة يونتيان شويجينغ يذهبون ويعودون على عجل، يعتنون بالمزارعين الجرحى الذين كانوا يُجلبون تباعاً.
ورغم الفوضى الظاهرة، إلا أن وجود تشو تشانغ فنغ حافظ على الانضباط، ومع وجود تشو بينغهوان أيضاً، كانت كفاءة علاج المصابين باهرة، إذ تعافت حالات كثيرة بسرعة.
لكن، ورغم بُعد المخيّم عن قاعه فين تشينغ، انتشرت الأنباء المدهشة عن أصل هوا تشي انتشار النار في الهشيم، وظلّ الناس يتهامسون بها بلا توقف.
“إذن، والد هوا تشينغ كونغ ليس يين ووهوي، بل السيّد شيه ونتينغ؟”
“أمر لا يُصدَّق! من ابن شيطان… إلى شاب سيّدٍ من أحد الثلاثة العظام في طوائف الخلود!”
“أليست والدة هوا تشينغ كونغ في الأصل مجرّد عاهره في بيت دعارة؟ كيف التقت بسيّد شيه؟”
ضحك آخر بصوتٍ عالٍ:
“ألا تعرف؟ كان اسمها الحقيقي هوا شي جين، وهي أصلاً ابنة عائلة نبيلة. لكن عائلتها أُبيدت على يد يين ووهوي، فاحتواها السيّد شيه. وكانا في الأصل مخطوبين منذ الصغر، فكان طبيعياً أن ينتهي بهما الحال معاً.”
“يا للعجب، ومن أين سمعت كل هذا؟”
“الخبر متداول منذ انسحابنا من قاعه فين تشينغ.
لا أعلم أهو صحيح أم مجرّد إشاعات.”
“إن كانا قد اجتمعا، فلماذا تفرّقا لاحقاً؟”
“مَن يدري؟ الأغلب أنّ للأمر صلةٌ بذاك يين ووهوي اللعين!”
“مهلاً، إن كان الأمر هكذا، فمعنى ذلك أن يين ووهوي هو عدوّ هوا تشينغ كونغ! فجدّته من الأم وأهلها جميعاً قتلهم بيده!”
“الويل… لقد كاد هوا تشينغ كونغ يُخدع به، معتقداً أنه ابنه، بينما هو عدوّه!”
“حقاً، حُسناً أن ظهرت الحقيقة أخيراً.”
وبينما كان الجو مشحوناً بالقيل والقال، جلس شيخ عجوز كان قد نجا من إصابته بعد أن عالجه أحد أطباء الطائفة. لم ينسَ أن يُلقي نكتة وهو يضحك متهكّماً:
“هوا تشي وتشـو بينغهوان… وسيمان، موهوبان، كأنهما صُنعا لبعضهما. بل كان بينهما خطوبة منذ الصغر. كنت أبارك لهما من قلبي، لكنّي خفت أن يُفسد يين ووهوي الأمر بينهما فلا يلتقيان. والآن وقد تكشّف أنّه ابن السيّد شيه، سيّد قصر يي يو، بينما الاخر وريث طائفة يونتيان شويجينغ… يا للانسجام المثالي! لا شكّ أن السيّدة مي راضية في قبرها!”
الطبيب لم يجرؤ على أن يشارك في المزاح، فاكتفى بخفض رأسه والانهماك في معالجة جروحه.
أما تشو تشانغ فنغ، فكان يراقب وضع هوا تشي بعينٍ قلقة. تنفّس بحسرة وقال:
“الختم الذي وضعه يين ووهوي على نواتك الذهبية لا يقدر على فكه سوى هو نفسه. والآن… لا يوجد بيننا مزارع أقوى منه. لذا، بشأن وضعك الحالي…”
لكن هوا تشي بدا غير مكترث. لم يَعُد يهتمّ كثيراً بمسألة ختم نواته الذهبية. ففي نصف يومٍ واحد، صُدم بأمور كثيرة جدّاً:
حقيقة ون يوان، سرّ ولادة نفسه، عودة تشو بينغهوان بالبعث… وحتى ارتباطه بالسيّد شيه. كلّ واحدة منها كافية لزلزلة قلبه، فكيف وقد اجتمعت جميعاً؟ لقد شعر بالإرهاق حتى العظم.
ألقى نظرةً نحو الغرفة الداخلية، وقال بفتور:
“حين دخلت، رأيتُ السيّد الكبير يتأمّل شيئاً بتركيز… هل هذه طريقة للتعامل مع يين ووهوي؟”
ابتسم تشو تشانغ فنغ بخفة، وعيناه تومضان بالمعرفة:
“لقد أصبتَ في حدسك بالفعل.”
لم يكن هوا تشي يتوقع أن تصيب كلماته العابرة الهدف. ومع ذلك، تبع تشو تشانغ فنغ إلى الغرفة الداخلية. على الطاولة، غُطّي شيءٌ بقطعة حرير قرمزية.
كشف تشو تشانغ فنغ القماش من غير لفٍّ ولا دوران، وقال بهدوء:
“إنه هذا.”
عندما وقعت عيناه عليه، شهق هوا تشي:
“الكونغهواو—ضباب اليشم البنفسجي المائي؟!”
ابتسم تشو تشانغ فنغ:
“في عيد ميلاد السيّد شيه، استبدله يين ووهوي خفيةً. البارحة، أنا وتلاميذي تسلّلنا إلى قاعه فين تشينغ. رغم المخاطر العظيمة، استطعنا استرجاعه. أما عن أسطورته، فأظنّك تعرفها.”
أومأ هوا تشي:
“يُقال إن عزف هذه القيثارة يقلب الليل نهاراً، ويعيد الزمن للوراء.”
“صحيح.”
لكن هوا تشي تردّد، متفحّصاً الآلة:
“أيمكن أن تكون بهذا القدر من المعجزة؟”
ردّ تشو تشانغ فنغ بجدّية:
“لم يثبت أحد ذلك من قبل. ثم إنّ قوتها لا تُستثار بيد أي إنسان. يلزم عازفٌ متمكّن، عالمٌ بأسرار الموسيقى، عميق في زراعة فنونها.”
سأله هوا تشي مباشرة:
“تقصد السيّد شيه، أليس كذلك؟”
ابتسم تشو تشانغ فنغ كأنّه يعرف أكثر ممّا يقول:
“هوا تشي، لا تلُمْني إن كنتُ مطّلعاً على خفايا الأمر. الجميع يتحدثون. السيّد شيه بالفعل والدك الشرعي. وبعد هذه الحرب، سيعلنها للملأ ويعترف بك رسمياً.”
لكن هوا تشي لم يُبدِ ابتهاجاً عظيماً، بل ظلّ متماسكاً:
“بصراحة، يا كبير، الأمر جاء فجأة… ثمّ إنّ العالم يغلي بحربٍ بين الخالدين والشياطين، فلا معنى للكلام عن المستقبل الآن.”
أطرق تشو تشانغ فنغ:
“انت محق. حتى نحن لا نعلم إن كنا سنخرج أحياء.”
ثمّ أشار إلى الآلة المخبّأة تحت الضوء:
“السيّد شيه ما زال في قاعه فين تشينغ، ولن يعود قريباً. فلمَ لا تجرّبها أنت أولاً؟ الجميع يشهد بتفوّقك في فنون الموسيقى.”
اقترب هوا تشي بخطواتٍ متردّدة، وقد خالجته نوبة دوار غريبة. لكنه تماسَك، ثم تمتم:
“أسطورة… لا أكثر. فلو كانت قيثارةً تغيّر الزمن حقاً، لكان من المفترض أن يفيض حضورها بهالةٍ سماوية مهيبة… لكنّها لا تختلف عن أي قيثارةٍ قديمة.”
ضحك بخفّة على قلقه غير المبرّر، ومدّ يده نحو الأوتار، وهو يسأل:
“هل ينوي السيّد تشو استخدامها للعودة بالزمن والقضاء على يين ووهوي قبل أن يُصبح ما هو عليه؟”
ارتسمت ابتسامة غامضة على شفتي تشو تشانغ فنغ:
“بصيرتك حادّة يا هوا تشي، تكشف ما في قلبي بنظرة واحدة.”
لكن هوا تشي أطرق، والعبارة تتردّد في ذهنه: إعادة الزمن إلى الوراء.
إن كان هذا الكنز موجوداً حقاً، فهل تسمح قوانين السماوات لمجرّد مزارع بالتحكم بهواه بالزمن؟ ماذا لو انقلب السحر على الساحر، فدفع الزمن عشر سنوات إلى الأمام؟ أو عكس الفصول والليل والنهار، فحلّ الخراب على العالم؟
لم يثبت أحد صحّة الأسطورة، ولذا فإن ظهور هذه القيثارة قد يكون طوق نجاة… أو بداية كارثة.
وبينما غاص في تفكيره، لمست أصابعه الوتر الأول.
فجأةً، غشيت الرؤية عينيه، وغاص قلبه في هوّةٍ بلا قرار، كأنّه يسقط بلا نهاية.
ومن بعيد، بدا وكأنّ ظلّاً يركض نحوه وهو يناديه بفزع:
“…هوا تشي!”
أكان ذلك صوت تشو بينغهوان؟
لكن قبل أن يميّز بوضوح، غرق في العتمة وفقد وعيه.
لم يكن يدري كم من الوقت مضى حين استعاد وعيه ببطء، ليجد أمامه… يونتيان شويجينغ؟
انبهر هوا تشي وحاول أن ينهض، غير أنّه اكتشف أنه لا يستطيع الحركة. كان منظره غريبًا، إذ بدا موقع نظره منخفضًا للغاية، ولمح في بعض الأحيان سيقان أشخاص يمرّون بجانبه، فاستيقظ كليًا على وقع الصدمة.
لم يكن إنسانًا.
لقد صار شيئًا جامدًا!
بذل هوا تشي جهدًا كبيرًا ليحرّك مجال رؤيته، حتى تبيّن له أخيرًا ما آل إليه حاله.
كان قد أصبح ضباب اليشم البنفسجي المائي!
لا، انتظر… بل الأمر أشبه بـ تقمّص.
لقد امتصّ الضباب روحه بالكامل.
غير أنّ هذا لم يكن جوهر الأمر—المهم، لماذا استيقظ داخل يونتيان شويجينغ؟
هل انتهت الحرب بين الخالدين والشياطين؟
وأين كان تشو بينغهوان؟
فجأة أدرك هوا تشي أنّ الشخص الذي عبر أمامه منذ لحظات لم يكن سوى… مي كايلين.
وبعد برهة، دخلت تلميذة ترتدي ثيابًا خضراء، وأخذت ترفع التقارير عن شؤون الطائفة، وختمت بقولها:
“السيد الشاب ما زال في غيبوبته.”
ظهر القلق جليًا على وجه مي كايلين، فوضعت يدها على صدغيها، وأشارت للتلميذة بالمغادرة.
مرّت خمس ساعات كاملة جلست خلالها على أريكة ناعمة مستندة برأسها إلى الخلف، تغمض عينيها في تأمل، حتى بزغ الفجر. لكن فجأة، كأن كابوسًا مروّعًا اجتاحها، فاستفاقت بفزع، تتنفس بسرعة وتصرخ:
“أحدهم! أسرعوا!”
هرعت خادمة على الفور إلى الداخل، فأمسكتها مي كايلين بيد مرتجفة وسألتها:
“هل استيقظ تيان يو؟ أفاق أم لا؟”
بادرت الخادمة بطمأنتها قائلة:
“سيدتي، لقد تعرّض السيد الشاب لارتداد من تشكيلة الوهم العلوي الصافي. سيستغرق الأمر سنوات قبل أن يتعافى ليستعيد وعيه. لن يحدث ذلك بهذه السرعة.”
تجمّد هوا تشي في مكانه.
هل يُعقل… أن يكون هذا زمنًا من الحياة سابقة!؟
تمتمت مي كايلين، وقد أنهكها التعب جسدًا وروحًا:
“اذهبي وتفقدي البركة الباردة بسرعة. إن استيقظ، أخبريني حالًا.”
ورغم أنّه لم يفهم كنه ما يجري، فإن هوا تشي تذكّر المشهد الذي رآه قبل أن يغيب عن وعيه. لم يفعل سوى أن لمس آلة القانون (القيثار-الغوتشين)، من غير أن يعزف عليها، ومع ذلك حدث كل هذا!
كانت الأسطورة تقول إن آلة القانون تلك قادرة على الرجوع بالزمن، بل وتغيير المستقبل. والآن بدا أنّ تلك الأسطورة ليست سوى محض وهم.
بل على العكس، فقد كان القانون قادرًا على سحب روح العازف إلى خارج جسده، لينقله إلى عوالم غريبة متباينة، عبر خطوط زمنية مختلفة.
ولم يكن في مقدور هوا تشي أن يجد مهربًا.
ومضت ثلاثة أيام كلمح البصر.
وبما أنّ آلة القانون حُفظت داخل غرفة مي كايلين، لم يكن يرى أو يسمع سوى ما يجري في تلك الغرفة، دون أدنى علم بما يحدث في الخارج.
كثيرًا ما جلست مي كايلين وحدها شاردة الذهن، أو غارقة في التأمل، وأحيانًا لا تعود إلى غرفتها إلا بعد نصف شهر.
مضت الأيام، وتعاقبت الشهور، حتى انقضت ثلاثة أشهر كاملة. وبينما كان هوا تشي غارقًا في سبات عميق، دوّى فجأة صوت صارم يخترق صمته:
“توقف!”
ارتاع هوا تشي، واستيقظ مذعورًا، ليفتح عينيه على مشهد مي كايلين في الغرفة، تحدّق بحدة شديدة نحو شخص لم يكن سوى تشو بينغهوان، الذي استعاد وعيه منذ سبعة أيام فقط.
صرخت مي كايلين غاضبة:
“هوا تشينغ كونغ مات! وقد أعدمته طوائف الخالدين.
ومع ذلك ما زلت تفكّر في البحث عنه؟ أجننت!؟”
فتجمّد بصر تشو بينغهوان كحدّ السيف، وقال بصوت بارد جليدي:
“لقد تعرّض للظلم.”
“أظنّك أنتِ من جُنَّ عقله!” صاحت مي كايلين: “لم يكتفِ بقتل لو مينغ فنغ، بل اتّهمه زورًا بقتل تلاميذه بوحشيّة! لقد تحالف مع يين ووهوي وذبحا أكثر من خمسة آلاف تلميذ من طائفة شانغ تشينغ الخالدة! أيّ جنون ووحشيّة هذه؟ لماذا تدافع عنه؟”
اسودّ وجه تشو بينغهوان كالسحاب الملبّد بالرعد وقال بصوت ثقيل: “أأنتم جميعًا متحيّزون ضده؟ لِمَ تنقلون حقدكم على يين ووهوي إليه؟ أليس بريئًا؟ لو تقدّم شخص آخر اليوم واتّهم لو مينغ فنغ، لو كنتُ أنا مثلًا، فهل تظنّين أن أولئك الذين يصرّون على أنّ هوا تشي افترى وأضرّ بالآخرين سينظرون إليّ بنفس تلك العيون؟”
لم تجد مي كايلين ما تقول للحظة.
ضحك تشو بينغهوان ساخرًا من نفسه: “هل وُلدتُ أنا نبيلاً؟ لقد كنت محظوظًا بميزة ميلادي فحسب! أما هوا تشي، قبل حادثة يين ووهوي، ألم يكن محلّ تقدير وإعجاب، يسطع كالقمر المشرق بصفته كبيرًا محترمًا في طائفة شانغ تشينغ الخالدة؟”
أثار كلامه غضب مي كايلين وأحرجها، فهتفت بحدّة:
“هل سحرك؟!”
قال تشو بينغهوان ببرود: “أهو حقًّا كما تصفه الكتب، آثم لا يُغتفر؟ لماذا اختفى قصر السكارى فجأة من هانغتشو؟ ولماذا اختفت الجَدّة جيانغ؟ لماذا، رغم بحثي في أصقاع الدنيا، لم أجد أيّ أثر لهما؟ لِمَ يلتزم عالم الزراعة الصمت تجاه هذين الأمرين؟ أهو الذنب؟ أم لأنّ الأساليب كانت قذرة لدرجة يخشون معها أن يسخر حتى المزارعون الشياطين إن كُشف الحقّ؟”
صرخت مي كايلين: “تجرؤ!”
وضربت الطاولة بكفّها ثم رفعت يدها لتصفعه.
وما إن سقطت الصفعة حتى أدركت خطأها، وراودها الندم. أرادت أن تطيّب خاطره، غير أنّ تشو بينغهوان، بوجه لم يتغيّر، قال: “شخص صلبٌ مثله، لِمَ يركع ويخضع؟ لِمَ يركع في جبل كونلون؟”
ارتبكت مي كايلين: “بينغهوان…”
قال وهو يولّيها ظهره، يمشي بخطى واسعة: “لقد استخدموا حيلاً للإيقاع بهوا تشي، وهم يعلمون ما فعلوه. فلا تتصنّعوا أمامي القداسة وتتشدّقوا بالعدل… هذا يُثير اشمئزازي!”
هوا تشي: “……”
هكذا إذًا كان تشو بينغهوان يظنّ في ذلك الوقت.
لقد وثق بي، وظلّ بجانبي.
مضى زمن طويل بعد ذلك، يغمره الظلام من كل صوب، وصوت ما يناديه مرارًا. بدا الصوت صوت تشو تشانغ فنغ. ظنّ أنّه قد تحرّر أخيرًا من آلة الكونغهواو، لكن فجأة اختفى صوت تشو تشانغ فنغ، وحلّ محله نور مبهر.
ما زال داخل الكونغهواو، وما رآه هو هيئة تشو بينغهوان الغاضبة.
كان يرتدي البياض الناصع نفسه، لكن هذه المرة يعلو رأسه التاج اليشمي الفريد بزعيم يونتيان شويجينغ. خطواته كانت مضطربة، وبعد أن ثبت نفسه أخيرًا، سأله ببرود: “ما الذي فعلته بي بالضبط؟”
أصيب هوا تشي بالذهول، وقدّر بحذر أنّ ما لا يقلّ عن مئة عام قد مرّ، وأنّ تشو بينغهوان ورث منصب زعيم الطائفة.
قالت مي كايلين وهي متكئة على أريكة ناعمة ببرود:
“أتفكّر فيه مجدّدًا؟ لقد أبيدت ست وعشرون عائلة توا، وأنت ما زلت تفكّر فيه؟”
ارتجف قلب هوا تشي، لقد مرّت في الواقع ثلاثمئة سنة!
نهضت مي كايلين ببطء، وجهها الحاني يبدو مفعمًا بالاهتمام: “لا تقلق يا بُني. أمّك لن تفعل أبدًا ما يضرك.”
غمر السواد ملامح تشو بينغهوان: “لِمَ تتجمّد نواتي الحقيقي كلّما فكّرت في هوا تشي؟”
أجابت بلا رمشة عين: “فلا تفكّر فيه إذن.”
تشو بينغهوان: “قولي لي الحقيقة.”
ابتسمت بنعومة كالماء يتدفّق على وجهه: “حسنًا. حتى أمنعك من ارتكاب ما لا رجعة فيه يومًا ما، سأكون صادقة معك. هذا لمصلحتك، ولمصلحة هوا تشينغ كونغ كذلك.”
بحسب مستوى زراعته، استطاع تشو بينغهوان أن يخمّن لبّ الأمر: “ألقيتِ عليّ لعنة؟”
“نعم.” أجابت مي كايلين بلا مواربة. “تشبه بعض الشيء دودة ' حرق القلب ' التي يستخدمها يين ووهوي، لكنها مختلفة. حين تفكّر في محبوبك، يتعطّل نموّك فحسب دون أن يُمسّ جسدك. غير أنّ…”
استدارت، شفاهها القرمزية ترتسم بابتسامة ساحرة:
“تُسمّى هذه اللعنة ' اللوتس الأحمر '. إن كان الحبّ ضحلاً أضرّ بك، وإن كان عميقًا أضرّ به. فكّر جيّدًا.”
تبدّل وجه تشو بينغهوان بشدّة، بما يفوق الصدمة.
هوا تشي نفسه بُهت.
لقد قرأ عنها في كتب قديمة محفوظة في قاعه فين تشينغ. وبسبب وحشيّتها وقلّة رحمتها، صُنّفت كأحد المحرّمات.
فلعنة اللوتس الأحمر موجّهة خصيصًا لأصحاب العاطفة.
فإذا استبدّت بهم المشاعر، تجمّدت نواتهم وتوقّف تقدمهم.
وإذا عانقوا أو قبّلوا محبوبهم، انعكست اللعنة عليهم كألم يمزّق عروقهم، وقلب يُعصر بقسوة.
وإن بلغ حبّهم مبلغ الغرام العميق ودخلوا في وصالٍ حميم، تحوّلت اللعنة إلى أفعى سامّة تنبعث من جسد الملعون، لتلتفّ على المحبوب وتقضي على زراعته، ثم تذروه رمادًا!
بمعنى آخر: لو ضاجع تشو بينغهوان هوا تشي… لمات هوا تشي!
وقد قيل دومًا: “خيرٌ أن تُهدم عشرة معابد من أن تُفسد زيجة واحدة.” لكن هذه اللعنة تحمل ضغينة عظيمة، لذلك حُرّمت تحريمًا صارمًا. ولا يلجأ إليها إلا من يسعى لنهج طريق انعدام القلب، ليجبر نفسه قسرًا على بلوغ غايته.
أطلّت من عيني تشو بينغهوان نظرة مثل سيف غارق في الدم: “متى بالضبط…؟”
قالت مي كايلين بهدوء: “منذ ثلاثمئة عام، حين أصابك ارتداد من مصفوفة الوهم في شانغ تشينغ، زرعتها فيك أثناء علاجك. وبعد مضيّ هذه القرون، اندمجت اللوتس الأحمر في دمك. لا سبيل لكسرها. وفوق ذلك، قد اقتطعت نصف روحي لألقيها عليك. إن كسرتها بالقوّة… متّ أنا أيضًا.”
ارتجف جسده كلّه: “لماذا؟! لِمَ فعلتِ هذا!”
قالت بجمود: “حتى لو لم تبح لي، كنت أعلم ما رأيتَ داخل مصفوفة الوهم آنذاك.”
ثمّ أردفت بغضب مكتوم: “لقد سحرك ذاك الفتى! لماذا وحدها تلك المرّة لم تستطع الفرار من الوهم؟ بسبب هوا تشينغ كونغ! لقد وقعتَ في الحب، فسُجنت في الوهم، عاجزًا عن الخلاص! سيؤذيك عاجلًا أو آجلًا، هو بلاؤك المحتوم!”
“لقد كنت محظوظًا إذ نجوت من مصفوفة الوهم حيًّا، فماذا إن تكرّر الأمر؟ كم حياة لديك لتجازف بها؟! والده هو يين ووهوي! أستقف في وجه العالم أجمع لتسانده؟ هذا ما لا يمكنني السماح به!”
ثم خفّت حدّتها فجأة، فأمسكت بذراعيه وتوسّلت بصدق: “بينغهوان، أمّك تفعل هذا لأجلك! لولا هوا تشينغ كونغ، لكنتَ اليوم بلغت الذروة! لكنت تتهيّأ للصعود إلى السماء، لتصبح من الخالدين!”
كان صوتها يفيض رجاءً: “لا تفكّر به بعد الآن، انسَه يا بينغهوان. لستما مقدّرين لبعضكما! لن تكون عاقبة أمركما إلا سوءًا! ركّز في زراعتك، وسر في دربك!”
ظلّ تشو بينغهوان صامتًا طويلاً، ثم فجأة ضحك بخفوت: “لقد جعلتُ يونتيان شويجينغ بالفعل الطائفة الأولى في عالم الخلود. ما الذي تريدينه أكثر؟”
“بينغهوان…”
“قد تكونين أمّي بالدم، لكنّك لا تعرفين ما أريده حقًّا…”
“… كلّ ما أريده هو هوا تشي.
لِمَ يكون ذلك صعبًا إلى هذا الحد؟”