لم يعرف هوا تشي أكان عليه أن يبكي، أم يضحك، أم يغضب، أم يهرب بعيداً.
تذكّر كل ما فعله تشو بينغهوان، وتذكّر ذلك اليوم في جناح هوا له، يوم باح له باعترافٍ عاطفي، فشعر هوا تشي بالارتباك. أيمكن أن تكون تلك مجرد أوهام؟
في حياته السابقة، كان تشو بينغهوان يكرهه بوضوح… أليس كذلك؟
“هوا تشي.”
عاد تشو بينغهوان مسرعاً بعدما أنهى أمره هناك، وقد بدا مرتاحاً حين رآه واقفاً بسلام.
قال بعجلة:
“عمي قال إن هناك معسكراً أقيم على بُعد مئة ميل من قاعه فين تشينغ. وبما أن نواتك الذهبية مختومة، ولا يمكنك المشاركة في القتال، فسآخذك إلى هناك!”
لم يقل هوا تشي شيئاً، بل رفع حاجبيه وهو يحدّق في تشو بينغهوان.
لقد نشآ معاً منذ الطفولة، رفيقا دراسة وأخوة في الطائفة، متشابكين عبر حياتين. كانا على دراية ببعضهما لدرجة أنّ نظرةً واحدة تكفي ليفهم أحدهما الآخر.
وبتلك النظرة وحدها، فهم تشو بينغهوان ما يدور في خاطر هوا تشي.
وبينهما، انشقّت ورقة النافذة الرقيقة المسماة ' التناسخ ' دون كلمات.
لم تكن هناك حاجة للمزيد من الكلام، فالمعركة الكبرى كانت على الأبواب.
كان تشو بينغهوان يظن أنّ هوا تشي سينفجر غاضباً في وجهه، ويوبّخه بلا رحمة.
فقد أعطاه الأمل في حياته الماضية، ثم أتبعه بخيبة، ثم بائس اليأس.
فكيف يجد الجرأة ليسعى وراءه مجدداً في هذه الحياة؟ بل ويعترف له بلا خجل في جناح هوا له…
بل إن تشو بينغهوان كان يتمنى في سرّه أن يوبّخه هوا تشي.
لكن أمله تحطّم، إذ اكتفى هوا تشي بابتسامةٍ صامتة دون أن يتفوّه بكلمة.
ازداد قلق تشو بينغهوان، إذ خشي أن يكون هوا تشي قد فقد كل مشاعرٍ تجاهه، حتى الرغبة في توبيخه لم تعد موجودة.
“هوا تشي، انتظر…” ناداه بلهفة، لكنه لم يجد ما يقوله بعدها. تردّد طويلاً، ثم استطاع أن يعصر من قلبه بضع كلمات مرتبكة:
“هل… تكرهني؟”
تجمّد هوا تشي لحظة، قبل أن يستوعب، ثم انفجر ضاحكاً:
“ولِمَ أكرهك؟”
لكن تشو بينغهوان بقيت الكلمات ثقيلة في حلقه.
قال هوا تشي بهدوء:
“أنت لم تكن مديناً لي بشيء. إنما خطئي أنا، إذ سلكت الطريق الشيطاني، وأصبحت سيد الشياطين، أقتل بجنون، وأتلذذ بالدماء. هويتنا لم تكن متساوية يوماً.
كنتُ واهمًا حين طلبتُ المستحيل منك. لولا أنني تعلّقت بك بيأس، لكان ذهنك صافيًا بلا شواغل، وربما كنتَ قد صعدت منذ زمن طويل.”
نظر هوا تشي إليه بابتسامةٍ مريرة، اختلطت فيها مرارة لم ينتبه هو نفسه لوجودها، وقال:
“ولِمَ أكرهك؟ من البداية إلى النهاية، لم أُلْم أحداً غير نفسي.”
لكن كلمات هوا تشي الصادقة كانت كالسكاكين تمزّق قلب تشو بينغهوان.
قال بصوتٍ متهدّج:
“أنت لم تُؤخِّرني قط.”
وتذكّر آخر ما قاله هوا تشي قبل موته في حياته السابقة، فاشتدّ وجعه:
“أنا من اشتهيتك أولاً!”
تجمّد هوا تشي مذهولاً:
“هاه؟”
تابع تشو بينغهوان بلهفة:
“في أحلامي، كنّا قد تزوّجنا منذ زمن، نعيش حياةً عادية معاً.”
ازدادت حيرة هوا تشي، ولم يفهم كلمة مما قاله. كما أنّ اللحظة الراهنة لم تكن تسمح بحديثٍ من القلب إلى القلب.
فقد تقدّم يين ووهوي بخطواتٍ مزلزلة، يهتف بصوتٍ أجشّ:
“هوا تشي، أنت ابني! أنت ثمرة اتحادي مع هوا شي جين! “
لم يعلم هوا تشي ما الذي يحدث. كان يين ووهوي مضطرباً حتى قبل أن يسجنه، أما الآن فقد بدا أكثر جنوناً وهياجاً.
هل قال تشو بينغهوان شيئاً أثار غضبه؟
هبط يين ووهوي متجاهلاً تشو بينغهوان الذي وضع سيف الأستماع الى الربيع على عنقه. مدّ يده، وقبض على معصم هوا تشي، تفوح منه رائحة الدم القوية، وهو يزمجر بأسنانه:
“أنت لي! لن يأخذك أحد مني! كل من يشتهيك سيموت… سيموتون جميعاً!”
ظلّ هوا تشي هادئاً على نحوٍ يثير الريبة. بل لم ينسَ، في لحظةٍ حرجة كهذه، أن يصب الزيت على النار:
“إذن أنا ابنك حقاً. ختمتَ نواتي الذهبية وجعلتني عاجزاً عن المقاومة. لولا أنني كنت محظوظاً على طول الطريق، لتمزّقتُ أشلاءً على يد مزارعي قاعه فين تشينغ الشياطين!”
وبالفعل، ازداد جنون يين ووهوي، لكن على عكس ما كان يأمله هوا تشي، لم يُطلِق سراحه من قيد النواة الذهبية.
شعر هوا تشي بخيبة أملٍ عميقة.
ارتجف قلب شيه ونتينغ ثلاث مرات وهو يهتف:
“يين ووهوي!”
وما إن سمعه، حتى رمقه يين ووهوي بنظرات حانقة كالخناجر، ثم صاح بهوا تشي:
“إنه هو! تذكّر هذا يا هوا تشي! هذا الرجل شيطان، لا تدعه يخدعك!”
كان هوا تشي غارقاً في دوّامةٍ من الحيرة، يكافح تحت قيد يين ووهوي دون جدوى.
قال متهكّماً:
“يخدعني بشأن ماذا؟”
قهقه يين ووهوي بصوتٍ مرعب، وعيناه تكادان تبرزان من شدّة الغضب، فيما تدفّقت طاقة شيطانية هوجاء حوله:
“ذلك الوغد عديم الحياء يتجرّأ على معارضتي من أجلك، ويدّعي أنك ابنه! هاهاها! إن تجرّأ على التفوّه بمثل هذه السخافات، سأقطع لسانه وأمزّقه إرباً إرباً!”
تجمّد نفس هوا تشي في صدره، يظنّ أنّه أساء السمع.
أعاد في ذهنه كلمات يين ووهوي المخبولة مراراً، لم يجرؤ على تصديقها كليّاً، لكنه أيضاً لم يستطع تجاهلها تماماً.
سمع الجميع تلك الكلمات، فتغيّرت تعابير وجوههم على اختلافها.
“ابن؟”
“ابن مَن؟ وأب مَن؟”
شهق مو رونغ سا وغطّى فمه بذعر:
“هوا هوا جي… هو ابن السيّد شيه…؟”
ارتعد مو تشي يان فجأة وكأنّ ذكرى قديمة طافت في ذهنه:
“نعم… تذكّرت! كانت هناك شائعات منذ سنوات تقول إن السيّد شيه قد جلب فتاة إلى قصره، كانت مخطوبةً له منذ الطفولة. عاملها بحفاوة بالغة، لكن الفتاة مرضت فجأة ثم ماتت موتةً غامضة. لاحقاً، تحدّث بعض الناس عن الأمر، لكن السيّد شيه أنكر ذلك بشدّة، ومع الوقت اختفى الخبر، واعتبره الجميع مجرّد إشاعة.”
قال زعيم سيف ووجي متجهّماً:
“إذن… هل كانت الشائعة صحيحة؟ ولماذا أنكر السيّد شيه بشدّة آنذاك؟”
تعالى صخب الحاضرين:
“ابن هذا… وأب ذاك… مَن ابن مَن؟ ومن أب مَن بالضبط؟”
“يا إلهي، أنا مشوَّش تماماً!”
والتفتت الأنظار جميعها نحو شيه ونتينغ.
تجمّد هوا تشي في مكانه، وأدار رأسه ببطء، لتتعلّق عيناه المذهولتان بوجه شيه ونتينغ الشاحب.
قال بصوتٍ مبحوح:
“ماذا يعني هذا؟”
لكن يين ووهوي قاطع النظرات بينهما وهو يزمجر بنبرةٍ مميتة:
“لا يعني شيئاً! ذلك الرجل ماكر، يحاول زرع الفتنة بيننا كأبٍ وابنه. حقير! لا تدع نفسك تشكّ، ولا تتردّد. أنت من لحمي ودمي، أنت ثمرة اتحادي مع هوا شي جين!”
كان عقل يين ووهوي غارقاً في الوهم. لم يكن شيخاً خَرِفاً، لكنه أسير هلاوسٍ صنعها قلبه المليء بالشياطين.
في عقله، صار هو و هوا شي جين زوجين يعيشان بسعادة، وقد أنجبا طفلاً… وكان مقتنعاً تمام الاقتناع بأن هوا تشي هو ذلك الابن!
وبصفته مزارعاً في طريق الطب، كان تشو بينغهوان قد شخّص حالته منذ البداية: إنها اضطراب ذهني تغذّيه الشياطين الداخلية.
أما شيه ونتينغ فقد التزم الصمت، لم يجرؤ على ذكر كلمة الأب الحقيقي، خوفاً من أن يستشيط يين ووهوي غضباً ويقتل هوا تشي على الفور. اكتفى بمبادلة النظرات مع هوا تشي بحذرٍ شديد، خشية أن يتصرّف الأخير باندفاع شبابي فيثير جنون يين ووهوي أكثر.
لكن بدا أن هوا تشي لم يلحظ شيئاً. نظر إليه بلا تعابير وقال ببرود:
“أعرف لماذا وضعتَ سمّ احتراق القلب في أجساد أتباعك.”
اتّسعت عينا يين ووهوي المتورّدتان بالدم:
“ماذا قلت؟”
ابتسم هوا تشي ابتسامةً غامضة:
“ليصبح أتباعك بلا قلب، بلا مشاعر، يسهل التحكم بهم… هذا سبب. والسبب الثاني… لأنك لم تعرف الحب يوماً، فلا تسمح لغيرك أن يحبه. لو عاش أتباعك حياة سعيدة مع أُسرهم، ألن يكون ذلك أشدّ إيلاماً لك؟”
تغيّر وجه يين ووهوي كلياً.
زاد هوا تشي الطين بلّة:
“ولو كانوا ذوي عائلات مزدهرة، ألن يجعلك ذلك تغلي غيظاً؟”
انفجر يين ووهوي غضباً. وبينما شُغِل بعاصفة مشاعره، اغتنم تشو بينغهوان الفرصة، فانقضّ من الخلف مع مو رونغ سا وطائر تشونغمينغ. لم ينجحوا في إصابته إصابات قاتلة، لكنهم بالكاد أنقذوا هوا تشي من قبضته.
تألّم معصم هوا تشي بشدّة، فقد كانت قبضة يين ووهوي وحشية، تكاد تفتت عظامه.
وفي تلك اللحظة، غطّى السواد السماء، ورعدت الرعود من الأعالي. رفع الناس أبصارهم فرأوا برقاً أرجوانياً أحمر يشقّ السماء، كأنه يشطرها نصفين!
ترافق ذلك مع ريحٍ صاخبة ومطرٍ جارف مصحوب بصواعق هادرة، جعلت المشهد كأنّه نهاية العالم.
هتف أحد المزارعين برعب:
“إنها… محاكمة السماء!”
لقد فجّرت المجازر المتواصلة، والدماء المسفوكة، والحقد والطغيان، غضب السماوات، فأرسلت قصاصها الإلهي لتضرب بلا تمييز هؤلاء المتعجرفين.
اهتزّت الأرض والسماء معاً، وغابت الشمس والقمر، وتحوّلت الألوان!
تسارع الجميع إلى إقامة الحواجز للحماية، فيما وقف تشو بينغهوان أمامهم متصدّياً.
لكن هوا تشي ذكّره بابتسامةٍ ساخرة:
“لا تقلق عليّ، لقد خُتِمت نواتي الذهبية، والسماء تعتبرني بشرياً. لن تصيبني محاكمة السماء.”
ومع ذلك، لم يجرؤ تشو بينغهوان على تركه بلا حماية، خائفاً من أن يطاله البرق خطأ.
ثلاث موجات متتالية من البرق الإلهي انهمرت، لتطهّر الأرض من المزارعين.
ويا لسوء حظ مو تشي يان، إذ وجد نفسه في مركز المحاكمة. استنزف كل مهاراته للمقاومة، ومع ذلك خسر مئتي عام من قوته، وسقط متألّماً على حافة الموت.
من بعيد، صرخ شيه ونتينغ:
“تشو تيان يو، هذا خطير!”
لكن تشو بينغهوان ردّ بحزم:
“بل هو ضروري.”
تجاهل اعتراضات هوا تشي، حمله بين ذراعيه، وانطلق على سيفه نحو المخيّم المقام على بُعد مئة ميل من قاعه فين تشينغ.
أسند هوا تشي رأسه لا شعورياً على كتف تشو بينغهوان. كانت الرياح تعصف بأذنيه، فيما أخذت الصواعق تخفت شيئاً فشيئاً حتى توقّفت الأمطار أخيراً.
قال هوا تشي بصوتٍ خافت وهو يرمق مكعّب الجليد:
“أخبرني، هل السيّد شيه… حقاً…؟”
فأجابه بهدوء:
“نعم.”
ارتجف قلب هوا تشي.
تابع تشو بينغهوان، وعيناه تلمعان باليقين، وهو يحتضنه بقوّة ويطبع قبلة باردة على جبينه:
“أنت لست ابن شيطان. والدك هو المزارع العظيم في فنون الموسيقى، رجل النُبل واللين، الذي يمدحه الجميع في طوائف الخلود… سيّد قصر يي يو.”