🦋

أجاب هوا تشي بجمود: “أنا أتحدث عن شخص، وأنت تخبرني عن وحش؟”

فأسرع ذلك الأبله بالقول بلهفة: “لا، لا! الشخص الذي ذكرته هو نفسه الوحش. لقد رأيته بعيني. فجأة تحوّل إلى وحش وبدأ يلتهم الناس!”

قال هوا تشي: “برج فين تشينغ، أليس كذلك؟” 

ثم استدار مغادراً، غير أن الأبله اعترض طريقه على عجل قائلاً: “يا سيدي، أرجوك، لا تُحرجني.”

فكّر هوا تشي بجدية لحظة، ثم قال: “ما رأيك أن أُغمى عليك بضربة مني؟”

لم يفهم الأبله مغزى كلامه، فابتسم هوا تشي مذكّراً بلطف:

 “بهذا سيظن الحامي الأيسر أنني هربت ولم تستطع منعي.”

أومأ الأبله بذهول، فوجه له هوا تشي ضربة على مؤخرة عنقه فسقط فاقد الوعي.

كان مزارعو السحر الشيطاني في قصر فن تشينغ يعلمون أن يين ووهوي، رغم غضبه، ورغم أنه حبس هوا تشي، فإنه يظل ابنه من صُلبه. ولم يكن قصده إيذاءه حقاً، بل فقط تأديب ابنه المتمرّد والعنيد. لذلك تغاضوا عن تحركات هوا تشي وتركوه يتجول بحريته.

وبعد مغادرته سجن الماء، توجّه هوا تشي نحو قصر فين تشينغ.

لم يكن في القصر الكبير عددٌ وفير من الحراس، إذ إن أغلب المزارعين الشياطين كانوا قد خرجوا إلى الخطوط الأمامية لمساندة المعركة ضد جيش المزارعين الخالدين الزاحف.

أُقيم متاهة عند مدخل برج فين تشينغ، لكنها لم تشكّل أدنى عائق لهوا تشي، إذ دخلها بسهولة، وما لبث أن سمع صرخة امرأة بعيدة.

كان داخل البرج واسعاً بلا حدود، على عكس مظهره الخارجي البسيط. بدا ممتداً إلى ما لا نهاية، تعج أركانه بتشكيلات الوهم وبنى ملتوية يسهل أن يُضلّ المرء طريقه بينها.

تبع هوا تشي مصدر الصرخة مسرعاً، وفجأة اصطدم بشخص عند منعطف ممرّ.

رائحة الدم التي فاحت جعلته يتأهّب، وإذا به يرى أن تلك الشخص لم تكن سوى مي كايلين!

قالت وهي جالسة على الأرض، بملامح منهكة: “هوا تشينغ كونغ؟”

كانت حالتها مزرية للغاية: شعرها مبعثر، ودماء تسيل من شفتيها، وجبينها ينزف من أثر ارتطامٍ ما، وعينها اليمنى متورّمة، وملابسها ملطّخة بالوحل والغبار. بدت كالمجنونة التي أحدثت فوضى في سوق عام.

تلفّت هوا تشي من حوله فلم يرَ أحداً يطاردها، فسألها: “ما الذي تفعلينه هنا؟”

فأجابته رغم مظهرها البائس، محتفظة بكبريائها المعتاد: “الأجدر أن أسألك أنا! جئت لأنقذ ابني، فإذا بي أنجرف إلى هذا المكان المليء بالمنعطفات والفخاخ في كل ركن.”

قال هوا تشي: “هل كان أحد يطاردك؟”

شدّت مي كايلين شفتيها وكأنها تتذكر شيئاً مرعباً، فشحب وجهها وقالت: “ليس بشرياً.”

ارتجف هوا تشي قليلاً متذكراً كلمات الأبله الثاني: “وحش؟”

رفعت مي كايلين رأسها فجأة وقالت: “أأنت تعلم؟” 

فأشار هوا تشي بكلتي يديه مظهراً براءته: “مهلاً، مهلاً! لا تُلقِ عليّ التهم جزافاً. 

تلك النظرة في عينيك توحي وكأنني أنا من أطلق ذلك الوحش.”

تأملت مي كايلين عينيه مليّاً، وكأنها تبحث فيهما عن صدق، وبشيء من التردد صدقته.

قال هوا تشي: “تشو بينغهوان ليس هنا. الوضع فوضوي في الخارج، والعثور على شخصٍ وسط ذلك لن يكون سهلاً.”

لم تُجبه مي كايلين. حاولت أن تنهض مستندة إلى الجدار، لكن ألماً حاداً اجتاح قدمها، فسقطت جالسة من جديد، يعلو أنفاسها لهاث موجوع، وعرق بارد يتصبب على جبينها.

فور رؤيته حالتها، انحنى هوا تشي بسرعة وجثا أمامها، رافعاً طرف ثوبها، ليكشف عن كاحلها الأيمن وقد تلطخ بالدماء وامتلأ بعلامات عضّ غائرة.

سألها بيقين: “ألا تستطيعين المشي؟”

كانت مي كايلين، بصفتها معالجة، تعرف تماماً مدى سوء إصابتها. احتاجت إلى عشرة أيام على الأقل لتستعيد قدرتها على المشي. عضّت شفتها لتتحمل الألم، وقالت بصوت خافت: “لا تهتم بي. اذهب وابحث عن بينغهوان!”

لم يتحرك هوا تشي، بل حدّق بها طويلاً، ثم مازحها: 

“ألستِ خائفة من أن يعود ذلك الوحش ويلتهمك إن بقيتِ هنا؟”

صرخت مي كايلين بصوت مبحوح: 

“كفّ عن الكلام واذهب للبحث عن ابني! إن أصاب تيان يو مكروه، فأنا أفضل أن يلتهمني الوحش…”

ظل هوا تشي يراقبها بصمت، تتألق في عينيه لمحة دفء خفي، ثم استدار وجثا على الأرض قائلاً: “اصعدي.”

تجمدت مي كايلين من الدهشة: “ماذا؟”

تنهد هوا تشي وقال: “هل من الصعب فهم هذا القدر؟ اصعدي على ظهري وسأحملك.”

تمتمت بدهشة: “أنت…” لم تكَد تصدق أذنيها.

ولأنه أدرك ما يدور في خاطرها، لم يُطل في الشرح، بل اكتفى بالقول: 

“لأنك أم بينغهوان. أفعل هذا من أجله، فلا تُحمّلي الأمر أكثر مما يستحق.”

وكان ذلك صدقاً. فمهما بلغت مي كايلين من عناد وتعقيد، فإنها تبقى والدة تشو بينغهوان. ولو تركها هوا تشي لتموت هنا، فلن يكرهه بينغهوان فقط، بل سيحتقر هو نفسه قسوته وجموده.

غريب، أليس كذلك؟ في حياته السابقة كان متعطشاً للدماء، أزهق أرواحاً لا تُحصى. فكيف أصبح رقيق القلب إلى هذا الحد في حياته الجديدة؟

أحس فجأة بشيء من التناقض في نفسه. وللتخفيف عن ذاته، أقنع نفسه بأن مي كايلين رغم كل مساوئها، إلا أنها تحمل خصلة واحدة تُحسب لها: إنها تحب تشو بينغهوان حباً صادقاً.

حملها هوا تشي على ظهره ومضى بضع خطوات، ثم عاد أدراجه بخطوتين.

سألته مي كايلين بعد أن صبرت طويلاً: “ما الذي تفعله؟”

فأجاب ببرود: “أنتِ تنزفين كثيراً، ومع ذلك لا تزالين ثرثارة؟ اصمتي.”

ثم تقدم خطوتين إلى الأمام، وعاد خطوتين إلى الوراء، قبل أن يتجه مباشرة نحو جدارٍ صلب.

أطبقت مي كايلين عينيها مرعوبة وأطلقت صرخة، لكنها ما لبثت أن أدركت أن كل ذلك مجرد وهم، فلم يصطدما بالحائط أصلاً.

تنفست بذهول وقالت: “كيف تعرف الكثير عن هذه تشكيلات الوهم؟”

ابتسم هوا تشي وتظاهر بالمعرفة قائلاً: “اقرأ الكتاب مئة مرة، يظهر لك معناه.”

لم تصدق كلمة مما قال. ومع مرور الوقت، لاحظت أن أنفاسه بدأت تثقل قليلاً، فساورها الشك: كيف لشاب مزارع أن يُرهق لمجرد حمل امرأة مسافة قصيرة؟ جربت أن تتحسس حالته مستخدمة جوهرها الحقيقي، ثم شهقت: “نواتك الذهبية مختومة؟”

ظهر العرق على جبين هوا تشي، فأخذ نفساً عميقاً وقال مازحاً: 

“يا سيدتي، ألا يجدر بك أن تخففي وزنك قليلاً؟”

فاحمر وجه مي كايلين خجلاً.

ساروا ثلاث ساعات متواصلة، ولم يُنزل هوا تشي مي كايلين من على ظهره طوال الطريق خشية أن يُباغَت بأي طارئ. وحتى مي كايلين نفسها بدأت تشعر ببعض الليونة في قلبها، غير أنّها لم تبح بأي كلمة رقيقة، بل قالت:

“بينغهوان أخبرني أنّ صحتك ليست بخير.”

عضَّ هوا تشي إصبعه ورسم نقشًا معقدًا على الجدار قائلاً:

“لو كنتُ معافى، لما دخلتُ عالم الزراعة الروحية أصلاً.”

ظنت مي كايلين أنّه يرسم علامة فحسب، فلم تولِ الأمر اهتمامًا.

قالت ببرود:

“لقد تعبت، فلنأخذ قسطًا من الراحة.”

أجابها هوا تشي وهو يعدّل وضعها على ظهره:

“أأنتِ متعبة من دون أن تمشي؟! كفي عن الكلام وادّخري قوتك، فنحن على وشك الخروج.”

لعنت مي كايلين في سرّها. لقد ادّعت التعب كي تمنحه هو فرصة للراحة أيضًا. يا له من أحمق! لا عجب أنّه لا يرقى إلى مستوى تشو بينغهوان!

فقالت باستياء وبصوت بارد:

“أنت تائهٌ بوضوح، ومع ذلك لا تزال تتظاهر بالقوة.”

انتظرت ردَّه، غير أنّه تجاهلها، بل رفع يديه مشكّلاً ختماً بأصابعه، وقد شحب وجهه فجأة وتقيأ دمًا!

ارتجفت مي كايلين وقالت بذهول:

“ماذا جرى لك؟!”

وإذ بالنقش الغريب الذي خطّه هوا تشي على الجدار يُطلق نورًا ساطعًا، ويندفع منه ضغط عظيم، فانهدَّ كل ما حولهم. الممرات تهاوت، الأجنحة انهارت، والأرض اهتزت بعنف!

حدّقت مي كايلين في المشهد المتهدّم بذهولٍ لا يوصف. تسعةٌ وتسعون طبقة من مصفوفات الوهم انهارت دفعةً واحدة، بهذه السهولة!؟

وأخيرًا ظهر لهم الشكل الحقيقي لبرج فين تشينغ، فارتعدت مي كايلين وقالت برعب:

“كيف… كيف فعلتَ ذلك؟”

لقد عانى هوا تشي من ارتدادٍ قاسٍ حين حاول بالقوة كسر الختم الموضوع على نواته الذهبية. لم ينجح، لكنه استطاع تسريب مقدار ضئيل من الجوهر الحقيقي، يكفي بالكاد لتفعيل التعويذة.

في وسط البرج كانت هناك قفصٌ حديديّ فارغ، تحيط به خمس جثث، جميعها لتلامذة قاعه فين تشينغ.

وفجأةً، خيَّم ظلٌّ مظلم من الأعلى. دقّت أجراس الخطر في عقل هوا تشي، فقفز مبتعدًا وهو يحمل مي كايلين على ظهره، وباللحظة ذاتها هبط مخلوق ضخم في الموضع الذي كانا يقفان فيه قبل لحظة، فتهشّمت الأرض تحت وطأته، وتناثرت الحجارة والتراب، وغمر المكانَ هالةٌ شيطانية مروعة.

هتف هوا تشي:

“إنه…”

صرخت مي كايلين:

“ذلك الوحش! هو الذي هاجمني!”

تجمّدت نظرات هوا تشي على الكائن المخيف. بدا كالنمر، لكنه لم يكن كذلك تمامًا؛ جسده كله أسود قاتم يشع بوميض شيطاني، وله جناحان أحمران قانيان، وفراؤه منتصب كالإبر الحادة، وكلما احتكّ بالجدران ترك عليها خدوشًا عميقة.

صرخ هوا تشي غير مصدّق:

“تشيونغتشي!؟”

(ملاحظة: ' تشيونغتشي ' 窮奇 هو وحش أسطوري قديم، عُرف بشراسته وشروره، يُصوَّر عادةً بجسد نمر وفراءٍ منتصب كالشوك وأجنحةٍ حمراء كالدم، ويرتبط بالخطر والشرّ.)

صاحت مي كايلين مذهولة:

“الوحش الأسطوري القديم تشيونغتشي؟”

وفجأة، فُتحت أبواب برج فين تشينغ بعنفٍ من الخارج—

ظهر تشوانغ تيان وهو يحمل جرس قمع الأرواح، يتقدّم مسرعًا ويرنّ الجرس بجنون. 

عيناه المحمرتان لم تفارقا الوحش المفترس أمامه، وصاح بصوتٍ أجش يملؤه اليأس:

“ون يوان!!!”

ملاحظة المؤلفة:

مي كايلين ستتذوق المزيد من العذاب لاحقًا~

هل وجدت خطأ؟ قم بالإبلاغ الآن
التعليقات

التعليقات [0]