كان المخطط الأصلي لـ تشو بينغهوان ومجموعته أن يتسللوا سرًا. لكن حين جلب مو تشي يان رفاقه وهاجموا، هرع المزارعون الشيطانيون من قاعه فين تشينغ للدفاع، فأصبحت تحصينات القاعه ضعيفة، مما سهّل مهمتهم كثيرًا.
ومنذ أن علم تشو بينغهوان أن هوا تشي قد سُجن في سجن المياه، وهو شارد البال، لا يُخفي قلقه.
كان الأمر جليًا حتى للأعمى. عندها تظاهر تشوانغ تيان، كمعلم متفهم يشفق على تلميذه العاشق، وقال:
“اذهب إلى سجن المياه وساعد أخاك الثامن. سننقسم نحن إلى ثلاث مجموعات.”
التفت تشو بينغهوان نحو لين يان، ثم نحو مو رونغ سا، وبعدها إلى إخوته الثاني والثالث والرابع والخامس، فزاد قلقه أكثر.
“هل سيكون هذا بخير؟”
رفع مو رونغسا حاجبيه باستياء:
“مهلًا مهلًا! أنا من بين الثلاثة الأوائل في البطولة، ما معنى تلك النظرة؟”
عندها تذكّر تشو بينغهوان أن مو رونغ سا قد حلّ فعلًا بين المراتب الثلاثة الأولى في مسابقة الفنون القتالية. ورغم أن لين يان والآخرين لم يكونوا أهلًا للثقة كثيرًا، فإن وجود مو رونغ سا يُطمئنه بعض الشيء.
مفكرًا على هذا النحو، لم يرغب في إضاعة مزيد من الوقت. فامتطى سيفه وانطلق نحو الباحة المركزية.
ومع أنه أقام في هذا المكان ثلاث سنوات، إلا أنّ هوا تشي بعد أن صار سيد الشيطانين، أعاد بناء قاعه فين تشينغ وهدمها مرارًا، فلم يعد تشو بينغهوان ملمًّا بمخطط القصر الحالي.
غير أن براعته في التعامل مع تشكيلات الأوهام ساعدته، ومعه الخريطة التي رسمها هوا تشي، ليعثر على موقع سجن المياه. وبينما يسير، وجد نفسه في غابة من أشجار القيقب الحمراء، أوراقها كأنها دم قانٍ.
شعر تشو بينغهوان بشيء من الشرود.
لقد تذكّر أن هوا تشي كان قد اقتلع هذه الغابة كلها، واستبدلها بغابة من أزهار الخوخ، وشاد في أعماقها جناح الخيزران، مطابقًا تمامًا للذي في يونتيان شويجينغ.
وعندما اختطفه هوا تشي في البداية وأحضره إلى غابة الخوخ، كان قد صُدم عند رؤية جناح الخيزران ذاك المستتر في الأعماق.
قبل ثلاثمائة عام، حين شارك تشو بينغهوان في مسابقة الفنون القتالية الأخيرة، خسر في الجولة الأولى داخل عالم أوهام شانغ تشينغ، وتعرّض لارتداد شديد من الوهم، حتى استغرق خمسة أعوام كاملة كي يتعافى منه.
لم يُخبر أحدًا قط بمضمون ذلك الوهم.
كانت مي كايلين فضولية بشأنه، لكنها لم تُجبره يومًا على البوح. وفي نظرها، ابنها متميّز، طاهر القلب، مكرّس التدريب، لا يمكن أن يعجزه وهم. فلا بد أن ما جرى كان خللًا في عالم أوهام شانغ تشينغ هو ما تسبّب بخسارته.
لكن وحده تشو بينغهوان كان يعرف كم صُدم وأُسِر بذلك الوهم، وكم ظلّ أثره يطارده حتى يومه هذا.
فما إن دخل الوهم، كان أوّل ما رآه هو هوا تشي.
لم يكن مرتديًا زيّ تلامذة شانغ تشينغ، بل لباسًا أسود ضيّقًا يليق بمبارزٍ عادي، يحمل سيفًا طويلًا. كان جالسًا في باحة صغيرة، يتفيّأ ظل شجرة خوخ مزهرة، وخلفها بيتان من الطوب البسيط، أشبه بمنازل عامة الناس.
أما هو، فكان يرتدي ثوبًا أبيض بسيطًا، في يده اليسرى مروحة ورقية، وفي اليمنى لفافة كتب. وقد ظهرت على أصابعه آثار القلم من كثرة الكتابة.
كان في هيئة عالم، صابرًا على عشر سنوات من الكدّ طلبًا للنجاح في امتحانات الدولة.
وفجأة ناداه هوا تشي من الباحة:
“بينغهوان.”
انتفض تشو بينغهوان من شروده، فرأى هوا تشي يركض نحوه بحماس.
تشو بينغهوان، الذي كان عادةً يكره أي تماس جسدي، نسي أن يتفادى، فوجد نفسه بين ذراعي هوا تشي.
كان جسده دافئًا، وأحضانه أكثر دفئًا، حتى أصيب تشو بينغهوان بذهول، إذ لم يتخيّل قط أن معانقة هوا تشي ستمنحه هذا الإحساس…
ابتسم هوا تشي ببهجة وقال:
“لقد عدتُ للتوّ من الجيش، واصطدتُ سمكتين من البحيرة، وقد انتهيتُ من طهيهما للتو. هيا ادخل وتذوّق معي.”
كان لدى تشو بينغهوان الكثير من الأسئلة التي أراد أن يطرحها، لكن في كل مرة تصل الكلمات إلى شفتيه، يبتلعها ولا ينطق.
كان هوا تشي هو هوا تشي، لكنّه في الوقت ذاته بدا مختلفًا.
لم يعد التلميذ الأول في طائفة شانغ تشينغ، ولا مزارعًا خالدًا، بل مجرد شاب عادي من عالم البشر، يتدرّب على الفنون القتالية ويطمح لأن يصبح ضابطًا في الجيش.
أما هو، فلم يعد سيدًا شابًا من يونتيان شويجينغ، بل مجرد طالب متواضع، يكدّ ليل نهار على أمل اجتياز امتحانات الدولة.
لقد كبرا معًا، وكان والداهما صديقين قديمين، وخُطبا منذ الطفولة. كان من الطبيعي إذن أن يتزوجا الآن. لكن بما أنهما ما زالا في ريعان الشباب، اتفقا على الانتظار حتى يحقّقا أهدافهما أولًا، ثم يختاران يومًا مباركًا لعقد القران.
وعاشا على هذا النحو طويلًا. لم يكونا بعدُ زوجين رسميين؛ أحدهما يسكن الغرفة الشرقية، والآخر في الغربية.
لكن كل ليلة، كان هوا تشي يبقى في الغرفة الشرقية غير راغب بالمغادرة، فيضطر تشو بينغهوان إلى إقناعه ودفعه للخروج مرارًا.
كان هوا تشي يتذرع بجدّية:
“لن أفعل شيئًا، لكن غرفتي باردة… أريد أن أتدفأ هنا قليلًا.”
ولم يكن تشو بينغهوان يصدّق هراءه.
ثم يضيف هوا تشي بنبرة مفعمة بالقلق:
“لقد تعافيت للتو من الزكام أمس، وما زلتَ تسعل اليوم. أخشى أن تصاب بالبرد من جديد. لا ينبغي أن تُجهد نفسك بالقراءة كثيرًا. لو التحقت بالجيش وتدرّبت معي على الفنون القتالية، لَكنتَ أقوى بكثير.”
وكان بالفعل يشعر ببعض البرد، إذ إن مخزون الفحم لدى العائلة كان قليلًا ويُستخدم بحذر.
وبعد طول ممانعة، نجح هوا تشي أخيرًا في مراده. صعد إلى السرير برضا، وشارك تشو بينغهوان الوسادة. متلاصقين هكذا، لم يعودا يشعران بالبرد إطلاقًا.
كان جسد هوا تشي أكثر دفئًا مما تخيّل.
ومضت الأيام هادئة مريحة. وبعد عام، تحقّقت أمانيهما: فقد أحرزا التفوق في امتحانات الأدب والقتال، ونالا المجد الذي يستحقانه.
ثم، كما خُطّط منذ زمن، تزوجا.
في ليلة الزفاف، بدا هوا تشي مترددًا للمرة الأولى.
ذاك الذي كان دومًا يتفاخر بجرأته، حين حانت ساعة الحقيقة، اصبح متوترًا.
فلم يقاوم تشو بينغهوان رغبته في المشاكسة، وقال مازحًا:
“أيها الجنرال هوا، أين شجاعتك التي طالما تباهيت بها؟”
نظر هوا تشي إليه بعينين متوسلتين، قائلًا:
“يا سيّدي تشو، لا تكن قاسيًا عليّ.”
قاسيًا؟
حسنًا… لم يغادر الجنرال هوا الفراش حتى توسطت الشمس كبد السماء في اليوم التالي.
وبعدها، بينما كان يتدرّب على المبارزة تحت شجرة الخوخ، أخذ يتذمّر:
“دائمًا يتظاهر بالضعف والمرض، لكن حين يصل الأمر إلى تلك اللحظة، يتفجّر حيوية كالدببة!
كيف ينتهي الحال بجنرال مثلي هكذا بين يديّ عالمٍ واهن… آه ظهري، أووف…”
وكان تشو بينغهوان يراه كله من خلف النافذة، كاظمًا ضحكته، مُستمتعًا بالمشهد.
مضت الأيام، يومًا بعد يوم، ثم أعوامًا لا تُحصى…
يقول الناس إنّ الزواج يمرّ بما يُسمّى حكّة السنوات السبع، لكن بين هوا تشي وتشو بينغهوان، لم يكن لمثل هذه الأمور وجود.
سبع سنوات؟ حتى سبعون عامًا لم تكن لتكفيهما.
ذات يوم، كان هوا تشي يجلس على أرجوحة تحت شجرة الخوخ المتفتحة، جذب عنق تشو بينغهوان نحوه، وعيناه ممتلئتان بالحزن:
“قطعة الثلج، هل فكّرت يومًا في أخذ محظيات؟”
“ماذا؟”
كان هوا تشي، الذي عادةً ما يفتقر إلى الجديّة، نادرًا ما يتحدث بلهجة كهذه:
“لقد كبرتَ في السن أيضًا. ومن دون نسل، هذا ليس أمرًا جيّدًا.”
لكن بدل أن يتأثر، استشاط تشو بينغهوان غضبًا:
“أليس كذلك بالنسبة لك أيضًا؟ أين ذريتك أنت؟”
وكعقوبة، حمله تشو بينغهوان وعاد به إلى الغرفة، ليُلقّنه درسًا قاسيًا.
يومان كاملان لم يتمكّن هوا تشي من النهوض من السرير.
مستلقيًا على الفراش، كان يتنهد بأسى:
“لقد كبرتُ، ومع ذلك لا يزال يندفع كالثور الهائج… آه، مؤلم!”
ومرّت السنوات: عشر، عشرون، خمسون…
لكن حتى بعد كل ذلك، شعر تشو بينغهوان أن الوقت لا يكفي، وأنه أراد قضاء حياته بأكملها مع هوا تشي.
حتى جاء ذلك اليوم—
شعاع ضوء اخترق المشهد، وبدأ كل شيء يتهاوى.
العجوز الذي كان بين ذراعيه اختفى فجأة.
مدّ يده للإمساك به، لكن ما قابله كان ألمًا يمزّق أحشاءه.
كأنه استيقظ من حلم، ليجد نفسه في عالم آخر.
كان يسمع صوت هوا تشي يناديه بيأس، يرى هيئته في زيّ تلميذ طائفة شانغ تشينغ، بينما تعالت أصوات المزارعين من حوله.
استفاق من الوهم.
ذلك الوهم الذي أسر قلبه، وتركه مريضًا بالحنين، عاشقًا حتى العظم.
فاتضح أنه… كان يحب هوا تشي بعمقٍ لا يُضاهى.
لكن للأسف، أدرك ذلك متأخرًا.
فما إن استيقظ، حتى كان هوا تشي قد رحل.
كان قريبًا، في متناول اليد، ومع ذلك فقده بسبب غبائه وجهله.
وحين مضى بعيدًا، لم يعد هناك سبيل لاستعادته.
أسطورة اليشم المائي وضباب الأرجوان لم تكن كاذبة.
بعد وفاة هوا تشي، استخدمها تشو بينغهوان على الفور.
صحيح أن الأسطورة قد تبالغ، فالجوهر لا يستطيع إعادة الموتى، لكنه قادر على جمع أرواحهم.
ولو حتى القليل منها، كان ذلك كافيًا آنذاك ليمنح تشو بينغهوان عزاءً عظيمًا.
لقد حاول إحياء هوا تشي.
لكن من كان يتوقّع أن يولدا من جديد معًا؟
في حياته السابقة، كان هوا تشي سليم الجسد. أما الآن، فكان يعاني من المرض والضعف.
لم يعرف تشو بينغهوان ما إذا كان السبب هو أن اليشم المائي وضباب الأرجوان قد أخذ جزءًا من روحه في تلك الحياة السابقة، مما جعله هشًّا في هذه الحياة.
إن كان ذلك صحيحًا…
ابتسم تشو بينغهوان بمرارة.
مرة أخرى، هو من ألحق الأذى بهوا تشي.
أذى لا لزوم له… إضافة لا داعي لها.
تابع سيره عبر غابة القيقب الحمراء، أكثر توهجًا من الدم الطازج.
وبمحض الصدفة، وجد نفسه أمام قاعه فين تشينغ.
كان ينوي تغيير مساره، لكنه فجأة أبصر ظلًا يهبط من السماء، يمسك سيفًا، ويقتحم القاعه بخفة البرق.
تجمّد في مكانه:
“شيه وانتينغ؟”
شعر أن هناك خطبًا ما. لم يكن تحالف الطوائف الثلاث قد بدأ الهجوم على القصر بعد.
فكيف وصل المعلّم شيه إلى هنا دون أن يعيقه أحد؟
أين كان الحراس من المزارعين الشياطين؟
إن كان من السهل على الغرباء اقتحام القصر، فما قيمة هيبة سيد الشياطين إذن؟
بعد لحظة تردّد، قرر تشو بينغهوان التسلل بهدوء خلفه.
وقف خارج القاعة الكبرى، يراقب ما يجري في الداخل.
وبالفعل، كان هناك شيه وانتينغ، وبجواره على العرش جلس يين ووهوي.
التقت أعينهما، ولم يتحدث أي منهما. بدا وكأنهما يدرسان بعضهما بصمت، والجو مشحون بالتوتر.
وأخيرًا، كسر يين ووهوي الصمت قائلًا:
“أتيت لتبحث عني… يا لها من صدفة.”
حدّق به شيه وانتينغ مباشرة وقال:
“هناك أمور لا بد أن أسألك عنها وجهًا لوجه.”