“لا تقترب مني.”
“لا تلمسني!”
“نحن أعداء لدودون.”
“ألا تشعر بالخزي؟”
تداخلت ذكريات ذلك الخالد البارد، المتعالي، المنعزل، مع صورة تشو بينغهوان الحالي، الذي كان ينظر إليه الآن بعينين مفعمتين بالحنان.
شعر هوا تشي باختناق بارد يخنق أنفاسه.
لقد أحبّ تشو بينغهوان يومًا بعمق. حاول لفت انتباهه بالنكات والعبث، متمنّيًا أن يراه يبتسم، حتى لو كانت ابتسامة عابرة مقابل كل ما يبذله من جهد.
وبعد وقت طويل… طويل جدًا، كان تشو بينغهوان يبتسم أحيانًا، لكن تلك الابتسامات كانت نادرة كالنجوم في ليلة غائمة.
ومع ذلك، لم تخرج من فم تشو بينغهوان ولو مرة واحدة عبارة “أنا أحبك.”
لا في الماضي حين كانا في شانغ تشينغ، ولا في قاعه فين تشينغ المظلمة.
“كفى كلمات مواساة.” ردّ هوا تشي ببرود.
كان يكفي أن تشو بينغهوان لم يجرّه إلى الهاوية معه.
بعد انتحار لو ياو، وهو يعلم أن نهايته قادمة، توسل هوا تشي إلى تشو بينغهوان أن يبقى بجانبه، أن يعانقه، حتى لو بكلمة حب كاذبة. أي شيء… أي شيء لئلا يواجه موته البارد وحيدًا.
هل كان عليه أن يكرر أخطاء حياته السابقة؟
حتى لو لم يكن تشو بينغهوان قادرًا على قراءة الأفكار، فإن نظرة واحدة إلى ملامح هوا تشي كانت كافية ليدرك.
فأحس بثقل موجع في قلبه.
خطا تشو بينغهوان إلى الأمام، وعانقه بشدة.
“أعطني فرصة… أرجوك.”
ارتجف جسد هوا تشي بقوة، وخفق قلبه بعنف.
هل كان السبب أنّه ما زال متعلّقًا جدًا بعناق تشو بينغهوان؟
حتى بعد أن وُلد من جديد، كان مجرد حضن كهذا يزلزل كيانه.
كان تشو بينغهوان دائمًا بعيد المنال، باردًا أمام الآخرين، ينفر من أي تماس جسدي. حتى في حياتهما السابقة، كان يمكن عدّ المرات التي لمساه فيها بأصابع اليد الواحدة. وكانت تلك اللمسات أثناء المعارك، عندما كانا يطيران متساندين نحو السماء… لا تُحسب أحضانًا حقيقية.
العناق المليء بالحب… كان دومًا فعلًا من جانب هوا تشي، بعد أن أصبح سيد الشياطين.
وفي النهاية… دفعه تشو بينغهوان بعيدًا بقسوة.
وغادر الخالد غاضبًا، تاركًا هوا تشي وحيدًا في مواجهة الرياح الباردة.
لقد كان هذا كافيًا… كافيًا بحق!
ظنّ أنه فاز بقلب تشو بينغهوان، لكن ما الذي ناله في النهاية؟ فراغٌ قاسٍ، وفرحة زائفة.
لم يرغب هوا تشي في تحمل مثل هذه التقلبات العاطفية مرة أخرى.
اعترف في داخله… حتى لو عاش ألف حياة، فإن مشاعره تجاه تشو بينغهوان ستظل استثنائية، لن تتغير.
كيف يمكن لِمَن أحبّه سرًا لثلاثمئة عام أن ينسى ببساطة؟
حين استعاد شريط ذكرياته، ارتجف هوا تشي من دهشته أمام عمق ولعه، شعر وكأنه مجنون بالحب.
ضحك بسخرية مرة:
“خالِد يتعالى على متع الدنيا، كيف له أن يتفوّه بمثل هذه الكلمات العاطفية المليئة بالزهور؟”
ثم استعاد هدوءه ببطء، وتحرر بلطف من العناق الذي طالما تاق إليه.
لكن تشو بينغهوان، الذي لم يعرف معنى التراجع أمام الصعاب، نظر إليه بعينين جادتين وقال بصلابة:
“أنا جاد… بصدق.”
ببرودٍ لا يتزحزح، سخر هوا تشي:
“لا تنسَ اختلاف أصولنا. أنت ابن عائلة عريقة ذات مجدٍ وصيت، أما أنا… فأنا ثمرة زواج آثم بين سيد الشياطين وبغيٍّ، دمي ملوث نجس منذ الولادة.”
اقترب تشو بينغهوان، صوته خافت كنسمةٍ مسائية:
“أنا لا اتأثر من السموم.”
رفع أنامله برفق ليلمس ذقن هوا تشي، محدقًا في ملامحه تحت وهج الشموع.
“حتى لو كنتَ أشد سمٍّ فتكًا… لما خفتك.”
كان جماله نادرًا، يجمع بين رقة الأنثى وجلال الرجولة، كالياقوت الناصع؛ لينٌ كاليشم، صلبٌ كالسيف. يقف دائمًا مع الضعيف، ويتحدّى القوي.
منذ البداية، كان هذا الرجل مقدرًا أن يكون رفيق درب هوا تشي.
لكن… لماذا لم يُدرك ذلك إلا الآن؟
لماذا تأتي اليقظة دائمًا متأخرة، بعد أن تكون الفرص قد مضت؟
أحتضن تشو بينغهوان وجه هوا تشي بكف، وبالأخرى اجتذبه من خصره، ثم طبع قبلةً حارة على شفتيه.
تجمّد هوا تشي في مكانه كالمنحوت!
لكن لحسن الحظ، كانت قبلة خفيفة رقيقة، لا كالقُبل السابقة.
ففي الماضي، كان هوا تشي — سيد الشياطين — هو من يبادر، بينما كان تشو بينغهوان يردّ بعنادٍ، كمن يثأر.
أما هذه المرّة… فقد كانت المبادرة من تشو بينغهوان نفسه، خالية من أي شائبة، مجرد قبلة صافية نقية.
“أين النجاسة فيك؟” تمتم مبتسمًا بخبث. “أنت أنقى مما تظن… وطعمك عذب أيضًا.”
اشتعلت وجنتا هوا تشي بحمرة محرجة، تراجع يلهث، محاولًا تفادي نظرات تشو بينغهوان التي ازدادت جرأةً وغرابة.
“كلا! عديم الخجل!”
ضحك تشو بينغهوان بخفة:
“ألا نتشارك خطوبةً أقرّها الأجداد؟ الأمر طبيعي إذن.”
“…!”
لم يجد هوا تشي سوى تقليد صرامته القديمة، لكنه لم يحصد إلا ردًّا قاسيًا وباردًا… فكانت النتيجة أكثر إحراجًا له.
راح ذهنه يعمل محمومًا، وفجأة وجد مخرجًا:
“مكانتنا لا تليق ببعضها. أبي هو سيد الشياطين، وأنت وريث المجد. نحن على طرفي نقيض، لا يمكن أن نتقاسم نفس السماء.”
أجابه تشو بينغهوان بهدوءٍ مطمئن، وهو يعانقه كأنه يحسم الأمر:
“إذن فلنسافر معًا إلى ما وراء السماء… ونصبح رفيقي دربٍ أبديَّين.”
هوا تشي: “…”
يا للعجب!
ألستَ أنتَ الخالد المتجرد، الزاهد الذي لا يلتفت إلى فتنة الدنيا ولا إلى قصص الغرام العفيف؟
من أين تعلمت كل هذا الغزل المبتذل؟!
أمام هذا الهجوم العاطفي الساحق، لم يجد هوا تشي مهربًا سوى… الفرار باضطراب!
ترك خلفه تشو بينغهوان، الذي أفصح للتو عن مشاعره، جالسًا في جناح هوا له، بينما اندفع بنفس مبررات واهية نحو معلمه تشوانغ تيان، متظاهرًا بالجد في دراسة كتاب نقاء القلب حتى ساعة متأخرة من الليل، مكرسًا نفسه للعبادة والتنوير — في الحقيقة هروبًا لا أكثر.
ومع اقتراب ساعة إنقاذ ون يوان، لم يشأ تشو بينغهوان أن يضغط على هوا تشي أكثر.
كان مصير الأخ الأكبر مجهولًا، والوقت يداهمهم، أما المشاعر فيمكنها الانتظار.
أراد هوا تشي بدايةً أن يغادر دون أن يُعلمه، لكن تشو بينغهوان، وكأنه كان يرى من خلاله، ضبطه في خضم الاستعداد.
لم يزد بالكلام كثيرًا، فهو يعرف أن هوا تشي يكره الثرثرة، بل اكتفى أن ضمّه برفق، وقال بنبرةٍ مشفقة:
“اعتنِ بنفسك.”
أما تشوانغ تيان فجلس يراقبهما بحذر، متسائلًا بدهشة:
منذ متى أصبح هذان الاثنان متقاربَين إلى هذا الحد؟
أليست مظاهر الود العلنية بين التلميذَين خرقًا فاضحًا للانضباط؟
انقسم التلاميذ إلى مجموعتين:
قاد تشو بينغهوان فريقه عبر بابٍ جانبي صغير، ليدخلوا غابة قيقبٍ حمراء أوراقها متساقطة كالجمر المتوهج، مظهرها شاعري هادئ، لكنّها في الحقيقة متاهة مميتة.
تبع مو رونغ سا قائده عن كثب، لكنه لم يلبث أن عاد بخطوات مترددة، وكأن ما رآه مجرد وهم.
“انتظر، تشو تيان يو… لماذا تعرف قاعه فين تشينغ بهذه الدرجة؟”
ابتسم تشو بينغهوان ابتسامةً غامضة.
ثلاث سنوات قضاها هنا… كيف له ألا يكون على درايةٍ بأسراره ومسالكه؟
في الجهة الأخرى، دخل هوا تشي من البوابة الرئيسية علنًا، غير مبالٍ.
عالم الشياطين يعيش على الفوضى، الفِرَق تتناحر على السلطة، لكن شيئًا واحدًا كان معروفًا للجميع:
سيد الشياطين العنيف ذو المزاج الدموي… أعلن مؤخرًا أنه استعاد ابنه المفقود، ورفعه إلى مرتبة السيد الصغير لقاعه فين تشينغ.
لقب كهذا لم يجرؤ أحد على المساس به.
لذلك، ومع هالة العزم تلمع فوق رأسه، شق هوا تشي طريقه بلا عوائق حتى قاعة العرش.
وكأن الأمر مُعد مسبقًا، لم يُوقفه سيد العشرة اتجاهات، ولم يتحرك أي من حُرّاس قاعه فين تشينغ.
بل إن الوصي الأيسر، شانغ شيمي، اصطحبه بنفسه ليلتقي يين ووهوي.
جلس سيد الشياطين على عرشه، متكئًا بخيلاء، ابتسامة ساخرة ترقص على شفتيه:
“ها قد نُبذتَ من درب الخلود، وعدتَ باكيًا إلى والدك؟”
أجابه هوا تشي ببرود:
“أنت تفكر أكثر مما ينبغي.”
“أوه؟”
شبك ذراعيه وهو يتحدث بجرأة:
“سيد الشياطين أسر أخي الأكبر. أيمكنني ألا أأتي بنفسي لرؤيته؟”
قهقه يين ووهوي باستهزاء:
“إذن أتيت لتتوسل إليَّ أن أطلق سراحه.”
اشتعلت الرغبة في القتال في صدر هوا تشي، كاد يرفع يده لولا أنه أجبر نفسه على التماسك.
لم يكن هذا وقت الاندفاع.
ضحك يين ووهوي بصوت عالٍ:
“مجرد تلميذ صغير يجرؤ على اقتحام قاعه فين تشينغ! لو كنت أعلم أن الأمر بهذه السهولة… لكنت أمسكتُ بجميع تلاميذ قاعه لينغ شياو، وأبقيتك أسيرًا عندي إلى الأبد!”
قبض هوا تشي يده بقوة، وعيناه تتوهجان ببرود:
“هل حقًا ترغب أن أبقى هنا، في قاعه فين تشينغ؟”
ارتفع حاجب سيد الشياطين، يترقب.
عندها ارتسمت ابتسامة باردة على شفتي هوا تشي:
“إذن فلتتنحَّ الآن، سلِّم لي منصب سيد الشياطين. دع القصر يشهد تغيير العروش. اعتزل بسلام كإمبراطور سابق، وسأضمن لك أن أوحد المقاطعات التسع باسمك، محققًا ما عجزتَ عنه طوال حياتك.”
ارتجفت ملامح شانغ شيمي، شاحبًا كالميت، عينيه مليئتان بالذعر.
ساد الصمت القاعة، ثقيلًا خانقًا.
حتى ارتفع فجأة صوت ضحكة جليدية من حلق يين ووهوي، ضحكة تفيض بالتهكم والوحشية.
وقف بقوة، رداءه الأسود الطويل يسحب عبر درجات اليشم، صوته كالسيف القاطع:
“أتجرؤ… على انتزاع السلطة مني؟”
واجهه هوا تشي بلا خوف، نبرته حادة:
“إن كنتَ لا تستطيع التنازل عن العرش، فلا تُسرف بالكلمات الفارغة!
أتريد استغلالي كأداةٍ لغزو العالم ثم ترميني كقماشٍ بالٍ؟ فلتنسَ الأمر إذن!”
تلألأت عينا يين ووهوي بوحشيةٍ قاتلة.
لكن هوا تشي ضحك ببرود، ابتسامته أشبه بشفرة:
“ليست دائمًا ميزة أن يكون للملك ابنٌ بارع. التهديد للعرش لا بد من إزالته… أليست تلك قاعدة الأباطرة في الدنيا؟ وأنت، وإن كنت سيد الشياطين… فما أنت إلا رجل مثلهم.”
تصبب العرق من جبين شانغ شيمي، حاول أن يقاطع أكثر من مرة، لكنه لم يجد الجرأة.
وحين رأى سيده على حافة الانفجار، صرخ أخيرًا مخاطرًا بحياته:
“أيها السيد الصغير! احذر لسانك!”
تجاهل هوا تشي صرخة شانغ شيمي، وصوته يزداد جليدًا، ابتسامته منحوتة من السخرية:
“قاعه فين تشينغ التافه، وعرش سيد الشياطين الزائل… لا تستطيع التفريط فيهما، ومع ذلك تحلم بالارتقاء إلى مقام الخالدين؟ يا لسذاجتك!”
“تجرؤ؟!”
كلمات هوا تشي ضربت أوتار الضعف في صدر يين ووهوي، ففقد آخر خيط من صبره.
امتدت يده تخنق عنق ابنه، قبضته كحديد من جحيم:
“كيف تجرؤ أن تخاطبني بهذا الشكل؟!”
اختنق الهواء من رئتي هوا تشي، ومع ذلك أخرج ضحكة مبحوحة:
“منافق… مقزز… لا عجب أن أمي لم تردك!”
“اصمُت!!!”
صرخ يين ووهوي بجنون، ودفعه بعيدًا بقوة جعلت جسده يرتطم بالأرض.
بدأ يذرع القاعة جيئة وذهابًا، عيناه حمراوان، صوته يتردد كالرعد:
“اصمت! اصمت!! اصمت!!!”
المصابون بالهواجس الداخلية، غالبًا ما يغرقون في جنونهم.
لو أن هوا تشي استعمل في تلك اللحظة تقنية هان يويه المميتة، لاستطاع أن يجرّ سيد الشياطين إلى الجنون الدائم… لكن ثمنها حياته هو.
ومستواه الحالي لا يتيح له النجاة.
لذلك، بدلًا من المخاطرة، جلس يراقب خصمه وهو يغرق في فوضاه العقلية، ببرودٍ ساخر.
لكن بالنسبة لشانغ شيمي، كانت تلك الساعات الخمس كالجحيم نفسه!
وأخيرًا، بعد أن استعاد سيد الشياطين بعض أنفاسه، أشار إلى ابنه، وصوته مشبع بالكراهية:
“خذوا هذا الابن العاق! اقذفوه في سجن المياه!!!”
ارتجف شانغ شيمي في مكانه:
“هذا…”
أما هوا تشي، فابتسم ابتسامة خفية.
كان معه حرز التتبع الذي منحه إياه تشوانغ تيان، ما يعني أن موقعه مكشوف دائمًا.
بل إنه يريد أن يُسجن، لعل ون يوان مسجون هناك أيضًا.
لكن ما إن خطا خطواته الأولى، حتى اندفع أحد الشياطين إلى القاعة، وجهه مذعور، صوته متقطع:
“مولاي! كارثة! طائفة يونتيان شُويجينغ، وقصر يي يو، ووادي فينغ مينغ… الثلاثة قد اتحدوا! أطلقوا هجومًا كاسحًا على عالم الشياطين، وهم الآن في طريقهم نحو قاعه فين تشينغ مباشرة!”
تجمد وجه يين ووهوي، ملامحه تنقلب من الغضب إلى الصدمة القاتلة.
بينما أصيب هوا تشي بالذهول للحظة، ثم لم يملك إلا أن ضحك في سره، نصف ساخر نصف ساخط.
ذلك المجنون لم يفهم شيئًا…
لقد اختطف مجرد تلميذ واحد لا قيمة له في نظره. فكيف تحول الأمر إلى هجوم ثلاث طوائف كبرى دفعة واحدة؟
لكن الحقيقة أن سيد الشياطين لم يعرف…
أن في قاعه فين تشينغ الآن جواهرًا مخفية:
تشو بينغهوان، مو رونغ سا، وحتى ديون الدم المرتبطة بـ شياو بانغ.
من أجل أبنائهم، من أجل تلاميذهم…
كيف لا يهبّون جميعًا للقتال؟!
⸻
ملاحظة المؤلفة:
القصة ليست طويلة جدًا، فلا تتفاجأوا! (السبب ببساطة أني لا أحب الإطالة بلا داعٍ، ولا أريد جولات من سوء الفهم المكررة، هههه).
العد التنازلي للنهاية قد بدأ، لكن ما زال هناك أكثر من عشرة فصول. كل الخيوط ستُربط بإحكام، فلا تقلقوا. وبعدها…
⸻