🦋

لم يكن تشو بينغهوان ليرتجف من مجرد رأس مقطوع؛ فلقد شهد ساحات قتال لا حصر لها، معتادًا على الدم والحديد.

تجلّد للحظة، وضع الصينية على الطاولة بعناية، ثم مدّ يده وبثّ جوهره الحقيقي في الجمجمة، يتحقق بدقة:

القطع كان طازجًا، والرجل قد قُتل حيًّا.

الروح تلاشت بالكامل، لم يبقَ لها ظل ولا أثر.

تاو رانلي شهق مذهولًا، أما شيه وانتينغ فظل واقفًا مذهولاً كمن سُلب وعيه، قبل أن يرتجف جسده ويكاد يهوي، فأمسكه تاو رانلي في اللحظة الأخيرة.

انطلق هوا تشي كالسهم، انحنى على الرأس يتفحصه؛ الدم ما يزال يتقاطر، مقلتان غائرتان جافتان، واللسان متدلٍ منتفخ متحوّل إلى لون أرجواني مسودّ، منظر يبعث على الغثيان.

“إنه… شياو بانغ!”

ارتعد شيه وانتينغ، وتصبب عرقه البارد، ثم جذب نَفَسًا حارقًا، خرج صوته أجشًّا كحد السيف المصدّئ:

“كان يفترض به أن يحرس بوابة الجبل… يستقبل الضيوف من كل صوب. كيف… كيف يُذبح فجأة؟! من الذي تجرأ على هذا؟!”

أدار تشو بينغهوان نظره إلى مي كايلين:

“أمي؟”

لكنها كانت قد تجمدت أمام الفاجعة. ناداها ثلاث مرات حتى أفاقت، تنظر مذهولة إلى جثة التلميذ البائس الذي استُبدلت رأسه بالهدية.

“ما الذي يحدث؟ كان من المفترض أن تكون كونغهواو… كيف تحوّلت إلى هذا؟!”

سألها تشو بينغهوان بحدة:

“أما زلتِ متأكدة أنّكِ حرسْتِ الهدية بنفسك طوال الوقت؟ لم تدعي أحدًا يلمسها؟”

أجابت بلهفة:

“كيف لي أن أسمح بذلك؟ كونغهواو ضباب اليشم البنفسجي المائي هو كنز يونتيان شويجينغ، كنتُ أحرسه بعيني منذ خرج من الطائفة حتى دخلنا القصر! لم يفارقه بصري لحظة واحدة، يستحيل أن يكون استُبدل!”

تدخل تاو رانلي وقد اشتعل الغضب في صوته:

“مهما يكن، يا سيدة مي، فالهدية التي جلبتِها تحولت إلى رأس أخينا الصغير! عليكِ أن تُعطينا تفسيرًا.”

شعرت مي كايلين وكأن السهام تنهال عليها ظلمًا. قلبها مملوء بالحنق والارتباك. لماذا يتهمني قصر يي يو؟ من يدري أيّ يدغادرة امتدت إلى شياو بانغ؟ من أين نبدأ التحقيق أصلًا؟

بقي تشو بينغهوان ثابتًا، يسترجع ما حدث:

“حين وصلتُ مع معلمي، استقبلنا هذا الأخ. كان حيًّا حينها.”

وأضاف هوا تشي بنبرة عميقة:

“إذن، ليُستبدل صندوق الهدية، فلا بد أن يكون الفاعل قد اقترب من وفد يونتيان شويجينغ. أليس كذلك يا سيدتي؟ على طول الطريق، ألم يقترب منكم أحد؟ خادمة؟ وكيل؟ حتى خادم عابر؟”

غاصت مي كايلين في تفكير مرتبك، ثم هزت رأسها بعزم:

“الهدية بالغة الأهمية، لم أسمح لأحد بالاقتراب منها. يستحيل استبدالها!”

صمت هوا تشي لحظة، ثم رفع عينيه، يتفحص التلاميذ السبعة الذين اصطحبتهم مي كايلين من يونتيان شويجينغ.

حَبَس بعض الكلمات في صدره، لكنه اكتفى بالنظر نحو تشو بينغهوان نظرة مشحونة بمعنى خفي.

ارتجفت شفتا تشو بينغهوان، وكأنه فهم التلميح، لكنه لم يجرؤ على النطق.

حينها جمدت ملامح مي كايلين، ووجهها يزداد برودة، وحدقت في هوا تشي مباشرة:

“ما الذي تود قوله؟ أتشكك في يونتيان شويجينغ؟”

رفع هوا تشي يديه مستسلمًا ببراءة:

“هذا بالضبط ما كنتُ أفكر به يا سيدتي، لكن لمَ تقولينه بصوت عالٍ؟”

غضبت مي كايلين بشدة وقالت:

“إن يونتيان شويجينغ يفخر بالنزاهة، وكل تلميذ فيه يتمسّك بالاستقامة واللياقة. فكيف يمكن أن يحدث فعل شنيع كهذا؟! إن قواعد طائفتنا تعود بالنفع على جميع الكائنات الحية، ونحن نمقت العنف. ليست بيننا وبين قصر يي يو عداوة، ولا نعرف حتى من هو هذا الشاب الصغير. فلماذا يُقتل؟”

تقدّم تشو بينغهوان خطوة إلى الأمام قائلاً:

“أمي، أرجوكِ اهدئي. هوا تشي لم يقصد أن يُشهّر بيونتيان شويجينغ، بل هو قلق من أن يستغل أحد أصحاب النوايا السيئة تلاميذك.”

سألت مي كايلين بحدة:

“ولماذا يفعلون ذلك؟”

تدخّل مو رونغ سا الذي كان يراقب منذ فترة قائلاً:

“لإشعال صراع بين يونتيان شويجينغ وقصر يي يو؟”

وأضاف لين يان، الذي بدا شارد الذهن طيلة الوقت ثم أظهر فجأة بريق بصيرة:

“أو لإثارة الفوضى؟ خصوصًا أن تقديم ذلك التلميذ الصغير أمام السيد شيه وأمام الجميع، ألا يبدو أنه موجّه ضد السيد شيه بالذات؟”

ألقى هوا تشي على لين يان نظرة مليئة بالإعجاب.

وفجأة، دوّى ضحك مجنون من خارج الباب، فالتفت الجميع إلى مصدر الصوت. وقبل أن يصل الشخص، تقدّم صوته قائلاً:

“هل وجد السيد شيه هديتي التهنيئية مرضية؟”

تغيّر وجه شيه وانتينغ ما إن سمع ذلك. أسرع خارج القاعة فرأى يين ووهوي واقفًا بوقار على سطح المنزل المقابل.

انعقد حاجبا هوا تشي قليلاً، وبدت على وجهه شحوبة.

أما تشو بينغهوان فقد شعر باضطراب هوا تشي، فأمسك بيده أمام الجميع وكأن لا أحد سواهما موجود. تفاجأ هوا تشي وحدّق به مذهولًا، فرأى تشو بينغهوان يثبت بصره إلى الأمام بهدوء، ووجهه ساكن، لكن قبضته على يده ازدادت شدّة.

وبطريقة عجيبة، هدأ قلب هوا تشي.

ولوهلة، نسي حتى أن يسحب يده من يد تشو بينغهوان.

صرخ شيه وانتينغ بنبرة حادة كسيف جليدي:

“يين ووهوي! كنتَ أنت!”

ارتدى يين ووهوي رداءً أسود مطرّزًا بتنانين ذهبية، يتطاير مع الريح. وقال ساخرًا:

“لقد مللتُ من ظنونكم المتبادلة ومن إلقاء التهم يمينًا ويسارًا، فصرّحت بهويتي بكل كرم. هكذا أوفّركم من الشك في بعضكم بعضًا.”

لو كان القاتل شخصًا آخر لربما طُلب منه تفسير. لكن بما أنّه إمبراطور الشياطين الأعظم، يين ووهوي، فلا حاجة إلى أي سبب. فهو يقتل أحيانًا لمجرّد التسلية.

لم يُضِع شيه وانتينغ وقته بالكلام. استلّ سيفه ووثب في الهواء نحو يين ووهوي.

لم يستطع مو تشي يان أن يقف مكتوف الأيدي؛ فالقضاء على الشياطين وحماية الطريق الصالح واجب على الجميع. أوصى تشوانغ تيان تلميذه ون يوان بمراقبة إخوته الصغار، ثم انضمّ إلى المعركة ضد إمبراطور الشياطين.

وامتزج صليل السيوف والشفـرات مع ظهور نمر ملوّن شرس استدعاه تشوانغ تيان، فتحوّل بهو القاعة وما حوله إلى فوضى عارمة.

على الرغم من ضعف مستوى لين يان في الزراعة الروحية، إلّا أنّ بصيرته كانت عميقة. وباندفاع إيمانه بوجوب إبادة الشياطين من أجل جميع الكائنات، لم يأبه لمحاولات مو رونغ سا في منعه، وأصرّ على استدعاء طائر تشونغمينغ لطلب المساعدة.

وأخيرًا، أمسكه هوا تشي من ياقة ثوبه وسحبه بعنف إلى الخلف، ثم سلّمه إلى ون يوان.

لم يتردّد هوا تشي في توبيخه قائلًا:

“بمستوى زراعتك الحالي، أنت لا تكفي حتى لتكون إزعاجًا تافهًا أمام ين ووهوي!”

أما تشو بينغهوان، بصفته مزارعًا مختصًا بالطب، فقد اعتاد الوقوف في الخلف أثناء مثل هذه المعارك، ليكون مستعدًا لمعالجة المزارعين الذين يُصابون بجروح خطيرة.

ومع وجود شيه وانتينغ ومو تشي يان في ساحة القتال، إضافةً إلى تشوانغ تيان الذي يقدّم دعمه من الطرف الآخر، لم تكن هناك حاجة لهوا تشي أو لتلاميذ صغار للتدخّل. بل إن مستوى هوا تشي الحالي لم يكن ليسمح له سوى أن يصبح عبئًا.

لكن ما أدهش هوا تشي أكثر من ظهور يين ووهوي، هو تشوانغ تيان نفسه. فقد كان تلميذًا عنده لعامين كاملين، ومع ذلك، وباستثناء مواجهته السابقة مع لو مينغ فنغ، كانت هذه أول مرة يرى فيها تشوانغ تيان يخوض معركة حقيقية.

وما إن يقاتل مربّي الوحوش، حتى يكون القتال معركة حياة أو موت، حيث يقطعون أجسادهم لمجرد كلمة، ويطعنون أنفسهم بلا تردّد، فتغدو الساحة غارقة في الدماء.

استدعى تشوانغ تيان على التوالي وحشين روحيين: ثعلبًا شيطانيًا ذا تسعة ذيول، وقطًا شيطانيًا ذا ثلاثة ذيول.

قال بتنهيدة خيبة:

“ثعلب شيطاني، وليس ثعلبًا سماويًا؟” بدا عليه الإحباط، لكنه تقبّل الأمر على مضض أمام حتمية القتال.

ابتسم هوا تشي بمرارة.

فالثعالب السماوية مخلوقات خالدة، أمّا الثعالب الشيطانية فهي وحوش شريرة، والفرق بين مكانتهما شاسع. ومع ذلك، فالثعالب بطبيعتها كائنات نادرة ثمينة. ثلاث ذيول أمر شائع، ستة ذيول نادرة، أمّا تسعة ذيول…

لم يملك هوا تشي إلّا أن يندهش. فعلى الرغم من أن تشوانغ تيان يبدو بطيئًا ومشتّت الذهن، إلّا أنّ موهبته في ترويض الوحوش فاقت التصوّر.

وفجأة، اخترق صوت آلة الغوتشين (القيثارة الصينية-القانون) أرجاء المكان، وصل إلى مسامع هوا تشي وتسلّل إلى أعماق القاعة.

ارتجف قلب هوا تشي للحظة. لم يكن الصوت مزعجًا أو مهدّدًا، على الأقل لم يكن موجّهًا نحوه. بل هزّ الروح، فأربكه وأشعره وكأنه تائه في مجرى الزمن.

تماسك بصعوبة، وأدار نظره نحو مصدر الصوت.

وكما توقّع، كان شيه وانتينغ.

فأداته الروحية تُدعى جيويو، وهي قيثارة قديمة ذات سبعة أوتار، تُعتبر الكنز الحارس لقصر يي يو، ورمزًا تتوارثه أجيال القادة عبر القرون.

وبمجرد أن نقر على وتر واحد، تفرّقت النغمات في الهواء، فأثارت الأشجار والنباتات، وأفزعت الطيور فحلّقت بعيدًا.

كان يين ووهوي واثقًا في البداية، لكن ملامحه سرعان ما تغيّرت. تراجع أربع خطوات إلى الوراء وهو يتفادى سيف مو تشي يان، وعيناه تلمعان بنظرة حادة موجّهة نحو شيه وانتينغ.

وبينما استمرّت المواجهة، رفع مو رونغ سا يده ليغطي إحدى أذنيه وقال لهوا تشي:

“أي حقد دفين بين هذين الاثنين؟ انظر إلى طريقة نظر يين ووهوي إلى السيد شيه! لو لم أعرف الحقيقة، لظننت أن السيد شيه أغرق ابنه في بئر!”

هوا تشي…

“…”

في معارك المزارعين الخالدين، كانت الأدوار ثابتة: فمزارعو السيف هم الأقوى دائمًا، لذا كانوا في العادة مَن يتقدّم الصفوف عند مواجهة الشياطين.

يأتي مزارعو الموسيقى في المرتبة التالية بعد مزارعي السيوف، يليهم مربّو الوحوش الذين يبرعون في استدعاء الأرواح الحيوانية والتحكم بها عبر تقنيات الدم والروح، فيقاتلون من الصفوف الخلفية على بُعد. وأخيرًا، يأتي المزارعون الصالحون.

لكن تشو بينغهوان كان استثناءً بينهم جميعًا. ففي لحظات النقص الحاد في القوى البشرية، كان قادرًا على الوقوف جنبًا إلى جنب مع مزارعي السيوف في الصفوف الأمامية. وفي الأوقات التي يتوفّر فيها العدد الكافي من المقاتلين، يعود إلى دوره الأصلي كمعالج، لينقذ الأرواح.

كان وجود تشو بينغهوان واحد يعادل عربة كاملة من الرجال.

غير أنّ سيد الشياطين يبقى سيد الشياطين. فرغم اضطرابه من موسيقى شيه وانتينغ، ظلّ متمرّسًا، إذ تحرّر بسهولة من تشكيلات مو تشي يان المعيبة، وانقضّ مباشرة نحو شيه وانتينغ!

فورًا، اصطفّ تلامذة قصر يي يو مشكّلين مصفوفة، وعزفوا معًا على عشرة من الآلات الموسيقية الكبرى. ارتفع اللحن جليلًا مهيبًا، يخترق القلوب بقوة.

عندها تجمّدت حركات يين ووهوي فجأة، كأنّه رأى شيئًا مرعبًا. احمرّت عيناه بالدماء وامتلأتا بنية القتل.

انتهز شيه وانتينغ الفرصة، فتنقّلت أصابعه على أوتار القيثارة بخفة، فتحوّلت الموسيقى إلى شفرات حادة اخترقت باطن يين ووهوي.

ومع ذلك، ابتلع يين ووهوي دمه بقوة، وانفجر ضاحكًا ضحكة شرسة، ملقيًا نظرة جانبية إلى تلامذة قصر يي يو.

وفجأة، دوّى صراخ مروّع.

لقد كان أحد تلامذة يونتيان شويجينغ!

بسيف في يد واحدة، غرسه بلا رحمة في جسد أحد تلامذة قصر يي يو الذي كان يعزف على الناي. تفجّر الدم بغزارة، فارتبك الجميع.

ذلك التلميذ تحرّك بسرعة مذهلة، وبحركة خاطفة شقّ عنق اثنين آخرين من تلامذة قصر يييو الواحد تلو الآخر، قاطعًا موسيقاهم. عندها، قبض يين ووهوي على سيف القسوة وطعنه مباشرة نحو قلب شيه وانتينغ!

لكن في لحظة سريعة كالبرق، ومضة حمراء اندفعت، لتقف سدًا منيعًا أمام شيه وانتينغ.

صاح شيه وانتينغ بدهشة:

“التلميذ هوا!”

كانت عينا هوا تشي الفينيقيتان مظلمتين كسطح بركتين جليديتين. رفع هان شوي إلى شفتيه ونفخ بلطف. فتحوّلت النغمات إلى آلاف الطبقات من الحواجز، تصدّت بثبات لحدّ سيف القسوة.

غير أنّ صوت التصدّع الواضح تردّد من جانب هوا تشي، ومع كل ضربة يوجّهها يين ووهوي، كانت الحواجز تتكسّر طبقة بعد أخرى.

تراجع يين ووهوي بسيفه، وعيناه تتلألآن بشراسة وهو يزأر:

“هوا تشي!”

وفي الأسفل، غمر الغضب قلب تشو بينغهوان. وقبل أن يتمكّن من توبيخ هوا تشي كما يجب، زمجر يين ووهوي وهو يعضّ على أسنانه:

“أحسنت يا بُني! ها أنتَ تدير ظهرك وتعاون هؤلاء الخالدين الغرباء ضد أبيك!”

وما إن خرجت هذه الكلمات من فمه، حتى ساد الذهول وجوه الجميع.

هل وجدت خطأ؟ قم بالإبلاغ الآن
التعليقات

التعليقات [0]