🦋

كان شيطان العالم، يين ووهوي، مجنوناً تماماً.

يقول الناس: “الابن من أبيه”، لكن في الحقيقة، العكس صحيح أيضاً. هوا تشي كان يعرفه… يعرف جنونه أكثر من أي أحد آخر.

قاسٍ، متوحش، متعطش للدماء بطبيعته.

لطالما لامَه هوا تشي لأنه هجر زوجته وطفله، لكنه بعد أن عرف الحقيقة كاملةً، أدرك أنه كان محظوظاً بتلك الخيانة. فلو لم يتخلَّ عنه… ماذا كان سيصبح؟

أكان سيتحوّل إلى تابعٍ مطيع مثل دمى قاعه فين تشينغ؟

أم يُجبر على ابتلاع سمّ فين تشينغ، فيتحوّل إلى أداة قتلٍ أبدية بين يدي ذلك المجنون؟

إنّ هذه الدماء الموروثة بالذات كانت تكفي لتثير اشمئزازه. حتى لو عاش من جديد، فلن تتغيّر الحقيقة… إنها تثير غثيانه.

تحدّق هوا تشي فيه ببرود، وسأل:

“ما الذي جاء بجناب شيطان العالم إلى هنا؟”

خطا ين ووهوي داخل القاعة بخطوات واثقة، يتفحّص بفضولٍ جدرانها، ولوحاتها، وأثاثها، قبل أن يلتفت إليه قائلاً:

“أتدري من أكون؟”

أجاب هوا تشي بوجهٍ خالٍ من التعابير:

“عدوّ كيوتشو المشترك، كيف لي ألا أعرف؟”

ابتسم ين ووهوي بسخرية وهو يجذب كرسياً ويجلس بتعجرف، قائلاً:

“جيّد، وفّرتَ عليّ عناء التعريف. إذن لماذا لم تركع بعد وتناديني أبي؟”

كبح هوا تشي بصعوبة رغبته في الانفجار غضباً.

لطالما امتلك ين ووهوي طريقة تجعل الدم يغلي في العروق. ففي حياته السابقة، ظهر فجأة في بطولة الفنون القتالية، وأجبره علناً على الركوع أمامه ومخاطبته بـ”الأب”، مدّعياً بوقاحة: “أنا والدك.”

لكن هوا تشي حينها، وهو في عنفوان شبابه، لم يحتمل الإهانة، فردّ قائلاً ببرود:

“أفضل أن أناديك… عمي!”

ذلك المشهد لم يعلق بذاكرته تماماً، لكنه يذكر جيداً وجه يين ووهوي في تلك اللحظة—آه، كم كان مشهداً ممتعاً!

ممتعاً لدرجة أنه الآن، في هذه اللحظة، لم يستطع هوا تشي أن يمنع نفسه من الرغبة في رؤيته يتلوّى غضباً مرة أخرى.

وهكذا، حسم أمره وقال ببرود:

“أبي قد مات.”

في الحال، اسودّ وجه يين ووهوي وهو يصرخ:

“تجرؤ على لعن أبيك؟!”

“أبي… قد مات بالفعل!”

قالها هوا تشي وهو يطوي ذراعيه على صدره، ينظر إليه من علٍ بازدراء. “إن لم تصدّقني، فاسأل أهل هانغتشو كلهم. ما لديّ أم… ولا أب.”

ضحك يين ووهوي فجأة، قهقهة جافة مرعبة:

“ها ها، هل أخبرتك والدتك بذلك؟ هي تبغضني، فادّعت أنني متّ.”

بردت ملامح هوا تشي، واشتدّت نبرته كالثلج:

“أنت بارع في الافتراضات حقاً. لا تتوهم. أمي لم تعبأ بك يوماً. في نظرها… أنت لا تساوي قطة شاردة!”

كانت هذه الكلمات كالسوط على وجه الشيطان.

نجحت في إثارة غضبه القاتل—وما غضب سيد الشياطين إلا نذير هلاك، إذ يكفيه أن يثور لتمتلئ الأرض بجثث لا تُحصى!

اهتزّ البيت كله تحت وطأة هالة الشيطان، والضباب الدموي يزأر في أرجاء القاعة. 

امتدت يد يين ووهوي لتقبض على عنق هوا تشي، وعيناه الحمراوان متسعتان كوحشٍ جامح.

لكن هوا تشي لم يقاوم، تركه يخنقه، وقال ببرود قاتل:

“إن كنتَ تجرؤ… فافعلها. إن كنتَ حقاً أبي… فكم سيكون رائعاً أن تُنهي بيديك نسلَك الوحيد!”

ارتجفت يد يين ووهوي لا إرادياً، وأرخى قبضته بخوفٍ دفين.

انحنى هوا تشي وهو يسعل بعنف، يمسك حافة الطاولة ليستعيد أنفاسه.

اسودّ وجه سيد الشياطين، وظلّ برهة حتى هدأ زفيره، ثم قال بنبرة متكلّفة الاتزان:

“الآن فهمت… إنما تفعل هذا لتقف مع هوا شي جين ضدّي، لتنال لها القصاص… ولأجل ذلك تستفزّني عمداً.”

(هوا شي جين أم هوا تشي ممكن هذا كان اسمها قبل لاتنباع لبيت دعاره)

قهقه هوا تشي باستهزاء:

“تسمّي نفسك ذكياً يا سيد الشياطين؟ أي ذكاء هذا؟”

في حياته السابقة، لم يلتفت يين ووهوي إليه إلا بعدما تصدّر المراتب الأولى ثلاث مرات متتالية.

أما في هذه الحياة، فقد كان السبب مختلفاً—إذ كان هوا تشي هو من تصدّى أولاً وفضح جرائم لو مينغ فنغ.

ولو مينغ فنغ ذاك كان في طريق الخلود، بينما يين ووهوي زعيمٌ في طريق الشيطان.

سقوط لو مينغ فنغ المفاجئ لا بدّ أنه أثار فضول سيد الشياطين… ومن ثمّ لم يكن مستغرباً أن يوجّه بصره إلى هوا تشي.

وبالتحقيق الدقيق في خلفيته، لم يكن عسيراً أن يكتشف هويته.

قال يين ووهوي، متظاهراً بالسعة والرحابة:

“لا ضغينة بين الأب وابنه. وهذه ليلة رأس السنة، أيعقل أن نظلّ متباعدين؟ فلنقضِ معاً أول عامٍ نجتمع فيه كأب وابن!”

رؤية هذه الأبوّة المصطنعة جعلت معدة هوا تشي تنقلب، يكاد يتقيأ من قرفه.

لكن من أجل شياو بانغ والمربية جيانغ في الفناء الخلفي، حاول أن يجرّ الحديث بعيداً:

“ألستَ تنوي اختطافي إلى قاعه فين تشينغ؟”

قهقه يين ووهوي:

“كيف تسميه اختطافاً؟ بل هو عودة الابن إلى منزله.”

ثم أضاف، وعيناه تلمعان بالشر:

“هذا السيد يتذكّر… أن أحد تلامذة الحارس الأيسر هاجمك في وادي القمر المشرق… وقد قتلته.”

ردّ هوا تشي ببرود حديدي:

“وماذا في ذلك؟”

ضحك يين ووهوي ضحكة جنونية وقال:

“إن ابني حقاً رائع! ذلك النملة الحقيرة تجرّأت على تحدي من هو أعلى منها، فاستحقت الموت. 

أما الحامي الأيسر فلم يُحسن تأديب تابعيه، وارتكب بذلك جرماً عظيماً.”

سأل هوا تشي بهدوء:

“لقد سجنت شانغ شيمي…”

قهقه يين ووهوي قائلاً:

“حبسته في زنزانة المياه ليُراجع أفعاله. ما رأيك، يا بُني؟ هل هذا يخفف من غضبك؟”

لكن الحقيقة أن شانغ شيمي كان بريئاً تماماً. ولو أن يين ووهوي كان يعرف آنذاك هوية هوا تشي الحقيقية، لما سمح أبداً لذلك التابع بأن يتصرف بتلك الرعونة.

ظل هوا تشي بلا تعبير، يحدّق بصمت في يين ووهوي.

قال يين ووهوي وهو يبدد الضباب الشيطاني بابتسامة ودّية:

“عاجلاً أم آجلاً، ستعود إلى المنزل. هيا، رافق والدك إلى قاعه فين تشينغ. وبالطبع، يمكنك المقاومة، لكن عندها سيُضطر والدك لاستعمال بعض الأساليب.”

تلألأت عينا يين ووهوي بخبث:

“ألستَ تودّ أن تُبقي على هدوء هاتين النملتين في الفناء الخلفي؟”

ما إن وطئت قدما هوا تشي عالم الشياطين حتى تداعت إلى ذهنه ذكريات كثيرة مليئة بالألم.

لقد كان يمقت هذا المكان، ويمقت قاعه فين تشينغ بما يحمله من ذكريات حزينة. كان وكراً للشياطين، يضم يين ووهوي، ذلك السيد الشيطاني المجنون، وجموعاً لا تُحصى من الشياطين المتعطشة للدماء.

وعلى خلاف قفار عالم البشر المقفرة، كان عالم الشياطين عامراً بالبلدات والقرى والجبال والأنهار وحتى السماء الزرقاء والغيوم البيضاء. غير أن كل من يقطنه من المزارعين الشيطانيين كان ميالاً للقتل والقتال؛ فكل بضع خطوات يصادف المرء اشتباكاً دموياً بينهم ينتهي بمصرع أحدهم. 

مشهد لا تراه إلا في ساحات المذابح.

أما قاعه فين تشينغ، فكان يطوّقها غابة من أشجار القيقب الحمراء، منظراً يخلب الأنظار من بعيد.

لكن، لِمَ كانت أوراق القيقب في قاعه فين تشينغ بهذا الاحمرار الفاقع؟

يُقال إن أوراق القيقب الحمراء تلك قد تغذّت بدماء البشر، فأصبحت أكثر توهجاً من سائر أشجار القيقب العادية.

وكم من النفوس أُزهقت في هذا الوكر الجحيمي؟

حتى يين ووهوي نفسه، ربما لا يعلم العدد!

في حياته السابقة، كان هوا تشي قد فرّ من عالم الأشباح، وعاد شبحاً ناقماً قتل ستاً وعشرين أسرة دفعة واحدة. ثم هرب من الزراعة الأشباحية، واتجه إلى الزراعة الشيطانية، ليعود مجدداً إلى عالم الشياطين. وهناك، كان كل شيء مضطرباً، وقاعه فين تشينغ على وشك الانهيار.

لقد اتضح أن المزارعين الشياطين الذين قهرهم يين ووهوي بالقوة قد ثاروا أخيراً بعد أن ضاقوا بالذل. ومع تقدّم يين ووهوي في العمر، بدأ يبتلى بشياطين قلبه ويزداد جنونه واضطرابه. حينها انتهز المتمردون، وعلى رأسهم الحامي الأيسر شانغ شيمي، الفرصة للانقضاض.

وكانت أولى خطوات هوا تشي أن يقتل يين ووهوي. أما الخطوة الثانية فكانت توحيد عالم الشياطين الممزق، واعتلاء منصب سيد الشياطين في قاعه فين تشينغ.

“قتل المعلّم والعصيان على الأب”—هكذا قالت الدنيا، وهكذا كانت الحقيقة؛ فهوا تشي هو من قتله.

ذلك لأن يين ووهوي، وقد استولت عليه شياطين قلبه، لم يعد قادراً على التمييز بين الليل والنهار، فضلاً عن التفريق بين الوهم والحقيقة. وأمام هوا تشي كشف عن كل شيء.

صرخ قائلاً:

“لماذا لا تُحبّ هذا السيّد؟! ما الذي ينقص هذا السيّد؟! أين يقصر هذا السيّد عن ذاك الحقير؟! أتجرأ، وأنت مجرد إنسان فانٍ، على معاندة هذا السيّد؟! هذا السيّد هو الإمبراطور الأسمى لطريق الشياطين! هوا شي جين، إنك لا تعرف مصلحتك! فلا تلومنّ سيد الشياطين إن كان قاسياً عديم الرحمة!”

وفي تلك اللحظة، أدرك هوا تشي كل شيء.

لقد كانت والدة هوا شي جين مُزارعة جوّالة، أما والده فكان الأمير الذكر الوحيد في البلاط، رجلاً مرموقاً ذا سلطة ونفوذ.

ورغم أن والده وُصم بالخيانة على يد الإمبراطور وأُعدم مع عائلته بأسرها، إلا أن والدته كان بإمكانها أن تفرّ بسهولة، مُصطحبة معها المئات.

لكن المذبحة التي حاقت بأسرة هوا لم تكن بأمرٍ عادي، بل نُفذت على يد مزارعين.

لطالما فكّر هوا تشي في احتمال تورط كثيرين، لكنه لم يتوقع يوماً أن يكون الفاعل هو يين ووهوي نفسه.

ولماذا سعى لإبادة أسرة هوا شي جين بأكملها؟

السبب كان بسيطاً للغاية: لقد وقع نظر يين ووهوي على تلك المرأة الرقيقة المذهلة في جمالها.

إلا أن هذه الجميلة كانت مخطوبة منذ زمن، وكان زواجها مرتقباً بعد بضع سنوات. ثم إن هوا شي جين لم تكن تبدي أي اهتمام بسيد الشياطين. فكيف لامرأة عفيفة، مرتبطة برباط مقدس، أن تقيم أي صلة بسيد شياطين مثل يين ووهوي؟

فثار غضب سيد الشياطين.

وفي ليلةٍ واحدة، أُبيدت العائلة بأسرها، وفقدت هوا شي جين كل سند، بل وانتهى بها الأمر بأن تُباع إلى بيت دعارة لتُصبح غانية.

وحملت هوا شي جين بطفل من الشيطان الذي ذبح أسرتها بأكملها!

لكن لماذا أبقت ذلك الطفل؟ لِمَ لم تُجهضه؟

أتُراها فكّرت بأنه لا يزال جزءاً من دمها؟

رغم الكراهية العميقة التي تكنها لأب الطفل، إلا أن الأم لم تكن سوى نفسها، ولم تستطع أن تفعلها. آثرت أن تُنجب تلك الكارثة، وتترك ذلك الورم ينمو في أحشائها.

شعر هوا تشي بالغثيان واليأس.

يأس من أجل هوا شي جين، واشمئزاز من يين ووهوي.

لقد قتله بيديه هو نفسه.

غمره الظلام، بلا شمس ولا أمل. لم تكن هناك سماء صافية تمتد لآلاف الأميال، ولا نقاء ولا صفاء؛ لقد أصبح ملطخاً، لم يعد بريئاً طاهراً، بل فسدت روحه كلها.

لقد مارس الزراعة الشيطانية، وظلم قلبه.

وفي عروقه يجري دم يين ووهوي، فجسده أيضاً قد تدنّس.

كان بحاجة إلى شخص طاهر، غير ملوّث، ليقتله، ليحرّره.

فجأة، خطر في باله تشو بينغهوان، فارتجف قلبه وخزاً مؤلماً. استيقظ فجأة من دوامة الذكريات، وإذا به يفيق على مائدة عامرة بما لذّ وطاب من الأطعمة البحرية والولائم.

ابتسم يين ووهوي وهو يرفع كأس الخمر قائلاً:

“يا للمصادفة! في مثل هذه الساعة تماماً، كبر ابني عاماً آخر.”

أغمض هوا تشي عينيه بلا مبالاة وقال:

“أشعر بالغثيان، لا أستطيع الأكل.”

ازدادت ابتسامة يين ووهوي عمقاً:

“تماماً مثل أمك، عنيدة، تحب أن تتدلل.”

صرخ هوا تشي فجأة وهو ينهض واقفاً، والماء المتساقط لا يطال جسده:

“أي حق لك أن تذكرها؟!” ثم همّ بالمغادرة بعد أن قال ذلك.

“قف!” نادى يين ووهوي.

توقف هوا تشي.

قال يين ووهوي وهو يبتسم ابتسامة شريرة:

“تزداد جرأةً يوماً بعد يوم. أتظن أن قاعه فين تشينغ مكان يمكنك أن تدخله وتخرج منه كما تشاء؟ إن أردت بقاءك، فكيف ستغادر؟ أأسجنك؟ أم أقتلك وحسب؟”

ظل هوا تشي ثابتاً، ورفع صوته قائلاً:

“سيد الشياطين، دمويٌّ لا يعرف الرحمة، يقتل ابنه بيده—ماذا يُحسب ذلك؟! هيا، افعلها!”

وما إن قال ذلك حتى ظهر حاجز أمامه فأجبره على التوقف. وسمع صوت يين ووهوي يتابع من خلفه:

“أتظن حقاً أن هذا السيّد عاجز عنك؟ أنك لا تُقهر، بلا نقاط ضعف؟”

ارتجف هوا تشي دهشة.

أردف يين ووهوي قائلاً:

“يونتيان شويجينغ، وذلك المكان المسمى قصر السُكارى في بيوت الأنس، وقاعه طائفتك لينغ شياو… هل تظن أن تلوين هذه الأماكن الثلاثة بالدم سيكون مشهداً مذهلاً؟ رائع الجمال؟”

قبض هوا تشي قبضتيه بقوة حتى ابيضّت مفاصله وصرّت عظامه صريراً.

لقد كان في هذه الحياة لا يريد قتالاً، فقط أن يلاعب القطط والكلاب، ويعيش حياة هانئة حتى الممات.

لكن بعض الناس يأبون أن يتركوه وشأنه.

وعلى الأقل، في هذه الحياة كما في السابقة، كان يريد شيئاً واحداً—

أن يقتل يين ووهوي!

هل وجدت خطأ؟ قم بالإبلاغ الآن
التعليقات

التعليقات [0]