خرج هوا تشي من يونتيان شُويجينغ وهو يشعر بالانتعاش والانشراح.
حياة ثانية، لا مزيد من التعقيدات، ولا مزيد من الارتباطات، ليجنّب كلا الطرفين المعاناة.
في حياته السابقة، كان هوا تشي مولعاً بـ تشو بينغهوان، منذ اللقاء الأول المهيب، إلى أن أصبح بينهما ألفة ومودّة تدريجية، وانتهى به الأمر إلى التزام لا يتزعزع حتى الموت. بل وصل به الأمر إلى أسرِه وحبسه في عالم الشياطين، وإجباره على رباط زوجي، مبرراً ذلك بقوة زراعته العميقة.
أما الآن، وهو يسترجع ما حدث، فقد بدا الأمر حقيراً حقاً.
لو أن تشو بينغهوان قد قبل طوعاً، لكان الأمر مختلفاً. لكنه كان متحفظاً وعنيداً، يمتلك طبيعة صلبة لا تلين.
وحتى لو حاول هوا تشي التقرب، لكان يفضّل الموت على الخضوع، متصرفاً كأنثى عفيفة بطولية على وشك أن تعض لسانها لتنتحر.
وهوا تشي، حتى وإن أُغري تحت وطأة الارتباك، لم يستطع أن يُقدِم على ذلك.
لم يرغب يوماً في شيء يُقدَّم له مكرهاً، وذلك يوضّح كم كان تشو بينغهوان يحتقره.
كثيرون تمنوا الصعود إلى فراش السيّد الأعلى، لكنهم لم يستطيعوا. هاها!
ركب هوا تشي العربة، مبتسماً بسخرية من نفسه.
ومن منظور آخر، لو أن هناك رجلاً مهووساً به، محباً إلى حد الجنون، يختم نواته الذهبية عند أي خلاف، ويحبسه بشتى الوسائل…
ارتجف جسده بقشعريرة.
آسف يا تشو بينغهوان!
إن محاولة جعل البطيخة المسروقة حلوة المذاق أمر محكوم عليه بالفشل، وهذه هي الحقيقة.
وبعد السفر لساعتين، نزل هوا تشي من العربة، وأمر المربية جيانغ بالعودة إلى القصر.
قالت المربية بقلق:
"يا سيّدي الصغير، ألن تعود مع هذه الخادمة العجوز؟"
فمن دون دعم من أسرة الزوج، ما الذي سيؤول إليه حال السيد الشاب في المستقبل؟
كان هوا تشي بطبيعة الحال يدرك مخاوف المربية جيانغ، فابتسم بلا مبالاة:
"أنا… كح كح، صحتي واهنة. تجاهل الأمر قد يعجّل بنهايتي."
"يا سيّدي الصغير، لا تقل ذلك!" قالت المربية بصرامة غير معتادة، تحدق فيه طويلاً، ثم ما لبثت أن تنهدت بأسى وقد خذلها تماسكها.
"كنت آمل أن أستفيد من نفوذ أسرة تشو في علاج حالتك. فطائفة يونتيان شُويجينغ مشهورة بطبها وممارساتها في الزراعة الروحية.
حتى طائفة شانغ تشينغ الخالدة الشهيرة لديها تلميذ بمرض عضال، وقد اضطر للقدوم خصيصاً للعلاج في يونتيان شُويجينغ. سيّدي الصغير، وبعد أن شكّلتَ بصعوبة بعض الروابط، حتى لو لم تُبرم زواجاً، أليس من الأفضل أن تذكر الأمر على الأقل من أجل صحتك؟"
هوا تشي، مواكباً حركة عرف الحصان، قال:
"أي روابط؟ لا تتعدى كونها اتفاقاً شفهياً. وفي هذا العصر مع إمبراطور جديد وسياسات جديدة، ناهيك عن أن الأمر من جيل مضى، فهل تتوقعين أن يلتزم أحد التزاماً صارماً بأوامر أسلافه؟ ثم، في وضعي هذا… لديّ شيء من الوعي الذاتي. فلا حاجة لضفدع يطمع في لحم البجعة."
شعرت المربية جيانغ بغصّة حزن:
"يا سيّدي الصغير…"
"يكفي!" قال هوا تشي وهو يلوّح بيده، "أرى أن الأمور جيدة كما هي الآن. التورط مع تلك الأسر الكبيرة قد لا يكون أمراً محموداً. حسناً، حسناً، العالم مليء بالأطباء والمزارعين الروحيين، وليس يونتيان شُويجين وحدها. أنوي أن أبحث عن طائفة وأتتلمذ فيها لأقوي جسدي وصحتي."
فكرت المربية جيانغ في الأمر، ورأت أنه اقتراح جيد، فقالت:
"ما دمت تريد الانضمام إلى طائفة، فمن الطبيعي أن تختار الأفضل. هل يرغب سيّدي الصغير في الذهاب إلى طائفة شانغ تشينغ الخالدة؟"
تجمّدت ابتسامة هوا تشي على وجهه.
نعم، في حياته السابقة، ذهب بالفعل إلى طائفة شانغ تشينغ الخالدة، ثم… حدثت سلسلة طويلة من الأمور.
"لا، تلك الطائفة كبيرة جداً، وفيها الكثير من الصراعات. الأمر غير مريح." قال هوا تشي. "فلنبحث عن مكان صغير لا يُذكر.
لا أريد أن أتميز أو أصنع اسماً لنفسي. فقط أساير الحياة حتى يأتي الموت! هاها، ومع قليل من الحظ، قد أصبح شيخاً أو وزيراً هناك."
أدركت المربية جيانغ أن هوا تشي قد حسم أمره، ولن يجدي إقناعه.
ثم إن حياة عادية ربما لا تكون أمراً سيئاً، فعلى الأقل يمكنه أن يعيش سعيداً بلا أعباء أو مسؤوليات.
قالت:
"سيّدي الصغير، أرجوك اعتنِ بنفسك جيداً. لا تتورط في نزاعات لا ضرورة لها مع أولئك النبلاء وأصحاب المناصب.
أعلم أنك شغوف وتكره الشر، لكننا لا نستطيع منافسة هؤلاء. لذلك، عليك أن…"
لكنها قُوطعت حين عانقها هوا تشي فجأة.
ارتبكت المربية جيانغ. فمنذ طفولته، كان سيّدها الصغير مشاغباً ومرحاً، يكفي أن تغفل عنه لحظة ليتسبب في مشكلة، مما كان يثير قلق الآنسة مي كثيراً. ومع تقدمه في السن، صار أكثر تمرداً وحرية، ونادراً ما أظهر لحظات هادئة وعاطفية كهذه.
أخذ هوا تشي نفساً عميقاً. فعدا عن والدته، كانت المربية جيانغ أفضل إنسانة في العالم بالنسبة له.
ثم أرخى ذراعيه ببطء، ورسم على وجهه ابتسامة ماكرة:
"حين أختطف أختي الصغيرة من الطائفة، سأعود بها فوراً لأثبت لك برّي بك."
ضحكت المربية جيانغ:
"ما زلت لا تتصرف كما ينبغي."
كان يحاول فقط أن يُسعد العجوز. فمهما حدث، كان قدره أن يشيخ وحيداً.
وبينما تراقب المربية جيانغ وهي تغادر، أخذ هوا تشي يفكر إلى أين يتجه. وادي فينغ مينغ وقصر يي يو يتمتعان بسمعة طيبة، وهما إلى جانب يونتيان شُويجين يشكلون الطوائف الثلاث الكبرى في عالم الخلود. خيار جيد، لكن لا يمكنه الذهاب إليهما.
ليكن… سيجد مكاناً قريباً من المنزل، يوفر المأكل والمأوى.
تنهد هوا تشي بحسرة، إذ ازدادت كآبته بسبب جسده الشاحب الضعيف. لم يكن طفلاً خديجاً، ومع ذلك ولد بجسد واهن سقيم، وهو أمر غريب.
لم تكن لديه إصابات أو أمراض قديمة، فمن يدري لماذا أصبح على هذه الحال بعد ولادته من جديد.
ربما لم تكن ولادته الثانية بلا ثمن، وربما كان القدر قد أخذ إكراميته الصغيرة سراً؟
لقد كان يود أن يجد قرية هادئة في الريف، يتنزه فيها بين القطط، ويداعب الكلاب، ويعيش حياة خالية من الهموم حتى وفاته. لكنه لم يعلم أن القدر كان يُخفي له أمراً آخر.
ولتجنب الوقوع ضحية لنزلة برد تؤدي إلى تكرار المصير المأساوي من حياته السابقة، وجد هوا تشي نفسه مضطراً لأن يسلك الطريق نفسه الذي قاده إلى الزراعة الروحية في حياته الأولى.
ورغم أن خبرته السابقة كانت كافية لأن يزرع دون الانضمام إلى طائفة، إلا أن قضائه مئة عام في زراعة طريق الأرواح، ومئة عام أخرى كمزارع شيطاني، جعله ينسى منذ زمن بعيد أساليب الزراعة الخالدة التي تعلمها في طائفة شانغ تشينغ الخالدة.
والآن، بعد أن وُلد من جديد، لم يكن هوا تشي راغباً في العودة إلى الطريق الشيطاني إلا عند الضرورة القصوى.
لذا قرر أن يجرب إدخال الطاقة الروحية إلى جسده، وهي المهارة الأساسية المشتركة بين المزارعين الخالدين والشيطانيين.
هذه العملية، اعتماداً على الموهبة والفطرة، قد تستغرق من ثلاثة أيام إلى ثلاث سنوات للمزارعين.
في حياته السابقة، نجح هوا تشي في نصف يوم فقط، ما جعله ينال الإعجاب والحسد من الجميع.
وبفضل خبرته السابقة، لم يحتج في حياته الحالية سوى أربع ساعات حتى نجح في إدخال الطاقة الروحية إلى جسده.
حين فتح هوا تشي عينيه، كان الليل قد أرخى سدوله.
وفجأة، وصل إلى أذنيه أنين رقيق.
ظن هوا تشي أنه توهّم، فتجاهل الأمر.
الفتاة التي كانت تختبئ خلف صخرة منذ مدة فقدت صبرها.
وبعد أن تأكدت من أن أذني الثعلب لديها مخفية جيداً، خرجت وهي تعرج، وعيناها اللامعتان مغرورقتان بالدموع، وصرخت بأسى:
"أنقذني، يا سيّدي الشاب، أنقذني!"
نظر هوا تشي يميناً ويساراً، ثم أشار إلى نفسه قائلاً:
"تنادينني أنا؟ غيرك، هل يوجد أحد هنا في وسط هذا الخلاء؟!"
كانت روح الثعلب، وهي تبكي كزهرة كمثرى تحت المطر، قد تعثرت بشيء مجهول تحت قدميها، فسقطت على بعد خطوة واحدة من هوا تشي، وتوسلت:
"أنقذني، يا سيّدي الشاب."
سألها هوا تشي:
"ما الأمر؟ هل يطاردك أحد؟"
ألا يمكنك مساعدتي على النهوض أولاً، أيها الغبي!؟ غلّت روح الثعلب في داخلها.
كان هذا فريستها رقم ثلاثمئة. وبصفتها صيادة ماهرة بين المزارعين الشياطين، كانت واثقة أنها أمسكت بضحيتها هذه المرة!
لكن هذا الشاب وسيم جداً، بل أكثر وسامة من أمير إحدى الممالك الذي التهمته قبل أيام.
حدّقت روح الثعلب في هوا تشي بعينيها الساحرتين، حتى كادت تسيل لعابها.
"نعم، هناك قاطع طريق يطاردني. يا سيّدي الشاب، أرجوك أنقذني. بوهو… بوهو…"
هذه السيدة فاتنة إلى حد قادر على إسقاط مملكة بأكملها! لم تصدق روح الثعلب أن هذا الفتى يمكن أن يبقى غير متأثر!
"أهكذا الأمر؟" قال هوا تشي وهو ينهض، ماداً يده ليمسك بيد الفتاة البائسة ويعينها على النهوض، بصوت هادئ: "آنستي، لا تخافي. أنا…"
ها هو على وشك مساعدتي، هذا الغبي! فكرت روح الثعلب بفرح.
لكن ما إن نهض، حتى مد هوا تشي يده بحركة دقيقة وسريعة، فشقّ دانيتيان الفتاة.
فوجئت روح الثعلب، واتسعت عيناها وهي تحدق في هوا تشي بعدم تصديق.
وبلمسة خفيفة من طاقته الحقيقية في راحة يده، أصاب هوا تشي دانيتيان الجريحة لتلك الفتاة.
ثم مد يده إلى الفضاء الخالي وسحب نواة ذهبية براقة ملونة.
وتحت وهجها المتلألئ، أشرقت عيناه على هيئة العنقاء بألوان لامعة، وهو يقول بابتسامة باردة:
"أنا أخطر من قاطع الطريق."
روح الثعلب: "أنت! أنتَ…"
أخفى هوا تشي النواة، مبتسماً بصدق:
"شكراً."
ماتت روح الثعلب وهي تفيض بالغيظ.
لا ينبغي أن يكون الأمر هكذا… أتذكر أنني راقبته من الظلال عند الغروب؛ كان بوضوح مجرد إنسان عادي!
كيف أصبح، في غمضة عين، مزارعاً يملك طاقة حقيقية؟
وفوق ذلك، كانت ضربته شرسة، حاسمة، بلا تردد!
"توقّف!" جاء صوت شاب وهو يهبط من السماء.
وبعد أن لامس الأرض، لم يلتفت حتى إلى سيفه، بل أسرع لتفقّد روح الثعلب التي عادت إلى شكلها الأصلي.
"اللعنة، لقد انتهى أمرها!" اتسعت عينا الشاب وهو يحدّق في هوا تشي، ثم مد يده قائلاً:
"أعطني إياها!"
هوا تشي: "أعطيك ماذا؟"
"نواتها! لا تتظاهر بالغباء معي، أنت أخذتها، أليس كذلك؟!"
اشتعل غضب الشاب واحمرّت عيناه. "لقد قضيت سبعة أيام وليالي ألاحقها، ولم أتوقع أن تتدخل. هيا، سلمني النواة التي عمرها مئة عام!"
ابتسم هوا تشي:
"يا للغرابة. أنا الذي قتلت الشيطان، وأنا الذي استخرجت النواة، وهي الآن في جيبي. فما الذي يؤهلك لتقاسم الغنيمة؟"
رد الشاب:
"لمجرد أن هذه الثعلبة فريستي! كل شيء ينبغي أن يتبع قاعدة الأسبق أولى، أليس كذلك؟ أنا من اخترتها أولاً."
هز هوا تشي كتفيه:
"اخترتها، لكنك لم تستطع الإمساك بها حتى بعد سبعة أيام؟ يا أخي، سرعتك…"
"أنا بارع في معرفة عدوي والفوز في مئة معركة. ماذا تعرف أنت؟ أحذرك، إن لم تسلمني نواة الشيطان فسوف…"
لكن وجه هوا تشي تغيّر فجأة، فأمسك بالشاب النشيط وجذبه بسرعة، دافِعاً إياه خلف صخرة، ثم لحق به واختبأ.
قال الشاب بارتباك:
"ما الذي تفعله؟"
غطّى هوا تشي فمه بإحكام، مشيراً إليه بالصمت.
في حيرة من أمره، ظن الشاب أن الثعلبة العجوز عادت لتنتقم بعد مقتلها، فشعر ببعض الشماتة:
"هذا جزاؤك! فقط سلمني نواة الشيطان، وسأتولى الأمر عنك!"
لم تكن ملامح هوا تشي توحي بالذعر، بل بشيء أشبه… بالحرج.
وكان الشاب يترقّب بشغف رؤية تلك الثعلبة العجوز وهي تلقّن هوا تشي درساً، فمدّ رأسه بنفاد صبر ليراقب.
لكن لا روح ثعلب ظهرت، ولا حتى شعرة منها. بل إن الخارج من أعماق الغابة كان رجلاً، طويل القامة، تشع منه هيبة استثنائية حتى من بعيد.
خفق قلب هوا تشي بشدّة.
تقدّم الرجل إلى ضوء القمر.
كان يرتدي الأبيض، بارداً وأثيرياً، بوجه وسيم لا تشوبه شائبة. ثلاثة آلاف خصلة من الشعر الأسود الحريري عُقدت بدبوس، وعيناه الصافيتان تعكسان نجوم السماء بأسرها. كان يحمل سيفه ، يسير بخطى هادئة، ممزوجاً مع نقاء ضوء القمر. ولو لم يكن المرء يعرفه، لظنّ أن أحد خلائف قصر قوانغهان الأسطوري (قصر القمر الذي تقطنه الإلهة تشانغ-أه والأرنب اليشمي والحطّاب وو قانغ) قد هبط إلى الأرض.
ظل الشاب يحدّق مذهولاً للحظات، قبل أن يدرك فجأة:
"أليس هذا… يون… يون… مــمـمـف!"
تمنى هوا تشي لو يستطيع أن يدسّ إصبعه في فم الشاب ليخرسه!
ومهما حاول الاختباء، فسيظل في النهاية شو بينغهوان.
يا له من قدر محتوم!