🦋

كان كي روان يشعر بشفقة صادقة تجاه سي يوهان. 

ففي النهاية، لم يكن الأخر سوى طفل لم يتجاوز السابعة أو الثامنة من عمره. لو لم يتعرض لكل هذا العذاب، ما كان ليصبح وحشًا كما تصفه الرواية.

ارتدى له كي روان الملابس بعناية، وقد بدا سي يوهان كطفل صغير يرتدي ملابس والده الواسعة.

لكن كي روان لم يستطع أن يفحصه بنفسه؛ إذ سيكون من الغريب أن يُظهر أمير متغطرس فجأة أنه يجيد الطب.

كان سي يوهان يحدّق فيه بصمت. 

إن كان كي روان هو حقًا من عاد إلى الحياة كما عاد هو، فكان عليه أن يرتجف خوفًا، أو أن يمتلئ كرهًا… فقد كنتُأنا من دمّر عائلته ومزّقه إربًا. 

فلماذا؟ لماذا لا يتصرف هكذا؟ لماذا يبدو وكأنه… قلق عليّ؟ لماذا؟

ضحك سي يوهان بخفة. 

ثم قرر أنه لا يهم. 

فكي روان سيموت في النهاية، عاجلًا أو آجلًا، وسيحرص هو على أن يرى ذلك بعينيه.

شعر كي روان بقشعريرة تسري في جسده فجأة، فنظر إلى سي يوهان ليجده يحمل النظرة ذاتها التي وصفتها الرواية… نظرة باردة، منغلقة، ولكن لا تزال تحمل ملامح الطفولة البريئة.

عبس كي روان. 

في داخله، بدأ يشعر بشيءٍ سيّئ قادم.

في تلك اللحظة، سُمعت خطوات تقترب. دخل رجل مسنّ بزيّ رسمي، يحمل صندوقًا صغيرًا، وانحنى أمام كي روان قائلاً باحترام:

“سموك.”

أومأ كي روان برأسه. “افحص حال الطفل.”

ثم توقف لحظة بعد أن قالها. 

هل يبدو من الطبيعي أن يقول أمير مراهق مثل هذا الكلام الحكيم؟ ألقى نظرة عابرة على من حوله. 

لحسن الحظ، لم ينتبه أحد. تنفّس الصعداء.

اقترب وسأل الطبيب: “ما حاله؟”

“سموك، لم يأكل شيئًا منذ أيام، ولهذا بدا ضعيفًا. أما الجروح، فهي سطحية ويمكن علاجها ببعض الدواء. سيتعافى في غضون أيام قليلة. لا داعي للقلق.”

“إذاً اذهب الآن وابدأ بوصف الدواء.”

انحنى الطبيب مجددًا وقال: “أمرك، سموّ الأمير.”

ثم أمر كي روان الخادمة بأن تجلب له قليلًا من العصيدة من المطبخ الملكي.

“حالًا، سموّك.” غادرت الخادمة، وابتسم كي روان لسي يوهان ابتسامة خفيفة.

صاحب هذا الجسد ارتكب الكثير من الجرائم بحق هذا الطفل… لم يكن من المنطقي أن يثق به فورًا.

وكان يتفهّم ذلك تمامًا.

ثم توارى خلف الستارة الخشبية ليبدّل ملابسه المتّسخة.

“أخي… أخي!”

فجأة سمع صوتًا رقيقًا وحلوًا. توقف كي روان، ونظر من خلف الستارة، فإذا بفتاة صغيرة، لا يتجاوز عمرها أربع أو خمس سنوات، تركض نحوه.

على الفور، تغيّرت ملامح كي روان، وارتسمت ابتسامة دافئة على وجهه. انحنى ليعانقها، وكانت وجنتاها قد احمرّتا من الجري، وعيناها المستديرتان تلمعان كحبّات عنبٍ ناضجة في خريف حلو.

كانت الأميرة الوحيدة في مملكة اللهيب الأحمر، وأخت كي روان المدلّلة، وكانت أغلى ما يملك. 

لم يكن يرفض لها طلبًا، مهما كانت معاملته لباقي البشر قاسية.

رفعها برفق بين ذراعيه وقال بابتسامة: 

“ماذا تفعلين هنا؟”

لفّت ذراعيها حول عنقه وقالت: 

“اشتقت إليك كثيرًا، كثيرًا!”

أومأت مربيتها برأسها احترامًا وهي تقف خلفها، فرد كي روان التحية بإيماءة خفيفة، ثم ربّت على أنف الصغيرة ضاحكًا.

دخلت الخادمة حاملة العصيدة، ووضعتها بجانب سي يوهان.

رأته كي نوه، ولم تستطع أن تبعد نظرها عنه. اقتربت منه بهدوء.

حمل كي روان الطبق، وجلس بجانب السرير قرب سي يوهان.

“لم تأكل شيئًا منذ أيام. تناول هذه العصيدة أولًا، وبعدها سنجلب لك شيئًا آخر.”

نظر إلى كي نوه، التي كانت قد التصقت بسي يوهان كالمغناطيس، ثم مدّ له الوعاء ليناوله إيّاه… وفي الحقيقة، كان يحاول إبعاد كي نوه عن سي يوهان بهدوء.

وبمجرد أن سُحبَت من جانبه، عبست كي نوه، ثم ضربت ذراع أخيها بقبضتها الصغيرة، تعبيرًا عن غضبها الطفولي.

وفي تلك اللحظة، بدأ الجليد الذي كان يغطي عيني سي يوهان يتصدع ببطء.

أجلس كي روان شقيقته على مقعد صغير، وضغط على كفيها الصغيرتين ليطمئنها.

لم تكن نهاية كي نوه سعيدة هي الأخرى…

ففي الرواية، وقعت كي نوه في حب سي يوهان، كما يقع العصفور في مصيدة. 

أحبّته بجنون، حتى أنها خانت وطنها من أجله. وخلال المعركة الأخيرة، زارته، فاعتدى عليها جنوده، وماتت في ساحة الحرب.

ربما علم سي يوهان بالأمر، وربما لا… لكنه تظاهر بأنه لم يرَ شيئًا. 

كانت كراهيته قد طغت على كل شيء.

ولم تتحدث كي نوه… لم تعاقب أحدًا… فقد مات قلبها.

بعد أن أنهى سي يوهان تناول العصيدة، ألقى نظرة جانبية على كي روان، الذي كان شاردًا، فارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة… في عينيه لمعت نظرة جنونية، مزيج من الفضول والرغبة.

شعر كي روان بتأنيب ضمير غريب وهو يُحدّق فيه. ما فعله اليوم كان اندفاعيًا بكل المقاييس… لكنه لم يكن يملك وقتًا للتفكير. 

كان عليه أن يغامر… من أجل إنقاذ حياته.

ناول كي روان شقيقته الصغيرة إلى مربيتها بلطف.

“لقد تأخر الوقت… خذيها إلى جناحها.”

أومأت المربية مطيعة، لكن كي نوه توسلت إليه وهي تبكي وتصرخ، ومع ذلك، لم يسمح لها بالبقاء.

جلس كي روان على المقعد، وراح يسند كفيه المتراخيين على الطاولة. كانت عيناه سارحتين دون تركيز، قبل أن تنتقل ببطء نحو سي يوهان… فوجده يبادله النظر.

ساد صمت ثقيل بينهما.

فتح كي روان شفتيه وكأنه أراد قول شيء، لكن صوت الخادمة قطع عليه لحظته:

“سموك، الملابس أصبحت جاهزة.”

شعر كي روان وكأنه تنفّس الصعداء.

“أحضريها.”

راح سي يوهان يتحسس القماش بأطراف أصابعه. كانت الملابس فاخرة، ولا شك أنها غالية الثمن. وقف كي روان مترددًا، متسائلًا عمّا إذا كان عليه أن يعتذر. ما فعله في الماضي لا يُغتفر…

“أنا… آه…” تلعثم وهو يحاول التحدث.

لكن سي يوهان لم يترك له فرصة. 

كان قد ارتدى ثيابه، ونهض من السرير، ثم انحنى أمامه بانضباطٍ رسمي.

“سموك، إن لم يكن لديكم أمر آخر، فأودّ الانصراف.”

من كلماته، أدرك كي روان أنه في الحقيقة يقول: إذا كنت أيها الوغد قد شعرت فجأة بوخزة ضمير، ولن تعذبنياليوم، فاتركني أرحل.

ابتلع كي روان كلماته، فقد أدرك أن الصمت في هذه اللحظة أنسب من أي اعتذار أجوف.

“اذهب.” أومأ له بشكل محرج، في حرجٍ ظاهر.

غادر سي يوهان القصر، وعاد إلى غرفته الصغيرة المظلمة. كانت كما تركها دائمًا: بلا نوافذ، بلا أثاث يُذكر، أشبه بسجن كئيب. 

لا تُقارن بشيء مما رآه في قصر كي روان.

كانت لمسة الحرير على جلده الفتيّ كفيلة بإثارة وميضٍ خافت في عينيه. 

بدأ يداعب ذقنه بتفكيرٍ عميق.

كي روان…

كرر الاسم أكثر من مرة، بصوت يحمل بعض الشك، لكنه مغموس بالقسوة.

ثم سُمع طرقٌ على الباب. ابتسم سي يوهان ابتسامة مصطنعة، وفتح الباب. كان القادم هو الطبيب الملكي الذي عالجه قبل قليل.

ناول الطبيب كيسين من الدواء على عجل، بنظرةٍ ساخرة ولهجة ملؤها الاستهزاء، لا تمتّ بصلة لاحترامه السابق في حضرة الأمير.

“الأمير طلب مني أن أُعطيك هذا.”

تشددت أصابع سي يوهان في كمّيه، لكنه لم يمدّ يده لتسلم الدواء.

ارتفعت داخله رغبة قاتلة.

منذ زمن طويل لم يُعامَل بهذه الحقارة…

ارتبك الطبيب قليلًا، وشعر بالخوف من عينيه الباردتين دون أن يعرف السبب. 

وحين لم يأخذ سي يوهان الدواء، رماه إليه بازدراء:

“لا عجب أنكم من بلادٍ دنيئة… لا تعرفون للذوق ولا للأدب طريقًا.”

هل وجدت خطأ؟ قم بالإبلاغ الآن
التعليقات

التعليقات [0]