“ماذا؟” ارتبكت المربية جيانغ، وعلا وجهها الذهول.
قال هوا تشي:
“لست مخموراً، فليس هذا حديث سُكرٍ عابر. بعد عودتي هذه، لم أعد أرغب في الرجوع إلى هناك أبداً.”
سألته المربية جيانغ وقد بدأت تستوعب كلامه، غير مصدّقة:
“أقاعه لينغ شياو ليست جيده؟ أمعلمك يسيء معاملتك؟ أإخوانك الكبار أو الصغار لا ينسجمون معك؟ ولماذا تترك طريق الزراعة وقد بلغت فيه شأناً حسناً؟ أنا أعرف طباعك—إن ضايقك أمر في الطائفة فاصبر عليه إن استطعت، وإن لم تستطع فابحث عن وسيلة لحلّه. كيف تترك هكذا فجأة؟ هل أخبرت المعلم تشوانغ بذلك؟ ولماذا تصرّ على الرحيل؟ هل للأمر علاقة بالشاب تشو؟ أتحاول أن تتجنّبه؟”
تجمّد هوا تشي من وقع كلماتها.
لقد أعمل فكره طويلاً قبل أن يُصارحها بقراره، لكنه لم يتوقّع أن تمطره بوابلٍ من الأسئلة بهذه الحِدّة. استغرق بعض الوقت حتى استعاد توازنه وقال:
“وأيّ سؤال أجيب أولاً؟”
قالت بصرامة:
“يا سيّدي، لا ينبغي لك أن تكون متهوّراً، ولا أن تتفوّه بأقوال طائشة تحت تأثير الخمر!”
فأجاب هوا تشي:
“لقد قلت لكِ، هذا قراري. وأنتِ تعرفينني—متى ما عقدت العزم على شيء، فلا أحد يستطيع أن يغيّرني. بعد أيامٍ قليلة سأرسل رسالة إلى قاعه لينغ شياو، وينتهي الأمر عند هذا الحد…”
فقاطعته بصوتٍ عالٍ، وقد ثبتت عينيها المعتمتين المصفرّتين عليه بشدّة:
“لا! أيا سيّدي، أما تذكُر لماذا التحقتَ أول مرة بقاعه لينغ شياو؟”
ابتسم هوا تشي ابتسامةً خفيفة، كنسيمٍ صافٍ تحت قمرٍ مشرق وقال:
“من أجل طول العمر؟ فبمستواي الحالي من الزراعة، يُفترض أن أعيش ما لا يقل عن ثلاثمئة عام.”
لكن الجدة لم تقبل هذا الجواب، وألحّت قائلة:
“قل لي الصدق يا سيّدي، ما السبب الحقيقي؟ أهو… بسبب الشاب تشو؟ عندما سمعت أنه التحق بقاعه لينغ شياو معك، أصابني الذهول. أأنت تحاول الابتعاد عنه؟”
ظلّ وجه هوا تشي هادئاً وهو يجيب:
“لا علاقة له بالأمر.”
مع ذلك بقي القلق ينهش قلب المربية، فسألت:
“أيمكن أن تكون… السيدة مي؟”
تغيّر تعبير هوا تشي فجأة وقال بدهشة:
“هاه؟”
وتابعت الجدة بغضب:
“أهي السيدة مي من تدفعك للرحيل؟ أهي لا تريدك مع الشاب تشو، فإذ لم تستطع ثنيه عنك، راحت تُضيّق عليك حتى تُبعدك؟”
بقي هوا تشي صامتاً مذهولاً.
لا يا جدتي… من أين جئتِ بهذه المخيلة الجامحة؟
قال أخيراً:
“لا علاقة للأمر بــ يونتيان شويجينغ، فلا تُرهقي نفسكِ بالظنون.”
ثم نهض واقفاً، وقد شعر أن الغرفة صارت خانقة، ومضى إلى النافذة ففتحها. اندفع النسيم الليلي المثلج إلى الداخل، فبرّد وجنتيه المتورّدتين، وأزاح عنه أثر الخمرة.
وفجأةً، هرولت المربية جيانغ نحوه بخطوةٍ مسرعة، ثم جثت أمامه مباشرة على ركبتيها.
أصيب هوا تشي بصدمةٍ جعلت وجهه يشحب، وأسرع لينحني إليها محاولاً رفعها قائلاً باضطراب:
“ما الذي تفعلينه!؟”
لكن المربية جيانغ ظلّت جاثيةً على الأرض بلا حراك وقالت بصوتٍ مرتجف:
“يا سيّدي… أهو بسببي؟”
ارتعشت شفتا هوا تشي قليلاً، ثم أمسك بها بقوّة لينهضها، وأخذ ينفض الغبار عن ركبتيها وهو يقول:
“لا تدعي خيالك يذهب بعيداً.”
ابتسمت بمرارة وقالت:
“أهو خيالٌ أحمق مني، أم أنك تخفي عني أمراً؟ لقد ربيتك منذ طفولتك، فكيف لا أعرف ما يجول في خاطرك؟”
شعور هوا تشي بأن مكنونات صدره قد كُشفت على نحوٍ مفاجئ جعله يفقد توازنه للحظة، فأحسّ بالارتباك والذعر.
أغمضت المربية عينيها للحظة ثم تمتمت:
“يومٌ واحد في الجبال يساوي ألف عامٍ في عالم البشر. وأنتَ، إذ تمضي وقتك في الزراعة العميقة بين الجبال، فإنني أنا، في عالم الفانين، لا يتبقّى لي سوى ثلاثين عاماً على الأكثر إن ظللتُ بصحة جيدة. أما أنت، كزارعٍ خالد، فبإمكانك أن تحيا مئة عام أو ألف. أعمارنا مختلفة بطبيعتها. وإن أصابني مكروه هنا، فقد يمرّ زمن طويل جداً قبل أن يصلك خبر ذلك.”
قطّب هوا تشي حاجبيه الرقيقين وقال مقاطعاً:
“كفى. لقد اتخذتُ قراري.”
قالت المربية بعينين غارقتين في الحزن:
“يا سيّدي… إن كانت حياتي سبباً في عرقلة طريقك إلى المجد، فأنا أستحق الموت!”
زفر هوا تشي بمرارة، ثم ابتسم ابتسامةً رقيقة وقال برقيٍّ ولطف:
“أي هراء تقولينه؟ إنني فقط لا أريد العودة إلى الطائفة مؤقتاً. الأمر ليس كما لو أنني طُردت منها ومنعت من الرجوع. بما لديّ من فهمٍ ووعي، أستطيع أن أبلغ شأناً عظيماً حتى وأنا بعيد. ثم إن واجبي أن أعتني بكِ في شيخوختك.”
لكن المربية هزّت رأسها بعناد وقالت:
“أتذكر أنه بعد شهرٍ من دخول الطائفة، يأمر المعلّم التلميذ بالنزول من الجبل والعودة إلى عالم البشر، بحجة زيارة الأقارب، ليقطع بذلك روابطه الدنيوية. إنه أحد قوانين الطائفة.”
تفاجأ هوا تشي وقال:
“ومن أين سمعتِ بكل هذا؟”
أجابت:
“من شياو بانغ، ابن أرملة وانغ في مدخل شارع الشرق. إنه أيضاً مزارع.”
ظلّ هوا تشي صامتاً، لا يجد ما يقوله…
قالت المربية جيانغ، وهي توبّخه بلهجةٍ نادرة من الحزم:
“إن لم تستطع التخلّي عن روابطك الدنيوية، فما جدوى الزراعة إذن؟ كلّ البشر إلى زوال في النهاية. حتى المزارعون الخالدون لا يفرّون من دورة الميلاد والموت، إنما هي مسألة عاجلٍ أو آجل. يا سيّدي، أنت الآن مخلّد، منزّه عن شواغل الدنيا، فكيف لا تزال غير قادرٍ على إدراك حقيقة الحياة والموت؟ إن كنتَ مصرّاً على إضاعة مستقبلك بسببي، فليكن. سأرحل غداً من هنا وأختبئ في مكانٍ لا يمكنك أنت نفسك أن تجدني فيه!”
كانت غاضبةً لدرجة أن أنفاسها اضطربت. فسارع هوا تشي إلى رفع يديه مستسلماً، ثم أعانها على الجلوس بلطف، وقال مهدّئاً:
“لا ينبغي لك أن تنفعلي إلى هذا الحد وأنتِ في هذا العمر. إن أخطأتُ، أيمكنني ألا أُصلِح خطئي؟ أرجوكِ، لا تغضبي.”
كان وجه المربية قد احمرّ وصوتها قد بحّ وهي تقول:
“يا سيّدي، هل تخدعني مجدداً؟”
أجابها بجدية نادرة، ناظراً إليها بعينين صادقتين وكاد يقسم بالسماء:
“أنا جاد هذه المرة، أقسم!”
صرخت بعناد:
“إذن تعود إلى قاعه لينغ شياو غداً!”
شعر هوا تشي بإرهاقٍ يزحف على قلبه وقال متنهداً:
“وكيف أفعل ذلك؟ الليلة عشية العام الجديد، ومن الطبيعي أن أبقى معك. ثم إن المعلّم أمرنا بالاجتماع في قصر يي يو في الثالث عشر من الشهر الأول.”
ظلّت تنظر إليه بريبة، مقتنعة أنه يراوغ ويخفي عنها أمراً.
ابتسم هوا تشي بمرارة، ثم جلس القرفصاء، وأراح رأسه على ركبتها كما كان يفعل في طفولته، متدلّلاً:
“لا أطيق فراقك يا جدتي. أريد البقاء معك بضع سنوات أخرى. أعدك أن أرحل بعد اليوم الحادي عشر، ما رأيك؟”
لم تستطع إلا أن تكتم ضحكة صغيرة وهي تراه يتدلل.
فانتهز الفرصة وقال بلطف:
“جدتي… اشتهيت الزلابية.”
ابتسمت وربّتت على رأسه بحنان:
“حسناً. سأصنعها لك.”
قفز هوا تشي واقفاً، ولحق بها إلى المطبخ وهو يقول:
“دعيني أساعدك.”
وأثناء أن المرببة تستعرض مهارتها في الطهي، حاول هوا تشي تقليدها فشكّل زلابية على هيئة يوانباو (عملة فضية قديمة تشبه القارب بانحناءة في الوسط). وبرغم أنه مبتدئ، جاءت زلابيته مقبولة، مما أبهج المربية أيّما بهجة.
وبينما كانت الزلابية تنضج في القدر، منتفخةً مكتنزة، راح هوا تشي يُحضّر صلصة الثوم والخل.
وما إن همّ بالتقاط واحدة ليتذوّقها، حتى سُمع طرقٌ على باب القاعة الأمامية.
وقف هوا تشي وقال:
“جدتي، تفضلي بالأكل أولاً. سأرى من الطارق.”
لم يكن من المعتاد أن يزور أحدٌ في ليلة رأس السنة. ربما كان جاراً بحاجةٍ إلى شيء. دون أن يُفكّر طويلاً، رفع المزلاج وفتح الباب… فإذا بشابٍ يقف خارجه.
ابتسم الشاب ببشاشة وقال:
“يا صديقي هوا، مضى زمن طويل لم نلتقِ!”
سأله هوا تشي متردداً:
“وأنت…”
ضحك الشاب وقال:
“نادني شياو بانغ. أسرتي تسكن عند زاوية شارع الشرق. رأيتك في مسابقة الفنون القتالية، لكن لسوء الحظ أُقصيتُ من الجولة الأولى فلم أحظَ بفرصة لمصافحتك. عالم الزراعة شاسع، ومقابلة ابن بلدةٍ واحدٍ أمرٌ نادر! بالمناسبة، أنا أتدرّب في قصر يي يو تحت إشراف المعلّم شيه وانتينغ.”
سارع هوا تشي إلى أداء تحية المزارعين باحترام وقال:
“أُحيّي تلميذ المعلّم شيه الموقّر. أعتذر عن تقصيري في التعرّف إليك.”
ردّ الشاب بمرح:
“نادني شياو بانغ فحسب. إنه لشرفٌ لي أن أعرفك يا صديقي هوا.”
فسأله هوا تشي:
“لكن… في ليلة رأس السنة، ما الذي جاء بك إلى هنا؟”
ضحك شياو بانغ قائلاً:
“لقد جئتُ لأرشد أحدهم. كان هناك شيخٌ يسألني: أين يسكن (هوا تشي… هوا تشينغ كونغ)؟
فأخبرته أنكما تسكنان قرب بحيرة الغرب، في (مطعم المعكرونة العائد للجدة جيانغ). لكنه لم يعرف الطريق، ففكّرت أنّه ما دام الخالد قد نزل إلى عالم البشر، فجديرٌ بي أن أعين المحتاجين وأبثّ فيهم السرور. وهكذا جئتُ لأصحبه بنفسي.”
“يبحث عني؟” رفع هوا تشي حاجبيه، وألقى نظرةً إلى الخارج.
لم يظهر الرجل بعد، لكن هالةً مظلمة مشؤومة سبقت وصوله.
ارتجف قلب هوا تشي فجأة، وانعكست في عينيه لمحة خوفٍ غائر. بلمح البصر، جذب شياو بانغ إلى الداخل وأغلق الباب خلفه بقوة.
كاد شياو بانغ يتعثر من شدّة المفاجأة وقال بارتباك:
“ما بك، يا صديقي؟”
تصلّب وجه هوا تشي، واشتدّ بروده حتى بدا مرعباً وهو يقول:
“الجدة في الغرفة الخلفية. الزلابية قد نضجت للتو. ابقَ معها وتناول بعضاً منها. وأياً كان ما تسمعه هنا، إياك أن تقترب. يجب أن تحرسها من أجلي… أعتمد عليك.”
لم يستوعب شياو بانغ تماماً:
“هاه؟”
أمره هوا تشي بصرامة:
“أسرع!”
“حـ حاضر، حاضر!” اندفع شياو بانغ إلى الفناء الخلفي مسرعاً. وما إن خرج من القاعة، حتى بسط هوا تشي يده، فارتفع حاجزٌ محكم يغلّف القاعة كلها. لم يعد بإمكان البشر العاديين خارجها أن يسمعوا شيئاً، ولا أن يدخلوا.
في تلك اللحظة، دوّى طرقٌ مكتوم على الباب.
التزم هوا تشي الصمت.
وبعد لحظات، تردّد الطرق مجدداً.
حاول أن يثبّت صوته، فيبدو أقل توتراً وهو يقول:
“لقد أغلقنا… عودوا غداً.”
“هيـــه… هيـــه… هيـــه…”
فجأةً دوّى ضحكٌ باردٌ يبعث القشعريرة، يتردّد صداه كزحف العظام في العراء. وفي اللحظة نفسها، دوّى ارتطام عنيف حطّم الباب بضربة واحدة، فتناثرت نقوشه الخشبية المنحوتة أشلاءً في كل اتجاه.
ثم علا صوتٌ غليظٌ من الظلّ:
“يا طفلي… أنت هنا حقاً.”