🦋

في اللحظة التي همَّ فيها هوا تشي بمغادرة العالم السري، أحسَّ بوجود شخصٍ آخر. لكنه لم يُصدر صوتًا، واكتفى بإلقاء نظرةٍ في ذلك الاتجاه.

حينها، لم يُخفِ أن يو نفسه أكثر، بل خرج مطيعًا، متقدّمًا بخطواتٍ هادئة، وعيناه تحدّقان عميقًا في هوا تشي.

لقد كان قد سمع كل ما دار من حديث!

تلاقت نظراتهما، لكن لم ينبس أيٌّ منهما بكلمة.

ومضى وقتٌ لا يُعرف كم طوله، ثم ابتسم هوا تشي ابتسامة خفيفة، وأدى تحيّة احترام نحو أن يو.

بدت الدهشة على أن يو، فسارع يردّ التحيّة بالمثل.

فهناك أمورٌ لا تحتاج إلى جدالٍ طويل، ولا إلى فهمٍ كامل… تُترك بلا كلمات.

وبعد خروج هوا تشي من العالم السريّ بوقت قصير، انتشر خبر انتحار لو مينغ فنغ.

في النهاية، اختار التفجير الذاتي، متلاشيًا بلا أثر، لم يُبقِ وراءه بقايا ولا حتى فرصة للعودة كروحٍ زراعية.

لرجلٍ بكبرياء لو مينغ فنغ، كان فقدان كل شيء علنًا أسوأ من الموت ذاته.

أما جراح تشو تشانغ فنغ، فلم تكن خطيرة، وبقليلٍ من الراحة لعامٍ كامل أو نحوه سيُشفى تمامًا. امتنانًا لإنقاذ حياته، أسرع مو رونغ سا بنفسه إلى مرآة يونتيان المائية، حاملًا معه هديةً قيّمة ليعبّر عن شكره.

انتهت مسابقة الفنون القتالية أخيرًا، وأُسدلت الستائر على العاصفة التي اجتاحت طائفة الخالدين في شانغ تشينغ. بعد هذه المحنة، سقط لو مينغ فنغ في العار، وغابت أخبار لو ياو في المجهول، وتسلّم الشيخ غان يانغ إدارة شؤون الطائفة مؤقتًا.

قال أحدهم: “من كان يظن أن الشيخ لو لم يكن سوى ذئبٍ في ثوب حمل، يتآمر مع ابنه في الشر، ويؤذي تلاميذه، بل ويحاول قتل هوا تشي؟”

وردّ آخر: “صحيح، لا تحكم على ظاهر المرء أبدًا!”

وأضاف ثالث: “لو لا حظّ أولئك الصغار، ودعم الشيوخ الثلاثة من الطوائف الكبرى، لكان هوا تشي قد واجه أيامًا عصيبة فعلًا.”

كانت طائفة شانغ تشينغ الخالدة، التي طالما تباهت بنُبلها ومجدها، تبدو الآن كبركة ماءٍ راكدة لا حياة فيها. حتى الرواة الذين اعتادوا كسب الرزق من تزيين مناقب الشيخ لو، سارعوا إلى تعديل نصوصهم، فحوّلوا دموع المديح التي أغرقوا بها الأمس إلى تقريعٍ ولومٍ شديد.

وبعد نحو نصف شهر، حين بدأت الطوائف الخالدة المختلفة بالعودة إلى ديارها، غادر وفد قاعه لينغ شياو أيضًا جبل كونلون. وأثناء الطريق، التقى هوا تشي بـ أن يو.

كان أن يو قد تخلّى عن مئة عامٍ من زراعته، واستولى على جسد شيخٍ طاعن في السن. وعلى الرغم من أنه أفلت في البداية من كارثة السماء، إلا أن عمره المتبقي لم يتجاوز العشرين أو الثلاثين عامًا. وبالنسبة لمزارعٍ روحي، لم يكن هذا سوى ومضة عابرة.

يتكئ على عصاه، لم يكد يخطو بضع خطوات حتى صار يتنفس بصعوبة، وأخذ يسعل طويلًا قبل أن يسترد أنفاسه. كان وجهه يتقلب بين الحمرة والصفرة، وبمشقة قال:

“شكرًا لك.”

لم يقل هوا تشي الكثير، واكتفى بالرد: “اعتنِ بنفسك.”

فالزُّهّاد والمزارعون يختلفون عن البشر العاديين؛ كثيرًا ما يكون إغلاق بابٍ واحد بالنسبة للبشر هو نهايةُ حياةٍ كاملة.

ولعلّ هذه كانت المرة الأخيرة التي يلتقي فيها هوا تشي وأن يو.

وبالعودة إلى قاعه لينغ شياو، أُسدلت الستارة على مسابقة الفنون القتالية المليئة بالتشويق والإثارة، وعاد الجميع إلى حياتهم اليومية الهادئة الوادعة.

في هذا التجمع، لم يقتصر الاهتمام على الثلاثي المترقَّب بشغف: هوا تشي، تشو بينغهوان، ومو رونغ سا، بل خطف لين يان، الذي حلّ ضمن المئة الأوائل، أنظار الكثيرين أيضًا. فرغم خسارته القاسية، إلا أن روح صموده خلال مباراته ضد دوآن شيانشي أدهشت الجميع حقًا، فضلًا عن استدعائه الوحش الإلهي طائر تشونغمينغ في اللحظة الحرجة…

لا، لم يكن استدعاءً بالمعنى الدقيق، بل كان انبعاثًا من قشرته.

فبعد عامٍ كاملٍ من العناية الحثيثة بالبيضة، لم يفقس منها ثعبان سام كما كان يُظن، بل خرج منها الطائر الإلهي تشونغمينغ! الأمر الذي لم يُدهش هوا تشي فحسب، بل صدم أيضًا تشوانغ تيان حين سمع به.

جلس المعلّم مع تلاميذه التسعة، يتباحثون في الأمر بتأنٍّ. وبعد تحليلٍ دقيق، توصّلوا إلى استنتاجٍ أخير: هذه البيضة كانت في الأصل وجبة ليلية لملك الثعابين، لكن قبل أن ينعم بها، كان تشو بينغهوان قد ذبحه.

أمّا لغز أصلها فلم يعد مهمًا. سواء كانت طائر تشونغمينغ الإلهي أو مجرد دجاجة جبلية، فقد أحبّها لين يان على السواء.

كانت تلك أول حيوان روحي يملكه، بل كان يعدّه ' ابنه ' أيضًا.

لكن… كانت هناك بيضة أخرى!

حينها، وُجدت بيضتان أسفل كهف الثعبان. إحداهما كانت طائر تشونغمينغ، فماذا عن الأخرى؟

خمّن مو رونغ سا قائلًا:

“لا بدّ أنها أيضًا طائر تشونغمينغ؛ إنهما توأمان!”

كان استدلال مو رونغ سا مقنعًا، حتى أنّ هوا تشي نفسه لم يجد ما يفنّده به.

فتذكّر لين يان تفاصيل خروج طائر تشونغمينغ من قشرته في تلك اللحظة، وقرّر أن يُحاكيه بأن يقطر دمه على قشرة البيضة، ثم انتظر بصبر يومًا وليلةً كاملين.

لكن… لم يحدث شيء.

كان مو رونغ سا أوّل من تقدّم ليواسيه قائلًا:

“لابد أن أختها وُلدت بضعفٍ في طاقتها الجنينية، لذلك تأخر فقسها. لا تحزن!”

فصدّق لين يان هراءه ذاك بلا تردّد.

وبسبب شجاعة هوا تشي، مسابقة الفنون القتالية، وفضحه لشرور لو مينغ فنغ، وُضِع معيارٌ جديد للعدل في عالم الزراعة الخالدة. فكان لا يمضي يومٌ إلا ويصعد عشرات المزارعين إلى قاعه لينغ شياو: بعضهم يطلب القربى، وبعضهم يريد أن يشهد بريقه، وآخرون يرجون صداقته. 

غدت الأجواء صاخبة، مشبعة بهيبة الطائفة الكبرى.

أما تشو تشانغ فنغ، فقد أصيب، وافتقدت مرآة يونتيان المائية إلى قائدٍ يديرها. ورغم أنّ مي كايلين كانت ذات مقام رفيع، لكنها في النهاية امرأة، ولم تستطع أن تتحمّل وحدها كامل أعباء الطائفة.

ولهذا سمح تشوانغ تيان بعودة تشو بينغهوان، فتولّى إدارة شؤون الطائفة في مرآة يونتيان المائية خلال تلك الفترة.

وفي حياته السابقة، كان هوا تشي يظنّ أن لو ياو يحظى بمكانة خاصّة في قلبه، إذ أرسل من أجله رجالًا من عالم الموتى لحمايته سرًّا، بل وحشد قوّة عشر فصائل كبرى لإنقاذه.

لكن حين أعاد النظر في حياته هذه، لم يعد في قلب هوا تشي أي شعور تجاه لو ياو، بل صار يتعامل معه ببرود تام، شأنه شأن لو مينغ فنغ. كلاهما، لو ياو في حياته الماضية وهذه، تآمر مع لو مينغ فنغ، فلم يبقَ في صدره غير الخيبة والخذلان.

لكن لماذا لم يقتله؟

لم يكتفِ بعدم قتله، بل أرسل من يحميه في الخفاء.

ألم يستطع قتله؟

تشو بينغهوان لم يسأل، ولم يصرّح هو الآخر بأنه قد بُعث من جديد.

كان يحمل في قلبه الكثير من الهموم، فالعداوات والأحقاد المتراكمة من الحياة الماضية كانت كافية لإشعال النار من جديد. ولو تجرّأ على كشف الأمر الآن وزعزعة هذا الهدوء المؤقت، لانفلت الوضع من بين يديه.

أما هوا تشي، وقد ذاق الموت مرة، فقد تغيّر. لم يعد يتشبث، ولم يعد يقيّد نفسه بالقيود القديمة، ولم يعد بتلك العناد تجاه ذاته.

وشعر تشو بينغهوان بحدسٍ مؤلم:

إن هو كشف سر التقمص الآن، لابتعد عنه هوا تشي فورًا، هاربًا إلى أقاصي الأرض، مختبئًا إلى أن تجفّ البحار وتتحطم الصخور، فلا يُرى ثانية أبدًا.

لقد تخلّى هوا تشي عنه.

كان ذلك واضحًا منذ أن قصد مرآة يونتيان ليكسر خطوبتهما.

كان هوا تشي قد قال ذات مرة:

“مات أبي، ماتت أمي، حتى جدتي ماتت. سيدي وأصدقائي رحلوا جميعًا. ظننت أنّه لم يتبقَّ لي شيء في هذا العالم…”

كان وحيدًا تمامًا، منقطعًا عن الجميع. كان يظن أنّ تشو بينغهوان يكرهه حتى العظم، ولذلك حين وقف في مواجهته، لم يرَ بأسًا أن يموت على يد أحبّ الناس إليه. لكنه لم يتوقّع أن يتألم حبيبه لموته.

لقد اندهش هوا تشي وسُرّ.

اتضح أن هناك ما لم ينكسر داخله بعد، فاشتعلت فيه رغبة الحياة من جديد.

لكن… ماذا فعل بعد ذلك؟

شعر قلب تشو بينغهوان بالألم.

لقد ندم هوا تشي!

ندم لأنه أحبّه، ندم لأنه تورّط معه، ندم لأنه اتّخذه أملًا للعيش.

وكلما استرجع هذه الأفكار، اجتاحه خوفٌ عميق.

خشي أن يكون هوا تشي، بسبب علاقته به، قد فقد ثقته في الحياة، وفقد توقه إلى الغد. 

وأنه…

هو، الشيطان الأعظم، ذو القوة الكافية ليجوب جيوتشو ويحكم عوالم الخالدين والشياطين معًا. 

فلماذا اختار أن ينهار بدلًا من أن يقاتل؟ لماذا حلّ قصر فين تشينغ دون معركة؟

ميت، ساكن، لا يريد القتال من جديد.

اختار الكوخ الخشبي خلف الجبل، المبني على طراز مرآة يونتيان، المكان الوحيد الذي يمكن أن ينعم فيه بالسلام.

ومات هناك.

لم يستطع تشو بينغهوان أن يتخيل من في جيوتشو كلّه قادر على إيذاء هوا تشي إلى هذا الحد، إلا إذا كان هوا تشي نفسه قد فعلها: محا روحه، وأذكى جوهره الداخلي، ودمّر جسده تمامًا.

إيذاء ذاتي.

ظل تشو بينغهوان غارقًا في التفكير في هذه المسألة، كثيرًا ما يستيقظ من أحلامه ببرودة تسري في عروقه.

وفجأة، وقفت خادمة عند الباب بانحناءة واحترام، مطرقة العينين، وقالت بصوت خافت:

“سيدي، الشاب هوا تشينغ كونغ قد حضر. إنه بانتظارك في جناح يونتيان لرؤيتك!”

هل وجدت خطأ؟ قم بالإبلاغ الآن
التعليقات

التعليقات [0]