🦋

وقف لو مينغ فنغ في مواجهة ثلاثة من كبار السادة: مو تشي يان، تشو تشانغ فنغ، وشيه وانتينغ.

معركةٌ تهز الجبال، وتزلزل الأودية.

لكن ما لبث أن انضم إلى القتال خبراء من طائفة تشياو وطائفة سيف ووجي، ليزداد الطوق إحكاماً.

ثم دخل الشيخ غان يانغ، وقد تجرّع مرارة الظلم طويلاً، فلمّا حانت الفرصة، قلب الطاولة، وسكب كل ما في صدره من قهرٍ وغيظ على سيد الطائفة.

النتيجة لم تعد خافية على أحد.

أما هوا تشي، فلم يكن مشغولاً بالمجزرة الدائرة في الممر السري.

جسده أنهكته الدوخة، أطرافه خاوية، لا قوة فيه حتى ليتوسّل إلى تشو بينغهوان أن يضعه أرضاً.

فلم يجد بداً من الاستسلام لذراعيه، يدعه يحمله حيث يشاء.

وخلال نصف يوم فقط، انتشرت أنباء ما جرى داخل الممر في أرجاء طائفة شانغ تشينغ.

الخبر وقع كالصاعقة.

التلاميذ جميعاً اهتزّ إيمانهم، وانهار ما شادوه من عقيدة.

ذلك الخالد الذي طالما عبدوه، ذلك المثل الأعلى الذي رفعوه إلى مصافّ القداسة…

ما هو إلا قاتل متعطّش، محتالٌ خبيث!

من الذهول إلى الصدمة، ومن الصدمة إلى الخيبة، ومن الخيبة إلى الغضب المتفجّر.

طعنة الخيانة لا تحتمل.

عشرات الآلاف من التلاميذ، ألسنتهم باللعنات وأيديهم بالعزم، أحاطوا بـ جناح شانغ تشينغ، يتربّصون بخروج سيدهم السابق، ليمزّقوه شرّ ممزّق!

في طريقه نحو فناء قاعه لينغ شياو، عبر تشو بينغهوان بـ هوا تشي بوابة تشوي هوا.

فجأة، تشبّث هوا تشي بعنقه، وألقى رأسه على كتفه بحميمية غير معهودة.

ارتجف جسد تشو بينغهوان، قلبه يخفق بجنون.

وصوت واهن، ساخر وطفولي في آن، تسلل إلى أذنه:

“احتضني جيداً، حسناً؟ إن أسقطتني… كيف سننجب ولداً سميناً صغيراً ليكون ابنك؟”

تشو بينغهوان: “…”

مدّ يده ليلمس جبهة هوا تشي.

كما توقع—حرارة كالنار.

فكلما أصابته الحمى، بدأ يهذي بكلمات مبعثرة، لا رابط بينها.

وضعه بهدوء على السرير، سحب الغطاء ليغطيه، وأخذ يراقب أنفاسه الثقيلة.

الحُمّى كانت قاسية، وما هي إلا لحظات حتى غرق هوا تشي في سبات نصف واعٍ.

ورأى في هذيانه وجوهاً كثيرة:

لو مينغ فنغ بضحكته المسمومة،

لو ياو وقد بُحّ صوته من الإرهاق،

يين ووهوي بابتسامته الغامضة الملتبسة،

وحتى المربية جيانغ، عيناها دامعتان، تحتضنه رغم الألم.

بعد كارثة طائفة شانغ تشينغ، واجه حصاراً من شتى الطوائف، لا يجد لنفسه دفاعاً.

لقد استسلم.

أدرك متأخراً أن طرقهم لن تلتقي أبداً.

كان قد جرّب أن يهادن، أن يتعايش، لكن الآن أيقن كم كان ساذجاً.

يين ووهوي كان ينتظر تلك اللحظة.

نبرة صوته رحمة، لكن في عينيه لهوٌ خبيث:

“ابن سيد الشياطين يحلم بمصافحة الطوائف الخالدة. كيف ترى ردودهم الآن؟ هل شبعت من الذل؟ ما زلت عنيداً حتى وأنت في حضيضك؟”

أمطره باللعنات على الخالدين، حاول أن يستميله:

“عد معي، اتحد معي مع أبيك، نملك العالم معاً!”

لكن هوا تشي ضحك، ضحكة ساخرة متعبة:

“أقولها مرة أخرى… لم تفعل شيئاً، ومع ذلك تطلب أن تكون لك ثمرة. أيّ سماء هذه التي تمنحك كل شيء بثمنٍ بخس؟”

توتّر يين ووهوي، وصاح:

“حتى بعد كل ما فعلوه بك، ما زلت ترفض البقاء معنا؟”

رد هوا تشي ببرود، صوته هادئ كصفاء النهر:

“لقد تخليت عنهم بالفعل. لكن، وما شأنك أنت؟

هل يعني أني إن هجرْتُ الطوائف الخالدة، يجب أن أُعَوّل على سلالة شيطانية مثلكم؟”

ثم رفع عينيه بثبات، يتمتم كمن يتلو وصية أبدية:

“أمي سمّتني نقياً وبريئاً. أن أكون سماءً لا تلوثها غيوم، ولا يغرقها مطر حزين. أن أظل صافياً، هادئاً، رحيماً.

حتى لو لفظتني الأرض والسماء، حتى لو اجتمعت الطوائف على هلاكي، فلن أمدّ يدي لأشباهكم من سالخي الدماء.”

ثم استدار ومضى.

لم يشأ هوا تشي أن يسلك درب يين ووهوي المظلم، كما لم يعد قادراً على السير جنباً إلى جنب مع الطوائف الخالدة.

فكّر طويلاً فيما ينبغي أن يفعل بعد الآن.

لقد طُرد بالفعل من الطائفة، فما الذي يمنعه من العودة إلى العالم البشري؟

هناك حيث المربية جيانغ تنتظره، حيث قصر السكارى، يضجّ بالضحكات والأنخاب.

يمكنه أن يقضي بقية عمره في سُكرٍ وهدوء، عشرين أو ثلاثين عاماً أخرى بجوارها.

وحين يوافيها الأجل، يرافقها حتى النهاية.

بعدها، يبحث لنفسه عن وادٍ ناءٍ، جنةٍ خضراء يختبئ فيها عن عيون الطوائف.

يعيش وحيداً، يزرع ويربّي، ويُجاهد في الصمت.

فإن حالفه الحظ، ربما بعد مئة عام، يجد نفسه يعتلي مراتب الخلود!

خطته بدت بسيطة، واقعية، وحتى جميلة.

فطالما لم يقترب من الخالدين، لن يقتربوا منه.

“إن لم تستطع أن تستفزّهم، فتجنّبهم!”

لكن، ما أدهشه أن القدر لم يدعه وشأنه.

هو لم يذهب ليبحث عن المتاعب—هي التي جاءت تبحث عنه!

ما إن عاد إلى هانغتشو، وعبر بوابتها، حتى استرقت أذناه حديث الناس:

“يا له من مشهدٍ مأساوي…”

“هجوم قطاع طرق، دماء في كل مكان!”

“كان المنظر مخيفاً!”

قبض هوا تشي على قلبه، شعورٌ مشؤوم يزحف في صدره.

لم تمض لحظات حتى وصل إلى قصر السكارى—وما رآه جمد الدم في عروقه.

دماء.

دماء في كل مكان.

الأرض، الجدران، الطاولات المكسورة، السلالم الخشبية.

جثث مرمية هنا وهناك؛ بعضها قديم أسود كالرماد، وبعضها لا يزال ينزف قانياً.

الرائحة الكريهة غمرت المكان، خانقةً، حتى أنفاسه كادت تختنق.

ولم ينجُ أحد، لا دجاجة ولا كلب.

ارتعش جسده بلا وعي، خطواته متخشبة وهو يسير بين الجثث.

شباب وصبايا، شيوخ، عمّال، حتى طباخو المطبخ… كلهم صرعى.

مئة وثمانية وثلاثون نفساً—أُبيدت بأكملها!

من الفاعل؟ من تجرّأ على هذه المجزرة؟

هل هو يين ووهوي؟

هل ضاق صدره لرفض هوا تشي، فانتقم من الأبرياء؟

شعر هوا تشي وكأن قلبه يُمزَّق من جديد.

وفجأة، التقط سمعه خفقة ضعيفة، أنيناً بالكاد يُسمع.

خفض رأسه—وإذ هي المربية جيانغ!

عيناه أشرقتا كمن عثر على الحياة نفسها.

ركع بسرعة، رفعها بحنان وارتباك، صوته يتقطع:

“ماما! من فعل هذا؟ قولي لي، من فعل هذا؟!”

(الترجمه كذا يقولها ماما أتوقع عشانها مربيته؟!)

فتحت عينيها بصعوبة، دموع مختلطة بالدماء تسيل من وجنتيها.

لكن نظراتها كانت خاوية، وجسدها ساكن كالميت.

لم يبقَ فيها إلا خيط رفيع من الوعي، تشبث به هوا تشي بكل قواه.

مدّ وعيه إلى أعماق ذاكرتها، يغوص في آخر ما رأت.

ومن خلال عينيها المطفأتين، شاهد وجهاً مألوفاً—وجه أحد كبار تلاميذ طائفة خالدة.

لقبه مياو.

وصدى صوته المجلجل يتردّد في الذاكرة:

“تكلمي! أين هوا تشينغ كونغ؟ سلّموه فوراً، وإلا ستُعدّون شركاء في جريمته!”

تجمدت المربية جيانغ من هول ما رأت. لم يكن الأمر مجرد شخص واحد، بل عدة تلاميذ من طوائف خالدة مختلفة قد اقتحموا الباب الرئيسي دفعة واحدة. ومن هيئاتهم، كان واضحاً أنهم ينتمون إلى قاعات وطوائف شتى، فكوّنوا معاً طوقاً هائلاً يحيط بـ قصر السُكارى.

قالت المربية جيانغ باستهجان:

“ما معنى هذا؟ لا أعلم عما تتحدثون. أليس ذاك الطفل قد قُبل تلميذاً في طائفة الخلود شانغ تشينغ؟ إن أردتموه، فاذهبوا إلى طائفة شانغ تشينغ! ما شأنكم بي؟”

ارتعدت عدة فتيات خلفها وصرخن وهن يستمددن الشجاعة من موقفها:

“صحيح! نحن مجرد نساء عاديّات. اقتحامكم لمساكن خاصة وترويعكم لنا تصرف لا يُعقل!”

قهقه مياو جيانشيو باحتقار وقال:

“كُفّي عن التظاهر بالبراءة! هوا تشي ارتكب مجزرة في طائفة شانغ تشينغ، قتل زعيم الطائفة لو بلا رحمة، وتسبب في موت خمسة آلاف تلميذ. نحن هنا لنثأر للشيخ لو ياو ونقتص من هذا المجرم. سنمزقه إرباً إرباً!”

صرخت إحدى الغواني التي هرعت مسرعة من الطابق العلوي، مبهوتة مما سمعت:

“هذا مستحيل! لا بد أنكم مخطئون! تشي إر لن يقتل أحداً أبداً، لن يفعل!”

وأومأت عدة فتيات أخريات موافقات:

“نعم! لقد ربينا ذاك الصغير أمام أعيننا، كيف لا نعرف طباعه؟”

“لابد أن هنا سوء فهم، أو عداوة خفية!”

لكن مياو جيانشيو صرخ باستهزاء:

“كلكم تدافعون عن ذلك الوغد! نواياكم مظلمة حقاً. هل أنتم جميعاً شركاؤه؟”

فغدت وجوه الحاضرات شاحبة كالأموات.

“أيها الخالد، أرجوك لا تتلفظ بهذا الهراء!”

ضحك مياو جيانشيو ضحكة شريرة وقال:

“هراء؟ هذا الشاب يعرف الحقيقة جيداً. حين كان هوا تشي طفلاً جائعاً يتضور من الفقر، ألم تمدوا له يد العون جميعاً، أنتم يا رعاة ابن بغي؟ ولكن هل تعرفن من هو والده الحقيقي؟ إنه سيد الشياطين، السفّاك العطِش للدماء! هاهاها! ألم تكونوا تعرفون ذلك منذ زمن بعيد؟ لقد ظللتم تحمون ابن سيد الشياطين، والآن وقد حلّت الكارثة، ما زلتم تحاولون الدفاع عنه؟ أتظنون أننا حمقى؟”

ثم صاح بأمر قاسٍ:

“أمسكوا بكل من تلطّخ بتأثير هوا تشي الشيطاني! إن لم نقضِ عليهم الآن، سيصبحون أعوانه غداً، وينشرون الخراب في كل أرجاء العالم!”

كنّ جميعاً بشراً ضعفاء بلا أي قوة. ولو أراد المزارعون قتلهم، لكان الأمر أهون عليهم من سحق نملة.

ارتفعت في المكان صرخات مروّعة، صرخات حزينة هزّت السماوات، فيما غسلت الدماء الأرض مرات ومرات، حتى تحولت الأرواح الحية إلى جثث هامدة.

صرخ أحدهم:

“لا تقتلوا تلك العجوز! أبقوها حيّة لتكون طُعماً يخرج هوا تشي لموته!”

كانت المربية جيانغ في البداية مختبئة تحت الطاولة، ترتجف خوفاً، ولكن ما إن سمعت كلماتهم حتى استمدت شجاعة لم تعرف من أين جاءت، وانقضت بجسدها على سيف أحد المزارعين. ولولا أن ذاك المزارع أسرع بردّ فعله، لكان سيفه الخالد قد أزاح رأسها عن جسدها.

زمجر ذلك الخالد قائلاً:

“أيتها العجوز الملعونة! لا تريدين أن تُستعملي رهينة وتفضّلين الموت؟” 

ثم أطلق عليها قيداً سماوياً وأمسك شعرها بقسوة، رافعاً رأسها بعنف. “سيدك الصغير ذاك قتل الناس بجنون. حتى لو أحرقناه رماداً فلن يكفي! وأنتِ، أيتها المجرمة التي ربّت ابن سيد الشياطين، فأنت شريكة له في الذنب! وبعد أن نفرغ من هوا تشي، سنرسلك إلى العالم السفلي لتلحقي به!”

ومع آخر خيوط وعيها، رحلت المربية جيانغ عن الدنيا، وعيونها لا تزال مفتوحة.

في تلك اللحظة، كان هوا تشي يتهادى مترنحاً، جسده ملوث بالدماء، يجهل ما الذي أوقعه أرضاً، لكنه قاوم وقام ببطء. تعثر بخطواته إلى فناء الدار الخلفي، حيث ارتسمت على جدار الظلال كلمات كتبت بدم طازج:

“طائفة شانغ تشينغ.”

لقد أخذوا المربية جيانغ إلى شانغ تشينغ، حيث خططوا لإقامة طقس لتخليد ذكرى لو مينغ فنغ وأرواح تلاميذ الطائفة الذين قُتلوا، مستخدمين دماء الجدة جيانغ وهوا تشي كقرابين!

عاد هوا تشي إلى طائفة شانغ تشينغ ممسكاً بسيفه. وكان عند سفح جبل كونلون، الحارس المنتظر هناك هو التلميذ الأكبر للو مينغ فنغ، مرتدياً ثياب الحِداد، يحدق في هوا تشي بعيون ملؤها الغضب. التقط سلة خيزران بجواره، نثر نقود الأرواح في الهواء بعنف، وصاح:

“من هنا تبدأ بالركوع والصعود إلى الجبل!”

امتدت جبال الأسلاف بلا نهاية، وكانت طائفة شانغ تشينغ قائمة على أعلى قمة من قمم كونلون الشاهقة. الطريق الجبلي وعرٌ شديد المشقة حتى للمشي، فكيف بالزحف على الركبتين؟

ابتسم هوا تشي بسخرية، والبرود الجليدي يتألق في عينيه:

“ولمن تريدني أن أركع؟ للوحش لو مينغ فنغ؟”

زمجر التلميذ الأكبر والدموع ترتجف في عينيه:

“اركع لمعلّمك الراحل ولخمسة آلاف تلميذ قتلتهم بيديك! خادمتك العجوز تنتظرك في قاعة شانغ تشينغ!”

كانت المربية جيانغ هناك في الأعلى، ومهما اشتعل في قلبه من بغض أو تكوّم على روحه من مذلة، لم يكن له خيار إلا الإذعان.

بدأ هوا تشي رحلته من سفح الجبل، راكعاً يزحف للأعلى. من شروق الشمس إلى غروبها، حتى إذا بلغ منصة شانغ تشينغ، كان نصفه السفلي قد صار كتلة من لحمٍ ممزق ودمٍ مسفوح، وركبتاه أشبه ببطيخٍ مُحطّم. حاول أن يقف، لكن الألم أسقطه أرضاً ثانية.

لم يكن في وسعه أن يفكر هل يتألم أم لا، إذ كان كل كيانه مركزاً على المربية جيانغ وحدها.

كانت المربية مكبّلة بالحبال، جاثية في وسط المنصة، جسدها مغطى بجروح لا تُحصى. لم يعلم هوا تشي كم لاقَت من عذاب طوال الطريق، لكنه كان يشعر بجحيم يشتعل داخله، ناراً تكاد تحرق أحشاؤه.

قالت بصوت مبحوح متقطع والدموع تخنقها:

“يا سيّدي الصغير…”

كانت منصة شانغ تشينغ تعج بالناس. الحاضرون الذين ولغوا في الدماء في المذبحة السابقة، والمتشحون بالسواد من تلاميذ شانغ تشينغ، جميعهم يحدقون به بعيون ممتلئة بالضغينة، بالاشمئزاز، بالكراهية، وبالقرف.

قال هوا تشي بنبرة قاطعة:

“كم مرة عليّ أن أكرر؟ لم أقتل أولئك الخمسة آلاف تلميذ من طائفة شانغ تشينغ! إن كنتم تضمرون هذا الكم من الكراهية، فاذهبوا وأحرقوا قاعة العواطف، واطلبوا مواجهة يين ووهوي! ما شأن الأبرياء؟ ما شأن قصر السكارى؟”

لكن السيفي تشانغ شان صرخ بغضب:

“حتى لو كان كلامك صحيحاً، وحتى لو كان يين ووهوي هو الفاعل، فماذا في ذلك؟ هل يبرئك هذا؟ ديون الأب يجب أن يسددها الابن! والآثام التي سببها يين ووهوي، يجب أن تتحملها أنت بجدارة!”

ديون الأب… يسددها الابن؟

فقط لأنه وريث دم يين ووهوي، وجب عليه أن يتحمل هذه الكارثة؟ ولأجل هذا، وجب على قصر السُكارى أن يُباد معه؟

ضحك هوا تشي ضحكة باردة، وابتسامة ساخرة امتدت على شفتيه الشاحبتين:

“أولست مظلوماً؟ أنتم جميعاً تتشدقون بالبرّ والعدل! إن أردتم تمزيقي وتعذيبي وحرق عظامي حتى الرماد، فلي سؤال واحد: هل قتلت والديكم؟ هل ذبحت أهلكم؟”

أغمض داويٌ عجوز عينيه، وقال:

“الناموس يمرّ بجانبك ولا يلدغك، ومع ذلك ترغب بقتله.”

تلاشت ببطء بريق عيني هوا تشي، وحلّت مكانها مرارة وسخرية دامية. ارتسمت على وجهه ابتسامة شامخة متحدية:

“الآن أدركت… لقد ولدت مذنباً، وُلدت لأُقتل! حتى لو لم تكن هناك قضية لو مينغ فنغ، ولا تلك الأرواح الخمسة آلاف… لظلّ مصيري الموت نفسه!”

ابن سيد الشياطين الجبار، متفوق على أقرانه، يخشاه الجميع، فيحسبون أسوأ الاحتمالات ويسعون لاستئصال أي خطرٍ محتمل.

لم يكن من الدقة القول إنهم يكرهونه، بل الحقيقة أنهم يخشونه.

خشوا أن ينضم هوا تشي إلى قصر فين تشينغ، خشوا أن يصبح اليد اليمنى ليين ووهوي. 

كيف لا يُخشى من كان بطل مسابقة الفنون القتالية ثلاث دورات متتالية؟

أطلق هوا تشي ضحكة مرة، واشتد قسوة بصره، امتلأ بوحشية لا عهد لأحد بها:

“أنتم تريدون القضاء على الخطر قبل أن يولد؟ إذن هلمّوا، اقتلوني! لكن ما ذنب قصر السكارى؟ ما ذنب الجدة جيانغ؟ إنهم بريئون!”

وكأن المزارع كان ينتظر هذه اللحظة منذ زمن، فزأر بغضب:

“وماذا عن أولئك الخمسة آلاف التلميذ الأبرياء من شانغ تشينغ؟ لقد حموك، وتواطؤوا معك، وبالتالي فهم مذنبون أيضاً ويستحقون العقوبة!”

ارتفع صوت هوا تشي وهو يضحك بمرارة:

“الانتقام مني… تدمير ملجئي… قتل من أحب… هل هذا هو طريق الخلود؟!”

“هل هذه هي الطائفة الممجدة التي يمدحها الناس جميعاً؟!”

وأخيراً، أُخرج لو ياو—الذي كان عاجزاً منذ مدة—محمولاً على أكتاف بعضهم، فصرخ بصوت أجشّ متحشرج:

“هوا تشي! أيها التلميذ الملعون المطرود من شانغ تشينغ، طمّاع غادر، خائن لمعلمه وأسلافه! تواطأت مع قصر فين تشينغ ومع يين ووهوي لإبادة خمسة آلاف تلميذ من طائفتنا! هذه الجرائم لا تُغتفر، ولا جزاء لها إلا العقاب الأقصى!”

كانت منصة شانغ تشينغ مجهّزة منذ القدم بمصفوفة عتيقة، أولاً لمنع المزارعين الشياطين من الهجوم والرد عليهم بها، وثانياً لتطهير الطائفة والتخلص من التلاميذ الذين ارتكبوا ما لا يُغتفر.

رفع مزارع مسن سيفه وألصقه بعنق المربية جيانغ، مهدداً بصوت جليدي:

“هوا تشي، لا تفكر حتى في الهرب!”

توقف هوا تشي عن تراجعه، جمد في مكانه.

لكن المربية جيانغ، التي كانت تذرف دموعاً في صمت طوال الوقت، ابتسمت فجأة ابتسامة دافئة حنونة وقالت:

“يا سيّدي الصغير… هذه الخادمة العجوز تشتاق إلى سيدتي، فلن ترافقك بعد الآن.”

وما إن أنهت كلماتها حتى اندفعت بلا تردد على حدّ السيف! انفجر الدم مدراراً.

“جدّة!!!” صرخ هوا تشي بهلع، متجاهلاً تفعيل المصفوفة العتيقة، واندفع بجنون نحوها عازماً على الفتك بالمزارع العجوز. تطاير الدم وغطّى جسده كله.

وبرغم الألم الذي نخَر عظامها، ظلّت المربية جيانغ تبتسم. رفعت يدها المرتعشة ببطء، لامست وجه هوا تشي بحنان وهمست:

“يا سيّدي الصغير، لا تبكِ… هذه الخادمة العجوز ذاهبة للقاء سيدتي…”

انساب التدفق الروحي من كف هوا تشي إلى جسدها دون توقف، لكنه كان كحبّات الرمل تسقط في بحرٍ عميق، تختفي بلا أثر، لا تملأ فراغها مهما ضُخّ فيها.

كانت المصفوفة العتيقة قد فُعّلت بالفعل، لكن هوا تشي لم يشعر بألم. لقد توقف جريان الدم في قلبه، تجمّد كتلة هامدة، ثم تحطّم إلى شظايا، ولم يترك سوى ثقب أجوف دامٍ.

“همم…” تمتم هوا تشي بصوت مبحوح.

بدأت روح المربية جيانغ بالتلاشي ببطء. لمست وجهه بحنان، وابتسمت:

“الجميع من قصر السُكارى… قد لحقوا أيضاً. هذه الخادمة العجوز ليست وحيدة أبداً… لا سيما أن في نهاية الطريق، تنتظرني سيدتي!”

“همم…” أجاب هوا تشي بخفوت.

تابعت الجدة بابتسامة مطمئنة:

“لا يهم إن لم يصدقوك… لكن هذه الخادمة تصدقك. لقد ربيتك سنين طويلة… حتى حين ولدتَ، كانت القابلة أنا. أفلا أفهمك أنا؟…”

منذ طفولته، طالما سمع هوا تشي أمه تذكر المربية جيانغ…

كانت المربية جيانغ بدورها إنسانة مسكينة. فمنذ صغرها باعها والدها بالتبني إلى فرقة مسرحية، ثم انتهى بها المطاف في قصر السُكارى. وبما أنّ ملامحها لم تكن بارزة الجمال، لم يُقدَّر لها أن تصير غانية، بل اكتفت بأن تكون خادمة.

على مدى أكثر من ثلاثين عاماً عملت هناك. حتى إذا دخلت هوا مي إر القصر، أُوكلت المربية جيانغ إلى خدمتها والاعتناء باحتياجاتها اليومية.

تعاطفت المربية جيانغ مع بؤس هوا مي إر وأعجبت بشخصيتها. رافقتها في السراء والضراء سنوات طويلة. وبعد أن حملت هوا مي إر، افتدت نفسها بالمال وغادرت، واصطحبت معها المربية جيانغ.

كانت تلك الأيام مُرّة بكل ما تحمله الكلمة. فقد أنفقتا كل مدخراتهما على فكاك أنفسهما، حتى إنهما لم تستطيعا تحمل تكاليف قابلة. حينها، اضطرت المربية جيانغ أن تتعلم التوليد في لحظتها، فقصّت الحبل السُري بيد مرتجفة، وغسلت هوا تشي الصغير، وألبسته بيديها، ولفّته في قماط صنعته بنفسها.

وبعد وفاة هوا مي إر، لم تتخلّ المربيّة جيانغ عن هوا تشي. عملت في الأشغال الشاقة والمهام الحقيرة، لتجمع أجوراً زهيدة تنفقها على شراء اللحم كي يتغذى هوا تشي. أما هي، فكانت تقتات على خبزة مطهوة على البخار كل يوم. وإن عجزت عن احتمال الجوع، ملأت بطنها بالماء.

حتى أن القوّاد العجوز لم يحتمل مشهد بؤسها، فسألها إن كانت تدّخر المال لشراء لوح نعشها.

لكنها ابتسمت بتلك الطيبة العذبة وقالت بعينين متلألئتين بالشوق:

“هذا المال لزواج سيّدي الصغير. من دون نسبٍ أو مكانة، كيف يرفع رأسه في منزل الآخرين؟”

لم تتزوج المربية جيانغ قط، ولم تُرزق بولد.

لقد اعتبرت هوا تشي ابنها، وأفاضت عليه قلبها وروحها. جمعت المال بشق الأنفس، وقلّلت على نفسها لتؤمن له حياة كريمة، خوفاً من أن يُحتقر أو يُستهان به يوماً.

حين كان هوا تشي مفعماً بالحيوية، تكفلت هي بكل الأعمال الشاقة. وحين ألمّ به المرض، أهملت نفسها تماماً، تسهر بجانبه ليلتين أو ثلاثاً بلا نوم، تمسح دموعها بين الحين والآخر وتبتهل للآلهة والبوذات كي يشفى سيّدها الصغير.

وعندما بلغها خبر أن سيدها صار تلميذاً في طائفة شانغ تشينغ، كادت تطير من الفرح، وصارت تطوف المنازل منزلًا منزلًا، تخبر الجميع بالبشرى، خشية أن يجهل أحد أن سيّدها قد أصبح عظيماً.

لكن جسدها الآن صار بارداً بارداً، فصرخ هوا تشي بحرقة:

“كفى، استريحي قليلاً!”

وعانقها بقوة دون وعي.

رفعت المربية عينيها نحو السماء، وقد بدأت نظرتها تخبو، وقالت بصوتٍ واهن:

“لا تنسَ ما أوصتك به والدتك… نقياً، صافياً، لا تمسه ذرة غبار، عليك أن تكون فسيحاً كسماء صافية تمتد آلاف الأميال، بلا غيوم مظلمة، بلا أمطار حزينة، إلى الأبد رقيقاً مشرقاً، شمساً وضيئة.”

وحين نفدت آخر ذرة من طاقة هوا تشي الحقيقية، ابتسمت الجدة أخيراً وأغمضت عينيها.

عمّ الصمت.

انتهى كل شيء.

أي رحابة واسعة؟ أين الحرية؟ أين الأفق الممتد؟

أي رقة وأي إشراق؟!

ما يراه ويسمعه هوا تشي لم يكن سوى العنف والقسوة!

فوقه غيوم حالكة، وأمامه مطر دم ورياح عاصفة، وروحه غارقة في الظلام!

“لِماذااااا!!!”

كان جميع أهل قصر السُكارى أبرياء مظلومين إلى أقصى حد!

ربّت المربية جيانغ هوا تشي منذ نعومة أظفاره، ولم تذق في حياتها سنوات سلامٍ معدودة، ثم كانت نهايتها بسببه، تموت مأساوية في أرض غريبة!

أمل بعد أمل تحطم في قلبه، طموح بعد طموح انهار!

تكدّست الغيوم السوداء في السماء، ثم انفجرت مطراً هادراً، رعدٌ يصمّ الآذان وبروقٌ تمزق الظلام، فيما كانت المصفوفة العتيقة المفترسة تبتلع هوا تشي تماماً.

لكن حتى وإن مات وفني، ظلّ الحقد الدفين، واللااستسلام المنقوش في عظامه، يبقيان روحه حيّة.

سقط في العالم السفلي، حيث تعود إليه أرواح لا تُحصى.

قيل إن عالم الشياطين مظلم، يتصاعد منه الدم حتى السماء. لكن من يقول ذلك لم يشاهد بعد عالم الأشباح، لم يطأه حقاً… فذلك هو الجحيم الحقيقي.

السماء هناك سوداء، والأرض حمراء، دماءٌ تراكمت لآلاف السنين.

لا ضوء هناك، والهواء مشبع بعفنٍ خانق، وتحت الأقدام عظام محطّمة، وأرواح تائهة.

أشباح شريرة لا تُحصى، جنون لا حدود له، مآدب وحشية وصيحات جنائزية، تستعر أكثر فأكثر وهي تستقبل كل روح جديدة.

وكانوا هم… فريسة تلك الوحوش.

للعالم السفلي قواعد بقاءه الخاصة: خلال سبعة أيام يمكن للروح أن تعود إلى دورة التناسخ. 

وخلال هذه الأيام السبعة، على الروح أن تفعل المستحيل كي تبقى.

لم يكن الأمر كما تحكي القصص الشعبية عن ملك الجحيم أو عن السيدين الأسود والأبيض حُكّام الموت.

هنا لم يكن هناك خدمٌ للأشباح ولا قضاة.

إنه عالم بلا قانون…

الأشباح تقتل بعضها بعضاً، والضعيف يفترسه القوي.

أما الأقوياء، فبامتصاص الأرواح وتنمية أنفسهم، يمكنهم التحول من مجرد أرواح إلى كيانات جسدية.

إن حالف أحدهم الحظ وبقي حيّاً سبعة أيام، استطاع أن يولد من جديد في عالم البشر. 

أما إن رفض التناسخ وفاته التوقيت، فلن يكون له مصير إلا واحداً—أن يصبح مزارعاً شبحيّاً.

مئة عام ليُنبت عظماً ودماً، وألف عام لينسج لحماً وجلداً.

وفي ليلة الخامس عشر من يوليو، حيث يبلغ الـ يين تشي ذروته ويُفتح باب الأشباح على مصراعيه، تكون فرصة للهروب إلى عالم البشر.

نسيان الماضي؟ التناسخ؟

كيف يكون ذلك ممكناً!

لو أن أهل قصر السُكارى لم يُقتَلوا… لو أن المربية جيانغ ما زالت حية… لربما اختار هوا تشي التناسخ، وتخلى بسرور عن دم يين ووهوي الذي فُرض عليه، ليعود إنساناً عادياً في حياته القادمة.

لكن الآن… لم يعد هناك إلا الانتقام!

بهذا الجسد القبيح المنبوذ، بهذه الهوية التي لا يقبلها لا السماء ولا الأرض، سيعود من جديد!

إن التنكيل بالأشباح الجدد متعة أبدية في عالم الأرواح. يحرسون البوابة، يلتهمون الوافدين واحداً تلو الآخر. صحيح أن أرواحهم أضعف، لكنها تبقى لحماً ولو كان بحجم بعوضة.

غير أن—

سيفاً طويلاً مشرقاً اخترق الظلام، نوراً حاداً يخطف الأبصار، فصرخت آلاف الأرواح، وعوت عشرات الألوف من الأشباح معاً!

الأشباح القديمة التي عاشت في العالم السفلي لآلاف السنين أدركت أن شخصية عظيمة قد حطّت هنا. لم يكن بشراً عادياً، بل سيداً خالداً.

لكن هذا السيد الخالد، بخلاف المزارعين المرموقين الآخرين، كان وحشياً بلا رحمة، بسطوته القاتلة ورهبته المزلزلة. قوته بلغت من الفظاعة ما جعل الجميع يعجز عن مجابهة نصل سيفه.

الأرواح العادية، حتى إن كانت لهم أسس قوية في حياتهم، يحتاجون قرناً ليبدؤوا الزراعة الشبحية. أما هذا القادم الجديد فكان مختلفاً تماماً.

فقد صقل عظامه في خمسين عاماً فقط، ونمّى لحمه ودمه في مئتي عام بعدها!

في أقل من ثلاثمئة عام، عدا بعض التفاصيل التي لم تكتمل بعد، صار لا يختلف عن البشر.

الأشباح القديمة أخطأت في تقديرها أول مرة، إذ ظنت أن هذا المسمى هوا تشي كان في حياته سيداً خالداً، لكن من قسوته وصرامته بدا جلياً أنه لم يكن إلا مزارعاً شيطانيّاً.

في ليلة مهرجان الأشباح، ارتجف كل الشرور، واجتمعت الأرواح عند بوابة الخروج.

فرأوا هناك رجلاً يشع هالة مريعة، رياح نجمية تعصف بالسحب المتبقية. حيثما مرّ، ذبلت الأعشاب والأشجار، وبعض الأرواح جمدها الرعب، فلم تهرب، وبمجرد ملامستها لرياحه المظلمة تحولت رماداً.

وأخيراً، خرج ذلك الشخص من بوابة عالم الأشباح، وابتهجت عشرة آلاف روح:

لقد رحل هذا الشرير المفترس أخيراً!!!

هل وجدت خطأ؟ قم بالإبلاغ الآن
التعليقات

التعليقات [0]