شهق مو رونغ سا شهقة حادة.
ما هذا بحق السماء، لماذا يوجد دم؟
دم مَن هذا؟ أهو دم هوا تشي؟! الوضع خطير للغاية!
أسرع الجميع بالاقتراب. وعندما مدّ لو ياو عنقه ليتفحّص، شحب وجهه حتى صار بلون الرماد.
“ه… هذا، هذا…”
قال مو رونغ سا بارتباك وقد بدأ يفقد أعصابه: ما الذي يحدث هنا؟! هذا لم يكن ضمن الخطة أبداً!
كان هوا تشي قد طلب منه أن يستدرج الجميع إلى الجناح الشرقي من جناح شانغ تشينغ، لكنّه لم يذكر قط أنّه سيكون هناك دم!
أيمكن أن يكون هوا تشي… قد وقع حقاً في مأزق خطير؟
أمسك مو رونغ سا بياقة لو ياو بعنف وهو يصيح:
“أيها الحقير! ماذا فعلت به؟ هل قتلته لتسكت صوته؟!”
في هذه الأثناء، كان تشو بينغهوان قد استل سيفه وضرب به الرف الضخم.
غير أنّ الضربة، رغم قوتها الهائلة، لم تُفلح في تحطيمه، فقد كان محمياً بحاجز خفي.
ومع تصاعد الضجيج في الداخل، لم يعد الواقفون في الخارج قادرين على الانتظار، فتبعوا تشو تشانغ فنغ إلى الداخل. قال بصوت جازم:
“سواء أصاب هوا تشي مكروه أم لا، فوجود الدم هنا يفرض علينا أن نحقق في الأمر.”
فقال شيه وانتينغ: “لا بد أنّ هنا باباً خفياً. من فضلك، يا سيّد الطائفة، افتحه.”
لم يجد لو مينغ فنغ بداً من التقدّم لفتح الباب السري. فانكشفت غرفة سرّية عادية لا أكثر.
غير أنّ الدم كان متناثراً على الأرض، ممتداً من المدخل وصولاً إلى أسفل منضدة القرابين.
ارتجف لو ياو مرتاعاً وهو يهمس: “أبي…”
كان تشو بينغهوان قد رفع بلاطة من أرض الغرفة واستعد للقفز، لكن لو مينغ فنغ أسرع ليعترض طريقه قائلاً:
“أيها السادة، يوجد في الأسفل تشكيل متاهة نسجته بنفسي. إنه بالغ الخطورة، فالأجدر ألا يدخل أحد. دعوني أنا أنزل لأتفقد الأمر.”
غير أنّ تشو بينغهوان ردّ ببرود قاطع:
“إن كان الخطر يكمن في الداخل، فأخشى أنّ سيّد الطائفة قد لا يكون قادراً على مواجهته وحده.”
وما إن أنهى كلامه حتى قفز مباشرة إلى الأسفل. فأسرعت مي كايلين لتأمر تلاميذ يونتيان شويجينغ باللحاق به، كما لم يبقَ تشو تشانغ فنغ مكتوف اليدين، فلحق بدوره.
ولم يتأخر مو رونغ سا، فهبط وهو يقود جماعة من تلاميذ وادي فينغ مينغ.
وبما أنّ شيه وانتينغ كان معجباً بهوا تشي غاية الإعجاب، فقد تبعهم دون تردد.
وبينما كان لو مينغ فنغ يلهث عرقاً، تسلّل إلى ذهنه خاطر مرير:
ذلك الفتى الذي عاش وحيداً منبوذاً في الماضي، كيف صار الآن محاطاً بكل هؤلاء الأنصار؟!
ما إن وطئت قدما تشو بينغهوان الممرّ المظلم حتى احمرّت عيناه غضباً وهلعاً.
فالمنظر أمامه كان صادماً حدّ الرعب!
الأرض والجدران ملوثة بالدماء، متناثرة ومرشوشة على نحو مقزز، تمتد آثارها إلى أبعد نقطة في الممر السري.
حتى لو مينغ فنغ نفسه أصابه الفزع، فأسرع بالركض خلفهم. وما كان أشدّ ذعره حين اكتشف أنّ خط الدماء ذاك يقودهم بدقّة عبر الطريق الذي يفكّ شيفرة متاهته!
أيّ يد جريئة هذه التي استطاعت أن تفكك تشكيله المستعصي؟!
عند مخرج الممر السري، كان تشو بينغهوان أول من اندفع للخارج.
وتبعه الآخرون عن كثب، ليُصدموا بمشهد مهيب يأسر الأنظار: جبال خضراء، مياه صافية، وزهور متفتحة… كأنهم أمام جنّة مخفية عن العالم.
صاح مو تشي يان بدهشة: “أهذا حقاً هو الجبل الخلفي لطائفة شانغ تشينغ الخالدة؟!”
فأجابه شيه وانتينغ: “لا، هذا عالم سري.”
كان المكان يبدو نسخة مطابقة للجبل الخلفي، لكنه لم يكن جبل كونلون الحقيقي، بل عالماً خفياً أبدعه المزارعون بوسائلهم السحرية.
لمع الفضول في عيني لو مينغ فنغ فجأة، وقال باستغراب: “متى ظهر عالم سري في نهاية هذا الممر؟”
سأله شيه وانتينغ وهو يرمقه بريبة: “الا يعلم سيّد الطائفة؟ إذاً لماذا أنشأت هذا الممر السري أصلاً؟”
أجاب لو مينغ فنغ بهدوء متكلف: “لأجل منع المزارعين الشياطين من التسلل. إن طائفة شانغ تشينغ الخالدة شوكة في حلق قاعه فين تشينغ، لذا ومن باب الاستعداد لأي طارئ، أنشأت هذا الممر. فإذا هاجم يين ووهوي الطائفة، تصبح المتاهة في الممر ملجأً يحمي تلاميذنا.”
كان التفسير مقبولاً إلى حد ما، فهزّ شيه وانتينغ رأسه موافقاً، لكنه أضاف:
“لكن… ماذا عن هذا العالم السري؟”
سارع لو مينغ فنغ إلى إنكار أي صلة له بالأمر: “أقسم أنني لا أعلم شيئاً عن هذا العالم السري.”
وفجأة صرخ مو رونغ سا: “انظروا! هناك منزل هناك!”
اقترب تشو بينغهوان بخطوات ثابتة حتى بلغ الحجرة الصخرية، ليكتشف أنها محاطة بحاجز قوي.
كان الممر السري يحوي متاهة، أما هذه الحجرة فقد حُميت بحاجز أعقد بكثير. وإن لم تخنه بصيرته، فقد كُتب عليه ثلاث طبقات من أختام تايشو العليا.
(ملاحظة: ' تايشو 太虛 ' مصطلح طاوي يعني الفراغ الأسمى).
كانت أختام تايشو أرفع الفنون في طائفة شانغ تشينغ الخالدة. بل وحتى شيخها الأقدم غان يانغ لم يتقنها قط. أي أنّ الشخص الوحيد القادر على فتح هذا الحاجز هو لو مينغ فنغ نفسه.
انقبض قلب تشو بينغهوان بشدّة… أجل، في حياته السابقة، كان هوا تشي قادراً أيضاً على فتحه!
رغم أن تشو بينغهوان انضمّ إلى طائفة شانغ تشينغ الخالدة، إلا أن مكانته الخاصة كخليفة محتمل لسيد يونتيان شويجينغ وضعت علاقة تنافسية بينه وبين طائفة شانغ تشينغ. ومهما بلغت نوايا الطائفة من نقاء، فلن يشاركوه أعلى فنونهم مع شخص قد يصبح منافساً.
أما هوا تشي، الذي لم يكن له أصل ولا سند، فقد كان مختلفاً.
خلفيته النقيّة أهلته ليستكشف أسرار تقنيات تايشو الخفية.
قال تشوانغ تيان وهو يحدّق في الختم بعين ناقدة، ثم وجّه كلامه نحو لو مينغ فنغ: “يبدو أنّ الأمر يتجاوز مسألة ابنك فقط. فآثار الدم تقود مباشرة إلى هذه الحجرة. سواء كنت تعلم بأمرها أم لا، فعلينا أن نطلب منك فتح الباب أولاً.”
ارتجف لو ياو حتى اصطكّت أسنانه وهو ينادي: “أبي…”
كان لا يزال شاباً لم يبلغ العشرين بعد، فلم يستطع الحفاظ على رباطة جأشه أمام هذا الموقف المروّع. وكانت ملامحه المرتبكة كافية لتفضح أنّ أمراً جللاً يختبئ وراء الستار. وبما أنّ الشكوك كانت قد ترسّخت في قلوب الجميع، فقد أصرّوا الآن على أن يفتح لو مينغ فنغ الباب، مطالبين بإيضاح الحقيقة.
شحُب وجه لو مينغ فنغ حتى صار رمادياً، وتقدّم بخطوات متيبّسة نحو الحجرة، وكأن كل خطوة منه تُسحب من صخر ثقيل.
لقد كان يدخل تلك الحجرة ويخرج منها منذ ما يقارب الألف عام، إلا أنها بدت له الآن كـ بوابة أشباح تؤدي مباشرة إلى الجحيم، تبتسم له ابتسامة ماكرة ساخرة.
لماذا؟
سأل نفسه في حيرة قاتلة: أين الخطأ؟
من غيري يمكن أن يدخل إلى هنا؟
أهو… يين ووهوي؟
“مستحيل!” هتف لو مينغ فنغ في داخله. “حتى لو امتلك قوة هائلة، فلن يكون قادراً على فتح ختم تايشو!”
ماذا يفعل الآن؟ ماذا عساه أن يفعل؟
والجميع يراقبون، وبينهم قوى عظيمة مثل تشو تشانغ فنغ وشيه وانتينغ، فكيف يمكنه أن يعبث أو يزوّر شيئاً؟
هل عليه أن يخرسهم جميعاً؟
لكن ذلك مستحيل أيضاً!
كيف له أن يتعامل مع هذا العدد وحده؟
ثم إنّ أمام قاعة شانغ تشينغ الكبرى ينتظر عشرات الآلاف من المزارعين بترقب شديد، فبأي وجه سيفسر وقوع حادث جلل؟
أيعقل أن ينهار مجد ألف عام بناه بالكدّ والعرق في لحظة؟
وما إن انفتح باب الحجرة الصخرية، حتى غاص قلب لو مينغ فنغ في الظلمات.
“هوا تشي!” اندفع تشو بينغهوان إلى الداخل، وانحنى سريعاً ليحمل الفتى الموشك على الموت بين ذراعيه بحرص شديد.
ساد الذهول أرجاء المكان.
فبينما كانوا مذهولين من حال هوا تشي البائس، أصابتهم الدهشة الأكبر مما رأوه في داخل الحجرة.
فقد كانت الرفوف مصطفّة بعناية، تحمل زجاجات وجراراً، وقد أُلصقت على كل منها طلسمات خاصة.
ماذا يمكن أن تحتوي؟
صاح تشوانغ تيان بقلق: “أيها الثامن!”
أما تشو بينغهوان، فقد كان قلبه يخفق بجنون وهو يتحسس نبض هوا تشي.
لحسن الحظ، كان السبب فقدان دم شديد فقط، ولم يُصَب بأي جروح قاتلة.
أخرج تشو بينغهوان حبة دواء مغذية للدم ووضعها في فمه، فلم تمض لحظات حتى استيقظ هوا تشي.
قال بصوت مبحوح ضعيف: “سيدي…”
وما إن وقعت عيناه المشوشتان على لو مينغ فنغ حتى ارتجف كقطة مذعورة، وانكمش داخل أحضان تشو بينغهوان.
لين قلب تشو بينغهوان، فضمّه إليه بقوة لا إرادية، كأنه يريد أن يحميه من كل العالم.
أما مو رونغ سا فكان مذهولاً، يذرع المكان بعينيه قبل أن يسأل:
“ما الذي حدث هنا؟ هوا جي، هل اختطفك لو ياو؟”
امتلأت عينا هوا تشي الدامعتان بالبراءة والشفقة، حتى بدت ملامحه أكثر رقة وضعفاً من أي وقت مضى.
وأشار بإصبعه بصمت نحو الخزانة، ثم حوّل وجهه بعيداً، رافضاً أن ينظر.
حقاً إنه ابن والدته، بارع في إظهار الضعف واستدرار الشفقة!
لو أُرسل إلى قصر الإمبراطور، لتمكّن بجماله وحده من السيطرة على الجيش وانتزاع خاتم الفينيق الذي يرمز لسلطان الإمبراطورة.
التقط شيه وانتينغ إحدى الزجاجات قائلاً: “ما هذا؟”
أسرع لو مينغ فنغ يوقفه: “سيّد الطائفة شيه، لا تفتحها! إنّ الطلسم يبدو خاصاً، على الأغلب هو تعويذة قمع. لا بد أنّ بداخلها شيئاً شريراً. إن أفلت، جلب الكارثة لا محالة!”
توقف شيه وانتينغ، وقد كان على وشك إزالة الطلسم، متردداً.
فإذا بهوا تشي يرفع رأسه فجأة من أحضان تشو بينغهوان ويقول بصوت خافت لكنه حاد:
“ليس شيئاً شريراً… ما في هذه الزجاجات هو النواة الذهبية!”
عمّت الدهشة المكان!
صرخ مو رونغ سا: “نواة ذهبية؟ أي نواه تقصد؟ أتعني نوى المزارعين؟!”
ابتسم هوا تشي بسخرية باهتة: “طبعاً، وما عساه يكون غير نواة المزارعين؟”
وانطلق الهمس بين الجميع:
“لماذا توجد نوى المزارعين هنا؟”
“هل الطلسمات أُحكمت لمنع النواة من التبدد؟”
“من ذا الذي يجمع النواه هنا؟!”
انهمرت العرقات على جبين لو مينغ فنغ، وهو يحاول جاهدًا التماسك:
“شياو هوا، ألست تهذي من فقدان الدم؟ أي هراء هذا الذي تنطق به؟!”
لكن هوا تشي دفع نفسه مستنداً إلى ركبته، ومد يده ليلتقط إحدى القوارير اليشمية قائلاً:
“أهو هراء؟ سيرى الجميع الحقيقة بأنفسهم…”
“توقف!” صرخ لو مينغ فنغ بصوت صارم، “يا صديقي الصغير، إنك لا تزال صغيراً لتدرك خطورة الأمر.
هذه الطلسمات تختم شياطين شريرة. إن أطلقتها، فهل تتحمل مسؤولية نشر الفوضى في العالم؟”
لكن هوا تشي لم يرمش حتى بعينه، بل مزق الطلسم بيد ثابتة، وقلب القارورة رأساً على عقب، لتتدحرج منها نواة ذهبية مشعة بطاقة روحية هائلة.
وفوراً عمّ الصمت القاتل المكان.
تلألأت عينا لو مينغ فنغ بنيّة قتل غير مسبوقة، لكنه أجبر نفسه على التماسك، مظهراً تعابير مدهوشة مماثلة لبقية الحاضرين، وقال بذهول مصطنع: “إنها حقاً نواة ذهبية؟!”
كان هوا تشي قد توقّع رد فعله سلفاً.
أما لو مينغ فنغ، فظلّ وجهه ثابتاً بلا شائبة، وهو يومئ إشارة خفية إلى ابنه لو ياو، الذي كان يرتجف مسبقاً على الأرض.
وربما لكونه ابنه، فقد التقط الإشارة على الفور، فاندفع نحو هوا تشي، وانتزع منه النواة الذهبية التي كادت تتبدد، وصاح مرتاعاً: “إن هذه الهالة… إنها تشبه هالة الأخ يوان!”
تجمد تشو بينغهوان في مكانه.
الأخ يوان… تلميذ الشيخ غان يانغ.
سكب لو ياو على عجل نواتين ذهبيتين إضافيتين، وقال:
“وهذه تشبه هالة الأخ وانغ، وتلك هالة الأخ الصغير ليو.”
وكانت الأسماء التي ذكرها لو ياو جميعها لتلاميذ قُتلوا على يد المزارعين الشياطين، ولم يُعثر على جثثهم قط.
سأل تشو تشانغ فنغ بنبرة صارمة: “وماذا يقصد التلميذ لو بهذا الكلام؟”
ابتلع لو ياو ريقه وبدأ حديثه بحذر، محاولاً تبرئة نفسه أولاً، ثم أمسك بذراع هوا تشي متوسلاً:
“تشينغ كونغ، لقد اتهموني بخطفك، لولا أنك بخير الآن لما استطعت تبرئة نفسي أبداً. أخبرهم بالحقيقة، فأنا لم أرَك منذ مسابقة الفنون القتالية!”
رمقه هوا تشي بنظرة باردة: “صحيح، لم يكن لو ياو من اختطفني.”
تنفس لو ياو بارتياح، لكن سرعان ما أجهزت عليه كلمات هوا تشي التالية: “بل كان سيّد الطائفة لو.”
تجمد لو ياو ولو مينغ فنغ معاً، وقد شلّهما الذهول.
عندها فقط هبّ تلاميذ طائفة شانغ تشينغ من صدمتهم، فانقضّ التلميذ الأكبر للو مينغ فنغ صارخاً: “أنت تفترى عليه!”
لكن عيني هوا تشي الضيقتين كانتا تلمعان كسيفين قاطعين وهو يقول: “لقد سمعت حديثهما بنفسي. سيّد الطائفة لو يريد قتلي. أما لو ياو فقد كان يعلم بذلك ولم يمنعه، بل تواطأ معه للتخلص مني!”
زمجر التلميذ الأكبر: “كيف تجرؤ! أنت تشوّه سمعة الخالد العظيم لطائفة شانغ تشينغ! أتدرك عواقب افترائك؟!”
وقف مو رونغ سا واضعاً يديه على خاصرته وهو يرد بازدراء:
“أتسمي هذا افتراءً؟ الدلائل واضحة، وهناك شاهد أمامك. أأنت أعمى؟!”
لكن التلميذ الأكبر لم يتراجع وقال محتجاً: “إن كان سيدي قد فعل كل ذلك حقاً، فلماذا يضع مدخل العالم السري بوضوح تحت قاعة شانغ تشينغ؟ أما كان من الأجدر أن يخفيه بعيداً ليبعد الشبهات عنه؟”
ابتسم هوا تشي بسخرية هادئة: “أتعني أن أحدهم يحاول توريط سيّد الطائفة لو؟ لكن أخبرني، من غيره يستطيع بناء تشكيل الأجرام الثمانية في النفق، وختم الحجرة الصخرية بأختام تايشو؟ باستثناءه، لا يملك هذه القدرة سوى الشيخ غان يانغ. فلا تدُر في حلقة مفرغة، واذكر الأمر بوضوح. لنرَ إن كان الشيخ غان يانغ يعترف!”
وفي تلك اللحظة، ومع ازدياد الضجيج في الخارج، اندفع الشيخ غان يانغ بنفسه إلى المكان، وقد تغيّر وجهه تماماً، وهو يصيح بجزع:
“أنا بريء!”
داعب تشو تشانغ فنغ ذقنه وهو يتأمل الموقف مليّاً.
لو كان الأمر يتعلق بأي شخص آخر، لربما أمكن تجاهله.
لكن أن يتورط لو مينغ فنغ، أرفع شخصية في عالم الخالدين، ومعه اتهام يطاول شيخاً مهيب المكانة… إن انتشرت هذه الفضيحة، لاهتزّت أركان مجتمع الخالدين بأسره.
قال تشو تشانغ فنغ بهدوء عميق:
“إن أختام تايشو هي قمة تقنيات طائفة شانغ تشينغ. طبيعياً أن يكون سيّد الطائفة لو متقناً لها، والشيخ غان يانغ ليس غافلاً عنها تماماً أيضاً. غير أنّ سيّد الطائفة لو يواجه شهادة حية من هوا تشينغ كونغ.”
فقفز التلميذ الأكبر محتجاً بقلق: “وماذا في ذلك؟ من يدري إن لم يكن يتعمّد توريطنا؟!”
ارتبك الشيخ غان يانغ هو الآخر وقال بانفعال: “أتلمّح إلى أنني تواطأت مع شياو هوا؟!”
وما إن سمع دوان شيانشي أنّ سيده يُتهم بالافتراء، حتى جُنّ غضباً، فانقض على التلميذ الأكبر صارخاً:
“أيها الأحمق، أتريد أن تجلب الموت لنفسك؟!”
أما لو مينغ فنغ، فقد استعاد رباطة جأشه كاملة.
التقط أنفاساً عميقة، وحدّق في الشيخ غان يانغ بنظرة يعلوها الأسى المصطنع:
“غان يانغ… لم أتوقع أن تضلّ إلى هذا الحد. أن تؤذي إخوتك من التلاميذ… ألا يجدر بك أن تعترف؟”
“سيّد الطائفة، أنت…!”
نظر الشيخ غان يانغ إليه مذهولاً، وقد أحرقت الخيانة قلبه.
لقد عاشا معاً ما يقارب الألف عام، دخلا الطائفة أخوين في العلم، وما لبث لو مينغ فنغ أن ارتقى إلى منصب السيّد، فيما اكتفى هو بمقام الشيخ مسانداً إياه طوال حياته.
واليوم، بعد كل تلك العقود، يطعنه بهذا الاتهام الباطل!
ارتج جسد الشيخ العجوز الضعيف، وأحسّ بالدوار يغمره، فانفجر غيظاً وتقيأ دماً حاراً.
أسرع تشو تشانغ فنغ ليمسك به ويسنده.
لهث الشيخ بصعوبة قائلاً: “لا أخشى الافتراء؛ فالبراءة ستسطع كالشمس!…”
ثم دفع دوان شيانشي الذي كان يحاول تهدئته، وصاح وهو يلهث:
“ألتمس من سيّد الطائفة تشو، وسيّد الطائفة شيه، وسيّد وادي مو… أن تنصفوني!”
كان لو مينغ فنغ قد أعدّ خطة تراجع مسبقاً.
إن كُشف هذا المكان، فليكن الشيخ غان يانغ كبش الفداء.
لا بدّ أنّ الدلائل قد زُرعت في مسكنه بالفعل.
غير أنّ قسوة لمعت في عيني هوا تشي، وهو يحوّل نظره نحو لين يان الواقف خارج الحجرة الصخرية.
ولم يكن هذا التطور المفاجئ في حسبان لين يان، فاندفع غريزياً ليحمي شيخ عجوز ورائه.
لكنّ المفاجأة أنّ الشيخ، مستنداً إلى عصاه ومترنّحاً بعرج واضح، اقتحم الحجرة الصخرية وهو يهدر بغضب لا يُكبح:
“أيها المنافق! أعد إليّ حياتي!”
لكن حتى وهو مذهول، لم يكن لو مينغ فنغ رجلاً يمكن أن يؤذيه شيخ هرم.
ارتدّت عصا الرجل على الفور تحت وطأة هالة حماية لو مينغ فنغ، فقذفته بعيداً في الهواء.
ولولا أنّ لين يان أسرع للإمساك به، لتهشمت عظامه لا محالة.
سأل شيه وانتينغ متعجباً: “ومن يكون هذا الشيخ الكريم؟”
وانحنى مو تشي يان يتفحصه بتمعّن، ثم اتسعت عيناه فجأة وهو يصيح:
“أأنا أتوهم؟ إنه… إنه إنسان عادي!”
كان الشيخ العجوز، المنهك جسداً وروحاً، عاجزاً عن احتمال الصدمة، فبدأ يسعل بعنف، وقد اختنق تنفسه حتى شارف على الانقطاع.
فأسرع تشو تشانغ فنغ يمدّه بطاقة حقيقية، فبدأ لون الشيخ يتحسّن تدريجياً، وقال بصوت مبحوح متقطع:
“شكراً لك… سيّد الطائفة تشو… كح كح…”
قال تشو تشانغ فنغ متأملاً:
“من حديثك وهيئتك، لا تبدو كإنسان عادي.”
ارتسمت على شفتي هوا تشي ابتسامة باردة كالخنجر.
فقال الشيخ بصوت مرتجف وهو ينهض بصعوبة، مشيراً بإصبعه المرتعش نحو لو مينغ فنغ:
“أنا التلميذ الثاني لهذا الدجّال… وأنا أيضاً التلميذ الثاني الذي قتله، آن يو!”
تجمد لو مينغ فنغ من هول الصدمة!
آن يو، الذي فشل في العثور عليه طوال تلك السنين… كان هنا؟!
“أ… أنت آن يو!؟”
تلعثم التلميذ الأكبر، الذي كان قبل قليل يدافع عن لو مينغ فنغ، مذهولاً.
وشقّ طريقه عبر الحشود ليتقدم نحو الشيخ، محدقاً فيه بعينين لا تصدّقان:
“أأنت حقاً…؟”
مدّ آن يو يده اليابسة، وقبض بقوة على معصم التلميذ الأكبر وهو يقول:
“أيها الأخ الكبير، لديك ندبتان متصالبتان على ظهرك، تركهما لك مزارع شيطاني من قصر فين تشينغ يوم رحلتنا في نزول الجبل. يومها أنقذتني من ضربة قاتلة كادت تودي بحياتي.”
تسعت عينا التلميذ الأكبر رعباً وهو يهمس: “أأنت حقاً آن يو!؟ كيف… كيف صرت على هذه الحال؟”
عضّ آن يو على أسنانه وقال بحقد: “عليك أن تسأل سيدنا المبجّل عن ذلك!”
كان مو رونغ سا في حيرة مطلقة أمام هذا التطور الغريب.
ففي الليلة الماضية، وبمحض الفضول، كان هوا تشي قد أوصاه بما يجب أن يفعل.
كان هوا تشي على ما يبدو يعرف سراً ما عن لو مينغ فنغ، لكنه، مهما ألحّ مو رونغ سا بالسؤال، لم يكشف له شيئاً، مكتفياً بأن يطلب منه إثارة الفوضى وقيادة الجميع إلى القاعة الشرقية من جناح شانغ تشينغ، حيث ستنكشف الحقائق بنفسها.
وبعقلية مو رونغ سا البسيطة، لم يفهم شيئاً، لكنه كصديق وثق بهوا تشي.
وزاد من ثقته أنّ هوا تشي لم يكن يفعل شيئاً عبثاً، فلا بد أن وراءه سبباً وجيهاً.
لذلك لم يلح بالسؤال كثيراً، بل نفّذ الخطة كما هي.
لكن ما لم يكن في الحسبان، هو الدماء التي وجدوها أمام الرفوف في القاعة الشرقية، ولا النفق السري، ولا الحجرة الصخرية.
والآن يظهر هذا الشيخ مدّعياً أنّه آن يو… لقد تجاوزت الفوضى حدّ المعقول!
اقترب مو رونغ سا بخطوات حذرة من هوا تشي، وهمس بصوت منخفض:
“هوا جي… ما الذي يحدث بحق السماء؟ الشيخ الذي جعلت لين يان يقابله يُدعى آن يو؟ أهو نفس آن يو الذي ذكره لو ياو؟”
ابتسم هوا تشي ابتسامة غامضة لا تُقرأ:
“ألا تستمتع بمشاهدة العرض؟ إذاً فلتشاهد بعينيك جيداً.”
أصيب مو رونغ سا بالارتباك أكثر فأكثر.
فقد كان هوا تشي قد غادر طائفة شانغ تشينغ قبل الجولة الثالثة من مسابقة الفنون القتالية للبحث عن آن يو.
وأثناء بقائهم في وادي القمر المشرق، كان هوا تشي قد أوصى تشو بينغهوان بإطلاق سراح آن يو، لكن ليس بلا استعداد.
فقد كان قد زرع في جسده طلسم تعقب، يتيح له متابعة مكانه في أي لحظة.
حين وجده هوا تشي، كان آن يو قد اتخذ هيئة شيخ عجوز.
بل على وجه الدقة، كان قد استولى على جسد ميت.
ذلك الشيخ مات بمرضٍ عضال، وحين واجه آن يو كارثة السماء، لم يجد مخرجاً إلا أن يتخلى عن الهيكل العظمي الذي ربّاه بسنين من العناء، ويزجّ بروحه في جسد الشيخ الميت.
الكارثة السماوية لا تضرب أجساد البشر العاديين، وهكذا نجا آن يو بأعجوبة.
ويُقال إنه حين تظاهر بالموت، أفزع أهل ذلك المنزل، وكاد يحدث اضطراب عظيم.
لكن حين عثر عليه هوا تشي، شرح له مقاصده وخطته الدقيقة، بما في ذلك ما سيجري بعد مسابقة الفنون القتالية.
لقد أراد أن يكشف سقوط لو مينغ فنغ جهاراً أمام عشرات الآلاف من المزارعين من شتى الطوائف، حتى لا تقوم له قائمة بعدها أبداً.
قال هوا تشي بابتسامة تحمل السخرية:
“لقد استفدت من استيلائك على جسد الشيخ. كنت أتساءل كيف يمكن أن أدخل مزارعاً شبحياً إلى الداخل دون أن يكتشفك أحد. ولولا هذه الحيلة، لاكتشفك لو مينغ فنغ منذ زمن بعيد.”
فصاح آن يو مذهولاً:
“أكان يعلم أنني لا أزال حيّاً؟”
أجابه هوا تشي ببرود:
“روحك لم تفنَ، والنواة الذهبية بطبيعتها تُصدر صدى. وإلا، فمن أين جاء البلاء في وادي القمر المشرق؟”
ارتعدت أوصال آن يو وقال بذهول:
“إذن… الحادثة في وادي القمر المشرق كانت من تدبير لو مينغ فنغ!؟”
تألقت في عيني هوا تشي نظرة قاتمة كالنار:
“الرداء الأسود لا يخفي شيئاً. حتى لو صار رماداً، فلن أنسى صورته أبداً.”
في حياته السابقة، مع أنه قتل لو مينغ فنغ، إلا أنه أبقى اسمه ناصعاً، حتى عمّ الحداد أرجاء السماء، وأقيمت له جنازة أعظم من جنازة الملوك، وظلت الطوائف في صمتٍ وحداد لعشر سنوات كاملة، كأنها تأبين لإمبراطور خالد.
أما في هذه الحياة… فإن لم يدمّر سمعته ويقلب كيانه رأساً على عقب، فما جدوى عودته من جديد؟
رفع هوا تشي رأسه نحو الجمع، وقد ارتسمت على محيّاه أمارات المظلومية:
“أيها السيد لو، هل أعقل أن أتآمر مع المعلّم آن؟ حين قتلته واقتلع نواته الذهبية، لم تكن أمي قد وُلدت بعد!”
في هذه اللحظة، كان تشو بينغهوان قد استوعب معظم الحقيقة.
لماذا أبقى هوا تشي على حياة آن يو في البداية، ولماذا استدرج الأب والابن لو عمداً إلى هذا المأزق… أصبح كل شيء جليّاً الآن.
بمعنى آخر، حتى الممر السري الملطخ بالدماء كان مقصوداً من هوا تشي.
جرحٌ ذاتيّ متعمَّد.
قبض تشو بينغهوان قبضته بشدة، والغضب يعصف في صدره.
ومع ذلك، كان قادراً على التمييز بين ما هو أهم وما هو ثانوي، فسأل بصرامة:
“أيها السيد لو، أترى هذا الرجل محتالاً؟”
لكن قبل أن يتمكن لو مينغ فنغ من الكلام، كان التلميذ الأكبر قد اضطرب وقال بلهفة:
“إنه آن يو حقاً! آن يو، ما الذي يجري؟”
لقد كان آن يو ينتظر هذه اللحظة منذ زمن طويل. جمع شجاعته، وصاح بصوت هزّ القاعة:
“لقد دمّر حياتي، وانتزع نواتي الذهبية! عشت في جحيمٍ أسوأ من الموت، ولم أنجُ إلا في العام الماضي عند مهرجان الأشباح. وهذا الوغد، هذا الحقير، لاحقني حتى وادي القمر المشرق ليغتالني.
إنه العقل المدبر وراء الحريق الذي دمّر مدينة القمر المشرق!”
كلماته وقعت على مسامع الجميع كالصاعقة، فاهتزّ الجمع بالذهول!
انفجر آن يو بغضبٍ مزلزل، وعيناه تتلألآن بحقد السنين:
“أتظنون أن لو مينغ فنغ يملك موهبةً فريدة؟ أتظنون أنه بلغ مكانته هذه بقوة جهده؟ كلا! أنتم مخطئون! إنه ليس إلا لصّاً، وحشاً متعطشاً! إنه يستقطب التلاميذ الموهوبين، ويغدق عليهم بالأعشاب الروحية النادرة في تدريبهم. لكن، أتدرون لماذا؟ لأنه لا يعتبرهم سوى دواجن يربيها… ينتظر أوان ذبحها لينتزع نواتهم الذهبية ويمد بها حياته! كيف له أن يبخل عليهم بما هم في النهاية غذاءٌ لعمره؟”
دوّى صوته في أرجاء القاعة، فارتجف كثير من التلاميذ.
ثم أردف ساخرًا، صوته يرتجف من الغيظ:
“يقول الناس إن قصر فين تشينغ ذبح تلاميذ لو مينغ فنغ ثأراً وانتقاماً، ولذلك أبدى تعاطفاً مضاعفاً مع تلاميذه اللاحقين. هاها! يا لسخرية القدر! في الحقيقة، هو الذي يقتل تلاميذه بيده، ثم يلصق التهمة بغيره، ويتربع على عرش الخلود كأنه أسمى الخالدين!”
ساد الذهول أرجاء المكان.
ارتجفت قبضة هوا تشي وهو يراقب المشهد.
في حياته الماضية، هو أيضاً اتهم لو مينغ فنغ بهذا الجرم، لكنه كان وحيداً، لا شاهد معه، ولا أحد يناصره.
كل ما ناله كان صمتاً قاسياً ثم… خنجر الغدر من معلمه.
قُتل في خفاءٍ دامٍ، ثم أُحيي على يد يين ووهوي. وعندما عاد إلى طائفة شانغ تشينغ، لم يجد سوى الخذلان.
تلميذٌ خانه، معلمٌ ظهر ذئباً في ثوب قديس، وأخٌ صغيرٌ تمنّى موته.
عقله تهاوى، غمره الجنون، فانقضّ على لو مينغ فنغ وقتله باندفاعٍ يائس.
وحين حاول أن يبرّر نفسه، ساقهم إلى الممر السري، إلى الحجرات المظلمة، ليُريهم النواة الذهبية المختومة… لكن لا أحد صدّقه.
لقد غرق الجميع في أحزانهم على موت القديس الخالد، وغضبهم من مذبحة التلاميذ الخمسة آلاف، واشمئزازهم من كونه ابن سيد الشياطين.
كل كلماته عُدّت أكاذيب. كل صيحاته رُميت بالافتراء. حتى دموعه نُظر إليها كمكرٍ جديد.
“لو أن أحداً فقط… صدّقني.”
لم يكن بحاجة إلى جمهور، ولا إلى جيشٍ من الأصوات.
شخصٌ واحد فقط يكفي. شخصٌ واحد يمدّ يده في تلك اللحظة… لربما لم يكن قد سقط في الهاوية، لم يكن قد انجرف إلى مسالك السحر المظلم بلا عودة.
غمره شعور بالعجز، وتمايل جسده مترنحاً.
لكن ذراعاً قوية أمسكت به. التفت فإذا هو تشو بينغهوان.
رفع بصره إليه، ودهشة في عينيه، ثم ابتسم بمرارة، وهمس كمن يكلم نفسه:
“لو كنتَ هناك حينها… هل كنتَ ستصدقني؟”
ارتجفت شفتا تشو بينغهوان، وكاد ينطق، لولا أن تشوانغ تيان اندفع واقفاً أمامهما، صوته يجلجل كالرعد:
“تيان يو! احمِ تشينغ كونغ، واعتنِ ب تشاو ياو و شياو يان. أسرعوا، غادروا الممر السري حالاً!”
فقد لمح بعينه ما عزم عليه لو مينغ فنغ، وقد انفضح أمره:
الذبح!
قبل أن يعي هوا تشي ما جرى، كان قد ارتفع عن الأرض بين ذراعي تشو بينغهوان، يُحمل بعيداً بقوة.
أما تشوانغ تيان فقد اصطف درعاً أمام تلاميذه، يقودهم نحو المخرج، ابتسامة ثابتة على وجهه وهو يلتفت للحظة إلى هوا تشي قائلاً:
“لا تخف، يا ثامن الصغار. ما دام معلمك هنا… فلن يمسّك سوء!”
اختلج قلب هوا تشي بدفءٍ غريب، وعيناه تلمعان برذاذ الدموع.
“لو أنني التحقت بقاعه لينغ شياو في حياتي السابقة…”
ربما لم يكن قد عاش ذلك الجحيم.