🦋

مع أن كي روان كان لا يزال في الخامسة عشرة من عمره، إلا أن مملكة اللهب الأحمر لم يكن فيها سوى أمير واحد إلى جانب أميرة واحدة. 

وكان والد كي روان رجلًا عاشقًا لدرجة أنه لم يعرف في حياته امرأة غير والدة كي روان.

حاول الوزراء مرارًا إقناعه باتخاذ محظيات أو زوجات أخريات، لكنه رفضهم جميعًا.

لذا، لم يجرؤ أحد في المملكة على الاعتراض على تصرفات كي روان. 

فعلى الرغم من غروره وكرهه للدراسة، إلا أنه كان مولعًا بفنون القتال حدّ الهوس، وتمكّن منها بمهارة لافتة رغم صغر سنّه، وهو ما جعله راضيًا عن نفسه. 

فزمن الفتن والاضطرابات لا يسمح لأحد أن يعيش دون إتقان شيء من القتال.

لكن الزنزانة تختلف عن السجن العادي. 

وكان كي روان قد بالغ في قسوته حين أمر بسَجن سي يوهان في الزنزانة المظلمة المليئة بالجرذان والمجرمين الخطرين.

حين رآه الحراس عند الباب، أسرعوا يجثون على ركبهم. فسموّ الأمير ليس ممن يُمكن العبث معهم.

“سموك،” قال أحدهم.

أشار كي روان إليهم بالنهوض. “أين سي يوهان؟ أرِني الطريق.”

“أمرك، سموّ الأمير.”

نظر كي روان إلى الحارس الذي تقدم بخطى مطأطئة الرأس، وسأله بصوت خافت فيه رجاء: “هل جاء أحد لزيارة سي يوهان؟”

كان يأمل أن يكون الجواب: لا.

اهتز جسد الحارس قليلًا وقال: “قبل ساعات قليلة، جاء خصيان وقالوا إنهم أُرسلوا بأمر من سموّك لزيارته.”

كان الحراس يعلمون أن الأمير وسي يوهان لا يتفقان، ولهذا لم يعترضوا على دخول الخصيان.

كاد كي روان أن يتعثر ويسقط من وقع الصدمة. اللعنة!

“بسرعة! أسرع بنا إلى الزنزانة!” قال وهو يلهث بفزع.

تمنى في قلبه ألا يكون قد فات الأوان. 

فهذه هي اللحظة الفاصلة التي يتحوّل فيها سي يوهان إلى شخص مخادع وبارع في المكر. 

من بعدها، سيصبح الشر متجذرًا في أعماقه، يتحمل كل الذل، ثم يعود إلى بلاده، ينتزع العرش، ويغزو العالم. ينتقم من كل من ظلمه، بمن فيهم… كي روان نفسه.

يا إلهي، لا تجعل الأوان قد فات…

وكما هو متوقّع، كانت الزنزانة تحت الأرض. 

وسار الحارس بسرعة كبيرة تنفيذًا لأمر الأمير. 

تبعه كي روان عبر ممرات متعرجة حتى وصلا إلى الدرج المؤدي إلى القبو. وكان الظلام يخيم بشدة حتى أن العين لم تعتد عليه سريعًا. 

ضيّق كي روان عينيه فرأى شموعًا متناثرة على الجانبين، أضاءت المكان بضوء خافت ومرعب.

“أمسكوه بسرعة!”

جاء الصوت عاليًا حادًا بطابع أنثوي مرتفع. 

عرف كي روان فورًا أن هذا صوت الخصيان. 

تبع الصوت بلا تردد، دافعًا الحارس من أمامه غير مبالٍ بمكانته.

أما الشاب ذو الثوب الأزرق السماوي فقد عبس وجهه، وزاد من سرعته ليلحق به.

اندفع كي روان إلى الخارج، فرأى الخصيان يعبثان بجسد سي يوهان. كان الطفل، الذي لم يتجاوز السابعة، عاجزًا عن الدفاع عن نفسه. 

جسده مغطى بالكدمات والطين، وشعره أشعث.

“توقفوا!” صرخ كي روان.

حين رأى الخصيان الأمير، تقدّما نحوه مبتسمين بتملق:

“سموّك، هذا المكان لا يليق بك. 

نعدك أننا سنتكفل بالأمر على أحسن وجه. 

وإن أردت أن ترى مشهد تعذيبه، سنأمر الرسامين برسمه لك بكل تفاصيله.”

شهق كي روان من شدة الرعب. 

يا إلهي! هل يحاولون قتلي؟

دخل إلى الزنزانة. 

“اختفوا من وجهي!” قالها ببرود حاد.

“سموك، هل تفضّل أن تتولى الأمر بنفسك؟” 

قال أحد الخصيان بلهجة وضيعة.

“اصمت!” صرخ كي روان بانفعال.

انخفض رأس الخصي أخيرًا، ولم ينطق بكلمة.

اقترب كي روان من سي يوهان، ونظراتهما التقت. شعر كي روان بقشعريرة تسري في جسده، فقد كان سي يوهان ينظر إليه بنظرة غريبة… كأن كي روان قد مات فعلًا.

لم يبقَ على جسده جزءٌ سليم. 

أما ما تبقى من ملابسه فلم يكن يستر سوى الضروري. نزع كي روان حزامه، ثم خلع عباءته ووضعها فوق جسد الطفل.

تجمّد سي يوهان في مكانه، لم يستوعب ما حدث، حتى وجد نفسه بين ذراعي كي روان، محاطًا بدفء غير متوقع، وصوتٍ يهمس بيأس حقيقي:

“لا تخف… سأُخرجك من هنا. 

كل شيء سيكون على ما يُرام…”

كان سي يوهان مجرد طفل، أما كي روان فكان يتدرب على فنون القتال يوميًا، فحمله لم يكن بالأمر الصعب. احتضنه إلى صدره وسار به خارج الزنزانة بخطى مسرعة.

لكنه لم يرَ أن الطفل بين ذراعيه، كان يبتسم في الخفاء… بابتسامة شيطانية تحمل خليطًا من السخرية والغرور.

كان اليوم الذي هُزم فيه كي روان وتلاشى من الوجود، هو اليوم نفسه الذي قضى فيه سي يوهان على جميع أعدائه. في ذلك اليوم، وحّد العالم تحت رايته، انتقم ممن ظلمه أشد انتقام، وأذاق أعداءه أضعاف ما ذاقه منهم.

وبعد سنوات من الانتظار، استطاع أخيرًا أن ينام بطمأنينة. فقد خطط لكل شيء بعناية، وقتل أخاه ووالده، حتى لم يبقَ من يهدده أو ينافسه.

لكنه لم يتوقّع أن كابوسه الأبدي سيعود ليطارده من جديد.

لقد عاد… إلى تلك اللحظة. 

تلك الندبة التي رافقته طيلة حياته. 

كيف سمح لخصيين تافهين أن يدمّروه بتلك الطريقة؟ هل عليه أن يعيش الجحيم ذاته مرة أخرى؟ لم يستطع تقبّل ذلك.

والأدهى… أن من أنقذه هذه المرة كان كي روان!

هل عاد كي روان هو الآخر إلى الحياة؟ لا بدّ أن كي روان يعرف ما سيفعله به… أنه سيقتله لا محالة. 

لكن…

لماذا لم يقتله؟ لماذا حمله بين ذراعيه؟ 

لماذا خالف كل صور الغطرسة التي عُرف بها؟

ألم يكن من الأسهل أن يقتله ويتخلّص منه بدلًا من أن يهرب ويشوّه صورته أمام الجميع؟

حمل كي روان سي يوهان إلى قصره الخاص.

“نادوا الطبيب شوان حالًا! وأحضروا ماءً ساخنًا وبعض الملابس.”

وضع سي يوهان بلطف على سريره، ولم يكترث بأن جسده المليء بالوحل والكدمات قد لوّث أغطية السرير البيضاء النقية. 

لكن في نظره كطبيب، كانت رؤية جسد سي يوهان في هذا الحال كافية لأن تُبكيه.

إنه طفل! مجرد طفل!

ما فعله كي روان الأصلي كان بشعًا بكل المقاييس.

لكن حين لامست يده ثياب سي يوهان، أمسك الطفل بمعصمه بقوة. وقد بدلت ملابس كي روان الصفراء الفاخرة إلى سوداء، وكان على معصمه الآن هالة سوداء قاتمة.

نظر إليه سي يوهان بعينين متجمّدتين… مملوءتين بالحقد.

فهم كي روان على الفور أن الطفل لا يثق به ويعدّه عدوًا. ورغم ذلك، ربت على يده برفق وقال:

“اهدأ… سيكون كل شيء بخير. لن يأخذ الأمر وقتًا طويلًا. ثق بي.”

رفع سي يوهان حاجبيه قليلًا، ثم ترك يده. 

لم يكن يعلم ما يخطط له كي روان، فقرر أن ينتظر ويراقب.

ببراعة ودقة، نزع كي روان ملابس الصبي، وبدأ ينظف جسده الملطخ بالجراح والطين بمنديل ناعم. كان الجسد الصغير مغطى بالخدوش والرضوض.

وحين انتهى من تنظيف وجهه، استطاع كي روان أخيرًا أن يرى ملامحه بوضوح.

كانت عينا سي يوهان جميلتين كبحيرة صيفية هادئة. 

رموشه طويلة، سميكة، مجعّدة. بشرته ناصعة البياض، فيها لمسة من الطفولة وامتلاء الخدود. 

شفاهه وردية ناعمة… كزهرة لم تتفتح بعد.

مليء بالحياة والبراءة.

يا إلهي… يا له من طفلٍ فاتن!

لم يملك كي روان إلا أن يلعن صاحب هذا الجسد الذي سبق أن أذاق هذا الكائن الجميل كل ذلك العذاب. أيوحشٍ كان؟!

وبعد أن أنهى الإسعافات الأولية، اكتشف أن الملابس التي جلبتها الخادمة تعود له هو، وكانت بالطبع أكبر من أن تناسب جسد طفل صغير.

“قلت إنني أريد له ملابس تناسبه،” قال كي روان بانزعاج.

جثت الخادمة على ركبتيها مرتجفة.

“سموك، هذا خطئي. سأذهب فورًا لتحضير ما يلزمه. أرجوك لا تعاقبني!”

قطّب كي روان حاجبيه. الجميع يخافون منه بهذا الشكل؟!

قال بصوت ناعم: “اذهبي.”

كان الطبيب الملكي قد اقترب من القصر. 

التفت كي روان إلى سي يوهان وهو يحمل ثوبه الخاص:

“هل تمانع أن ترتدي هذا مؤقتًا؟ 

سيصلون بالملابس المناسبة بعد قليل.”

أومأ سي يوهان برأسه. 

ولمع في عينيه هدوء جديد، كأن برد الحقد قد ذاب قليلًا.

هل وجدت خطأ؟ قم بالإبلاغ الآن
التعليقات

التعليقات [0]