خمسة أعوامٍ قضاها شي تشينغ داخل ذلك الفراغ،
يفعل الشيء ذاته كل يوم، مرارًا وتكرارًا.
بالنسبة لأي إنسان عادي،
كانت لتكون تعذيبًا نفسيًا كفيلًا بأن يفقده صوابه.
لكن بالنسبة لشي تشينغ…
لم يشعر بشيء من هذا.
الزمن مرّ بسرعة لم يكن يتوقعها،
وكأن تلك السنوات الخمس انقضت كما ينقضي كأس ماءٍ شُرب في لحظة!
ربما… لأنّه لم يتلقَ أي مؤثر خارجي.
فقدانه للحواس الخمس جعله يخرج من الزمن تمامًا،
فبات انسياب الوقت بلا معنى.
وفجأة، بعد أن اكتمل الإصلاح…
استفاق!
لقد نجح!
شعر بفرحةٍ عارمة،
ولم يستطع الانتظار ليرى تشين مو من جديد!
لكن…
في اللحظة التالية، سقط في ظلمة حالكة.
كان الجسد قد أُصلِح بالكامل،
وروحه بدأت تندمج مع جسد شيا نوه.
تلاشى شعور الخفة والتحليق،
وحلّ مكانه الكثافة والإرهاق،
الثقل المادي للجسد.
ورغم أن الشعور لم يكن مريحًا،
إلا أنه منحه شيئًا عزيزًا…
الشعور بالوجود.
أن تكون ' حقيقيًا '، ملموسًا، لا مجرد كيان متوهّم.
لكن الاندماج استغرق وقتًا أطول مما توقعه.
كان وعيه حاضرًا، لكن الجسد—الذي أُصلِح للتو—لم يكن مهيأ لاستقباله بالكامل بعد.
لم يكن بوسعه استعجال الأمور،
حتى لو كان يتلهف للخروج…
عليه أن يتحمل.
ورغم أنه لم يستطع السيطرة على الجسد بعد،
إلا أن وعيه خرج من الظلام،
وبات قادرًا على رؤية ما حوله—ولو بصمت.
وما إن خرج، حتى سمع صوت يان تشي يقول:
“سيدي… أرجوك، دع السيد شي يرقد بسلام.”
ارتجف وعي شي تشينغ:
يا إلهي! أيها الطالب الصغير يان تشي!
لم أُعاملك بسوء من قبل…
لماذا تريد دفني حيًا؟!!
ثم…
انقطع خيط في ذاكرته،
وانتفض ذهنه.
خمس سنوات!!
لقد مرت خمس سنوات!
وتوقف جسده عن التنفس طوال هذه المدة.
تحت الظروف العادية، كان يُفترض أن يُدفن منذ زمن بعيد!
يا للكارثة!
إن دُفِن فعلاً… فماذا سيفعل الآن؟
بعد كل هذا العناء، سيعود ليموت مجددًا؟!
لكن… من الواضح أنه لم يُدفن بعد.
ركض بسرعة نحو الأعلى،
وشاهد المشهد أمامه.
رأى الصبي الجالس أمام النافذة،
جسده نحيف، وملامحه غاية في الجمال.
لكن تعابيره كانت متجمدة، كالثلج.
شفاهه مضمومة،
وعيناه السوداوان كانتا تحترقان…
كجمرات مشتعلة فوق جليد خالد.
“اختفِ من أمامي!”
سقط يان تشي على ركبتيه،
الدم يسيل من ذراعه المصابة،
لكنه لم يُظهر ألمًا…
ركع بصمت، خاضعًا.
“ماذا؟ تظن أنني لن أقتلك؟”
زمجر تشي زيمو،
فردّ يان تشي، بصوت مبحوح:
“حياتي… لطالما كانت ملكًا لك يا سيدي.”
كلمات خضوع…
لكنها في تلك اللحظة،
أشعلت غضب تشي زيمو!
رفع يده،
وانطلقت خيوط من الضوء!
أصابت ذراع يان تشي الأخرى،
وهاجمت ركبتيه!
تأوّه يان تشي،
لكنه قال بتلعثم:
“سيدي… السيد شي… قد فارق الحياة.”
نظر إليه تشي زيمو من الأعلى،
تحت رموشه الكثيفة لم يظهر سوى الظلمة.
“إن كنت تشتهي الموت لهذه الدرجة…
فسأحقق لك أمنيتك.”
رفع يده مرة أخرى،
واندفعت عاصفة هوجاء،
سحقته، وطرحته في الهواء،
اخترق الباب…
ثم اصطدم بالجدار بقوة!
فقد يان تشي وعيه.
قال تشي زيمو ببرود:
“خذوه بعيدًا.”
لم يجرؤ أحد من الحراس على الاعتراض.
حملوه بسرعة،
وغادروا المكان مطأطئي الرؤوس.
فقط بعد أن خرج شي تشينغ من ظلامه،
رأى هذا المشهد العنيف،
وشعر بالذهول التام.
أُغلق الباب،
وبات هو وتشي زيمو… وحدهما.
شي تشينغ لم يعرف متى سيستيقظ تمامًا،
لذا لم يكن أمامه سوى أن يشاهد.
لكنه ما إن رأى…
حتى أصابه الانهيار.
فكرة أن تشي زيمو قضى خمس سنوات على هذا الحال…
مزقت قلبه.
بعد رحيل الجميع،
أطفأ تشي زيمو نيران غضبه.
وحين نظر إلى شي تشينغ مجددًا،
امتلأت عيناه بالحب.
احتضنه برفق،
ولمس يده كأنها كنز هش،
وقال:
“يقولون أنك رحلت…
لكنني أراك، تشعر بي، أليس كذلك؟”
“لقد وعدتني… أن تبقى بجانبي إلى الأبد،
أن تكون لي، أن تتزوجني…
أتذكر؟”
وفجأة… أشرق وجهه،
كأنّ ذكرى جميلة خطرت في باله.
عدل جسد شي تشينغ،
أسنده على الكرسي،
ثم جثا على ركبة واحدة أمامه.
لم يكترث لعيونه المغلقة،
كأنه جالسٌ هناك، يبادله الابتسامة.
بدا متوترًا، مبهورًا، فرحًا.
لكن قبل أن يتكلم، انتفض:
“آه! نسيت شيئًا! انتظرني!”
ثم التفت ليبتسم له:
“لا يجب أن تبقى وحيدًا… سأصطحبك معي!”
ثم رفعه بين ذراعيه،
وسار نحو غرفة الدراسة.
هناك، لم يضعه،
بل حمله إلى المكتب،
وقبل أن يفتح الدرج،
غطى عينيه بلطف:
“لا تتسلل بالنظر.”
أخرج شيئًا من الدرج…
ثم غادر الدراسة.
لكن حين رأى بحر الزهور خارج النافذة،
غيّر رأيه.
توجه إلى الحديقة،
حيث ضوء الشمس الساطع،
وبحر من الزهور الوردية،
ومقعد أبيض ناصع وسطها…
مشهد كالحكايات الخيالية.
جلس شي تشينغ على المقعد،
وأخرج تشي زيمو خاتمًا كان قد أعده من قبل.
جثا مرة أخرى،
وعيناه متلألئتان بالعاطفة:
“شي تشينغ…
تزوجني!”
في الأعلى،
تطفو روح شي تشينغ…
وقد خيّم عليه الصمت.
لم يرد أحد.
الميت… لا يجيب.
لكن تشي زيمو لم يبدُ منزعجًا.
بل بقي مبتسمًا،
ووضع الخاتم في إصبعه البنصر الأيسر.
همس:
“هل تخجل؟
لا بأس…
لقد وعدتني منذ زمن، أعلم أنك موافق.”
ثم أمسك وجهه،
وطبع قبلة ناعمة على شفتيه الباردتين:
“هذا مثالي…
أنت معي،
ولن تفارقني أبدًا…
إلى الأبد.”
قضى بقية اليوم بجانبه،
وحين أقبل الليل…
كرّر روتينه المعتاد.
نظّفه،
ألبسه،
ووضعه على السرير.
ثم، كما اعتاد،
همس له بكلماتٍ ناعمة،
وطبع قبلة “تصبح على خير”،
قبل أن ينام إلى جواره…
بابتسامة.
لكن للأسف، حين استغرق تشي زيمو في النوم أخيرًا…
لم يستطع التوقف عن الاستيقاظ بفزع.
في النهار، كان كمن يعيش في حلمٍ جميل،
لكن عندما يحلّ الليل،
لا تأتيه الأحلام، بل تظهر أمامه حقائق…
لم يقدر يومًا على مواجهتها.
في النصف الأول من الليل،
كان يفتح عينيه كل نصف ساعة تقريبًا،
يتأكد من وجود شي تشينغ بين ذراعيه،
يحتضنه بإحكام،
ولا يعود إلى النوم إلا بعد أن يشعر بنبضه—أو ما كان يظنه نبضًا.
وفي النصف الثاني من الليل،
تكرّر الاستيقاظ.
مرة بعد مرة.
وكأنه يخشى أن يستفيق ويجد نفسه وحيدًا.
هذا الروتين استمر حتى حوالي الواحدة صباحًا.
فقط حينها، استطاع أن ينام مجددًا.
لكن… لم يكن نومًا هادئًا.
جبينه انعقد بتجاعيدٍ ثقيلة،
أصابعه كانت مشدودة حتى شحبت مفاصله.
ومن مكانه في الأعلى، راقب شي تشينغ هذا المشهد بقلب يتفتت.
كانت ليلته مليئة بالكوابيس.
لم يعرف شي تشينغ ما الذي كان يحلم به،
لكنه رأى العرق يتصبب من جبهته،
وشفتيه ترتجفان،
وهمهمات تخرج بين أنفاس متقطعة.
بدا كأنه يركض في حلمه،
يطارد أحدهم،
ينادي باستغاثة:
“أمي… ماتت.
تشي لو… مات.
حتى جدتي… اختفت…
شي تشينغ… شي تشينغ… شي تشينغ!!”
استفاق فجأة،
وضمّ الجسد بين ذراعيه بجنون،
لكن عيناه كانتا فارغتين،
كأن روحه… تاهت.
“شي تشينغ… أنت غاضب مني، أليس كذلك؟”
“أنا من جعلك هكذا، أليس كذلك؟”
“أنا… مقرف… أليس كذلك؟”
لم يعد قادرًا على النوم،
فدفن وجهه في عنق شي تشينغ،
كطفلٍ تائه يبحث عن دفءٍ مفقود.
“أنا من قتلك…
أنا من أنهى حياتك…
لكني لا أستطيع التخلي عنك.
شي تشينغ… أنا وحش، أنا مجنون…
لكن أنت… كل ما أملك.”
“استيقظ، أرجوك…
أرجوك، لا تتركني.”
كان صوته مبحوحًا،
نبرة توسلٍ كسرت كل كرامة،
كمن ينهار عند قدمي من يحب.
شي تشينغ شعر وكأن مطرقةً سقطت على قلبه.
لم يستطع أن يتخيّل…
خمس سنوات، ما يقارب ألفي ليلة،
كيف احتملها تشي زيمو؟!
لقد كاد يُجنّ من يومٍ واحد فقط…
فما بال من عاش ذلك لسنواتٍ بلا نهاية؟
مرارة لا تُحتمل…
وحرقة في قلبه جعلت الدموع تنساب من عينيه.
قطرة دمعةٍ باردة عبرت خده…
شعر بملمسها،
وفوجئ.
ثم…
فتح عينيه ببطء.
أول ما رآه… خصلات شعر سوداء قصيرة.
نعم.
لقد عاد بالكامل إلى جسد ' شيا نوه '.
جسد لم يتحرك منذ سنين،
كان متيبّسًا،
لكنه حاول،
ورفع ذراعه ببطء،
ولمس ظهر من أمامه،
وهمس بصوتٍ مبحوح بالكاد يُسمع:
“شياو مو… لقد عدت.”
تجمد الجسد الذي يحتضنه.
تصلب بالكامل،
كأن الزمن توقف.
دموع شي تشينغ انهمرت بلا توقف،
لكنه لم يهتم كيف بدا.
عانق تشين مو بكل ما يملك من قوة،
وصرخ:
“أنا هنا لم أمت! لطالما كنت هنا!
قلت إنني لن أموت!
أنا نظامك! لن أغادر أبدًا!”
ارتد تشي زيمو فجأة،
حدق به بذهول،
وفي عينيه…
انفجار من النشوة،
كألعاب نارية أضاءت الجحيم!
شي تشينغ توقف.
نسي أن يتحرك.
ظلّا يحدقان في بعضهما البعض…
طويلاً…
كأن الزمن جمد حولهما.
في عيني تشي زيمو،
ظهر العمق من جديد.
نظر إليه دون رمشة واحدة،
كأنما إن أدار نظره لحظة… سيختفي كل شيء.
شي تشينغ بادل نظرته بعاطفة مشوبة بالأسى،
ثم قال، بلا تردد، ولا تحفظ:
“أنا هنا…
أنا معك…
لطالما كنت هنا،
لم أرحل أبدًا،
ولن أرحل أبداً!”
كانت تلك الكلمات الصريحة…
كأجمل نوتة موسيقية في العالم.
أشعلت شرارة الحياة من جديد في روح تشي زيمو المحطّمة.
أخيرًا، تحرّك.
انفرجت شفتاه،
وابتسامةٌ خفيفة تفتحت ببطء،
كزهرةٍ في صقيع.
أمسك وجهه،
وقال بصوتٍ مبحوح مفعم بالحب:
“شي تشينغ…”
“أنا هنا!”
“شي تشينغ…”
“أنا هنا!”
“شي تشينغ!”
“أنا معك!”
“شي تشينغ… شي تشينغ… شي تشينغ…”
كرّر اسمه، كأنما يتشبث به من الغرق.
وشي تشينغ لم يضجر،
ظل يكرر معه،
مرة تلو مرة،
حتى يصدق قلبه أخيرًا أن هذا…
واقع.
ابتسم تشي زيمو.
وأخيرًا… رمش.
ثم انزلقت دمعة شفافة على خده الأبيض،
وسقطت في كف شي تشينغ.
لحقتها دمعة أخرى… من شي تشينغ.
ثم…
اندمجتا.
وتوهج ضوءٌ أبيض.
ثم ظهرت بلورة متلألئة في راحة يده.
الحصول على دموع الحياة – المهمة مكتملة.
عقب ظهور الإشعار،
سقط تشي زيمو في غيبوبة قصيرة.
وحين فتح عينيه مجددًا،
بدا عليه الذهول للحظة.
لكن عندما تثبت بصره…
أصبحت عيناه كدوامةٍ سوداء.
اقترب من شي تشينغ،
وبدون إنذار،
قبّله بشغفٍ على شفتيه.
“لقد بذلت جهدًا كبيرًا، شي تشينغ خاصتي.”