ضحك سونغ لين تشو ضحكة باهتة وقال:
“كنت أقصد… أن الشمس اليوم حارقة للغاية، كادت ترسلني إلى المستشفى، هاهاها…”
رفع لي تشانغ بصره إلى السماء الملبّدة بالغيوم، ثم وضع يده على وجهه.
آه، تلك العادة القديمة لدى سونغ لين تشو… حين يتوتر يبدأ في الهذيان بكلام لا معنى له.
تان يوي لم يسمع كامل الحوار، لكنه التقط الجملة الأخيرة فقط.
في البداية، لم يفهم المغزى منها، لكن تعبير سونغ لين تشو المرتبك والمحرج أوصل إليه الحقيقة فورًا.
لمعت عينا تان يوي بسخرية خفيفة، وقال بنبرة هادئة فيها شيء من الدعابة:
“آه، المرة الثانية كانت شديدة أيضاً… سأكون أكثر حذرًا في المستقبل.”
سونغ لين تشو: !؟!؟
لي تشانغ: “…”
كان لي تشانغ في الأصل قلقًا من أن تكون عائلة تان مصابة بأمراض وراثية. فـ سونغ لين تشو لم يكن قد اقترب من تان مينغ تشينغ أيضًا، فمن يدري؟! وعندما يتعلق الأمر بمصيرٍ يدوم مدى الحياة، لا بدّ من التحقق.
لكن… ما الذي سمعه لتوّه؟!
رأى لي تشانغ أن سونغ لين تشو قد بلغ من الإحراج حدًّا جعله يتمنى أن تبتلعه الأرض، فتنحنح وقال:
“أوه، حبيبتي تنتظرني كي أوصلها… أراك غدًا.”
أومأ سونغ لين تشو برأسه على نحوٍ مبهم.
في الحقيقة، لم يكن يرغب برؤيته مجددًا.
وإن أمكن، كان يودّ أن يُسكت الاثنين معًا:
لي تشانغ وتان يوي!
شعر لي تشانغ بنية القتل في عيني صديقه، فاختفى في لمح البصر، كأنه ريح عاتية.
ولمَ لا؟ فهو كان نجم فريق كرة السلة في السابق، وسرعته في الركض كانت خارقة.
أما تان يوي، فقد خفّض نظره، متأملاً وجه الفتى المتورّد، وقد بلغ احمراره حدّ الدم.
ضحك بهدوء وقال:
“هل نركب السيارة أولاً؟”
رغم أن الطريق لم يكن مكتظًا، إلا أن المارّة لم يكونوا نادرين. وإذا لم يكن سونغ لين تشو يرغب في الكشف عن علاقتهما، فلا يمكنهما الوقوف هكذا في العلن.
تبع سونغ لين تشو شريكه على مضض إلى داخل السيارة.
سأله تان يوي:
“هل ترغب في تناول الطعام؟”
“أوه.”
كان سونغ لين تشو ما يزال غارقًا في خجله،
غير قادر على الخروج من حالة الحرج التي تطوّقه.
لم يجرؤ حتى على النظر في عيني تان يوي.
نظر تان يوي إلى أذني الشاب المحمرّتين وفكّر في طريقة تجنبه للانغلاق على نفسه.
فقال مبتسمًا:
“هل ترغب في لعب لعبة؟”
لم يكن سونغ لين تشو في مزاج يسمح له بلعب أي شيء.
بل كان يتمنى فقط أن يتحول إلى جرذ أرض ويختبئ في حفرة عميقة.
ومع ذلك، فإن فكرة أن تان يوي، الذي عادةً لا يهتم بمثل هذه الأمور، يعرض عليه لعبة، كانت مغرية على نحو غريب.
الفضول قتل القطة، وكاد يقتل سونغ لين تشو، فقد حاول تجاهل رغبته في المعرفة، لكنه في النهاية سأل بصوت خافت: “ما نوع اللعبة؟”
وحين رأى تان يوي أن الطُعم قد أُكل، مدّ يده إلى جانب السيارة وأخرج عملة معدنية صغيرة، ناولها إلى سونغلين تشو.
تردّد الأخر لحظة، ثم تناولها وقال:
“ما هذه؟”
قال تان يوي:
“إنها عملة الأمنيات. يمكنك أن تتمنى بها أمنية مني، مثل…”
ثم توقف لحظة، ملاحظًا نظرات سونغ لين تشو المتلهّفة، وأكمل:
“أن تتمنى أن أمحو من ذاكرتي الساعة الماضية.”
سونغ لين تشو: “…”
رمقه بنظرة حادّة وقال:
“هل تظنني طفلًا في الثالثة؟”
أجابه تان يوي وهو يبتسم بخبث:
“ليس تمامًا… أشبه بطفل في الثالثة والنصف.”
كان يجد متعة كبيرة في مشاكسته.
غضب سونغ لين تشو وضرب رأسه على ذراع تان يوي، غير مكتفٍ بذلك، بل عضه من خلال بدلته الفاخرة، ثم لكمه مرتين.
تمتم قائلاً بصوتٍ مكتوم:
“وغد!”
رؤية سونغ لين تشو وهو يتصرّف بهذا الشكل الطفولي جعلت قلب الرجل الأكبر يلين.
ربّت على شعره الناعم وقال:
“أنت حقًا تحب العضّ كثيرًا.”
وخاصةً في بعض اللحظات الخاصة… كان يحب أن يعضّه حقًا.
في المرة الماضية، أفرط تان يوي في الأمر،
فلم يتردد سونغ لين تشو في الرد بعضّات شرسة، تركت أثرًا واضحًا لم يختفِ حتى اليوم التالي.
لكن، لو كان سونغ لين تشو أكثر وعيًا، لربما ندم لاحقًا، لأنه سيكتشف أن كلّما عضّ أكثر، كلّما ازداد تان يوي حماسًا…
رفع سونغ لين تشو رأسه، ومسح زاوية فمه بظهر يده، ثم تمتم متذمّرًا:
“أنا فقط… جائع.”
هل يعني أنه يريد التهامه من الجوع؟
حسنًا… هذا أيضًا يمكن ترتيبه.
أدار تان يوي وجهه إلى الجانب، ناظرًا إلى سونغ لين تشو. اقترب منه ببطء، ومع اقتراب وجهه أكثر، أدرك سونغلين تشو ما الذي ينوي فعله، فتصلّب جسده لا إراديًا، لكنه لم يتراجع، بل خفَض بصره دون أن يفرّ.
اقتربت شفتا تان يوي أكثر، حتى استقرّت على شفتي الفتى الطريّتين.
ولأن تان يوي جاء اليوم لإلقاء محاضرة، فلم يكن مضطرًا لإخفاء هويّته. كانا يجلسان داخل سيارته ذات اللوحة المميزة، يسيران على الطريق المشجّر داخل الحرم الجامعي، حيث يتنقّل الناس ذهابًا وإيابًا. التفت كثيرون منهم نحو السيارة، بل وأخرج بعضهم هواتفهم لالتقاط الصور.
لكن لم تكن أي عدسة قادرة على التقاط الجوّ الذي جمع بين الاثنين داخل المساحة المعزولة بزجاج رقيق، حيث اختلطت أنفاسهما في الهواء الصامت.
كانت أطراف أصابع سونغ لين تشو تتشبث بحاشية ثوب تان يوي، بينما مال وجهه للأعلى لا إراديًا، مستسلِمًا للقبلة المشتعلة.
لم تمرّ سوى أيام قليلة منذ لقائهما الأخير، ومع ذلك، فقد نمت بينهما أشواق كعشب بري، امتدّ في الزمن وجعل كل يومٍ بعيدٍ يبدو دهراً لا يُطاق.
ربما بفعل المحاضرة، كانت شفتا تان يوي جافتين قليلاً، فزاد ذلك من حدّة الاحتكاك بينهما. نبضٌ كهربائي خافت انطلق من ذلك التلامس الملتصق، منتشراً في جسد سونغ لين تشو حتى أصغر أجزائه.
يده التي كانت تتشبث بطرف الثوب تحولت لا شعوريًا لتقبض على كمّ سترته، وبشدة، حتى بدت أطراف أصابعه شاحبة من شدّة الضغط.
وكأنه بحاجة إلى هذا الاتّكاء لئلا يسقط في الهاوية المسماة تان يوي.
لم ينتبه إلى كم استغرقه الأمر حتى مرّ لسان الرجل على شفتيه، يحاول التسلل إلى داخل فمه، فاستفاق فجأة من شرود القبلة، ودفع تان يوي بعيدًا بقوة.
نظر إليه تان يوي متسائلًا، فأشار له سونغ لين تشو بعينيه نحو السائق، وهمس من دون صوت:
“اهدأ!”
رغم أن هذه الزاوية لم تكن ظاهرة تمامًا من مرآة الرؤية الخلفية، إلا أن ضيق المساحة في السيارة لا بد أنه جعله يشعر بشيء…
وإلا، فلماذا احمرّت أذناه؟!
تبا! لماذا تحمرّ أذناك؟ إنها قبلة فقط!
أليس من المفترض أن يكون السائق في دراما الأثرياء شخصًا باردًا لا يهتم؟!
وبينما كان سونغ لين تشو يشتعل خجلًا، رفع تان يوي يده، وأمرّ إبهامه برفق على شفتي الشاب الرطبتين، كأنه يهدّئه، يعيد إليه توازنه.
وهكذا، انقضت أوّل أزمة عاطفية في حياة تان يوي بسلاسة غير متوقعة.
في تلك الليلة، اختار تان يوي مطعمًا يقدم المأكولات الغربية، حيث قدّم له شريحة لحم طازجة مستوردة جوًّا من أستراليا.
كان سونغ لين تشو قد سمع من قبل أن أفضل مذاق هو للطهي المتوسط، لذا طلب شريحته نصف نضج، تمامًا مثل تان يوي.
كان سطح اللحم مشويًا حتى احمرّت أطرافه بلون ذهبي براق، لكن حين قُطعت، ظهرت داخله حُمرة لامعة، وسوائل لا تزال تنضح من خلاياها.
وبصفته شخصًا صينيًا تقليديًا إلى حدّ ما، واجه سونغ لين تشو صعوبة في تقبّل هذا النمط من الطهي، الذي بدا له نيئًا أكثر من اللازم.
لاحظ تان يوي أنه كان يكتفي بتناول المقبلات، تاركًا شريحة اللحم جانبًا تقريبًا، فسأله بهدوء:
“لم تتقبّل طعمها؟”
قال سونغ لين تشو، وهو يحاول أن يخفي حرجَه بابتسامة خفيفة:
“ليس تمامًا… فقط، لا أستطيع تجاوز الحاجز النفسي. أشعر أنها لا تزال نيئة.”
أومأ تان يوي بفهم، ثم ضغط على زر الخدمة. حضرت النادلة فورًا، فقال لها:
“أحضري شريحة لحم أخرى من فضلك…”
ثم التفت نحو سونغ لين تشو وسأله:
“هل تفضّلها مطهية بالكامل أم نصف نضج؟ النصف نضج لا يزال يحتوي على لون وردي خفيف.”
لوّح سونغ لين تشو بيده وهو يغمز له خفية:
“لا داعي للتكلّف… فقط خذ شريحتي وأعد طهيها قليلاً إن أمكن.”
تان يوي قال بعين دقيقة:
“إعادة الطهي تؤثّر على الملمس.”
قال سونغ لين تشو بلا مبالاة وهو يلوّح بيده:
“لا بأس، براعم التذوّق لديّ بليدة، لن ألاحظ الفرق.”
ثم التفت إلى النادلة قائلاً بابتسامة مهذبة:
“أريده ناضجاً تمامًا، من فضلكِ. وشكرًا.”
تغيّر تعبير وجه النادلة على نحو خفيّ. فمَن يعرف شيئًا عن شرائح اللحم الراقية يدرك أن النضج المتوسط يمنح أفضل قوام وطراوة، وقد يقبل البعض على نصف النضج إن لم يستطيعوا التأقلم.
لكن أن يُطلب اللحم ناضجًا تمامًا؟ فهذه عادة ما تُنسب إلى من التحقوا حديثًا بطبقة الأغنياء.
أولئك يُلقّبون أحيانًا باستهزاء بـ أبناء القرى، وقليلًا ما يصادف المرء أحدهم.
لكنها لم تتوقع أن تصادف أحدهم اليوم… وكان حتى فتى وسيمًا!
من الواضح أنه يفتقر إلى الذوق الرفيع، لكن بفضل وسامته، لفت أنظار هذا الرئيس التنفيذي، فصعد من غصن إلى آخر كما طائر الفينيق.
استعادت النادلة رباطة جأشها سريعًا، وابتسمت باحترافية، وقالت:
“سيدي، إن طهيها بالكامل سيؤثر على قوامها ويجعلها جافة نوعًا ما.
هل أنت متأكد من رغبتك بذلك؟”
لم يكن سونغ لين تشو يدرك أنه قد صُنِّف للتو ضمن فئة أبناء القرى.
ففي السابق، كان لا يتناول شرائح اللحم إلا مع زملائه في مطاعم متواضعة، لا تتجاوز تكلفة الفرد فيها خمسين يوانًا، وكانوا دومًا يطلبونها ناضجة تمامًا دون أن يستغرب أحد.
وغالبًا، من يتردّدون على تلك الأماكن المتوسطة هم أناس عاديون، يأكلون بشرائح اللحم كما اعتادوا، حتى باستخدام العيدان أحيانًا، دون أن يسخر منهم أحد.
مع ذلك، شعر سونغ لين تشو بنظرة غريبة على وجه النادلة. تردّد لوهلة، ثم أومأ قائلاً بثقة:
“أجل، أريدها ناضجة تمامًا.”
حملت النادلة شريحته وغادرت على الفور.
سأل بتردّد:
“هل طلبي غريب إلى هذا الحد؟”
أجاب تان يوي بوجه خالٍ من التعبير:
“أبدًا، فقط… الخدمة هنا سيئة.”
جديّة تان يوي جعلت سونغ لين تشو يضحك، وأسند ذقنه إلى راحته قائلاً:
“هل تريد منهم أن يصبحوا ملوك تيانليانغ؟”
رغم أن تان يوي لم يفهم معنى تعبير “تيانليانغ وانغ بو”، إلا أنه التقط المعنى الحرفي من السياق.
فكر لوهلة ثم قال بهدوء:
“إن أردت، يمكنني التفكير في طريقة لذلك.”
“لا، لا، لا!” سارع سونغ لين تشو بالرد، “كنت أمزح فحسب.”
في تلك اللحظة، رنّ هاتف سونغ لين تشو.
نظر إلى اسم المتصل، فإذا به ابن خالته.
دون أن يتجنّب تان يوي، أجاب مباشرة:
“ابن خالتي، سأصل إلى محطة هايدو غدًا في الخامسة والنصف مساءً. هل يمكنك إرسال عنوان الشقة التي وجدتها لي؟ سأذهب إليها مباشرة.”
كان ابن خالته قد تخرّج حديثًا من مدرسة مهنية، وكان مطلوبًا منه أداء تدريب عملي. وقد ساعده تان يوي في الحصول على وظيفة في هايدو، فوافق على الفور.
طلب من سونغ لين تشو أن يساعده في إيجاد سكن، وعندما علم تان يوي بالأمر، عرض عليه البقاء في شقة يملكها بالقرب من مقر العمل الجديد.
وعندما علمت الخالة والخال أن الشقة ستكون بلا مقابل، أصابهم الحرج، وأصروا على دفع الإيجار.
ورغم محاولات سونغ لين تشو في إقناعهم، لم يوافقوا، فتم الاتفاق على إيجار رمزي قدره 800 يوان شهريًا، ما جعل ابن الخالة يشعر بالارتياح.
سأله سونغ لين تشو:
“كم شخصًا أنتم؟”
“أنا وحدي.” أجاب باستهتار، “أبي أراد مرافقتي، لكنني رفضت. لم أعد طفلًا. ثم أليس أنت نفسك جئت إلى هايدو وحدك في مثل عمري؟”
ابتسم سونغ لين تشو:
“حسنًا، سأستقبلك غدًا في المحطة.”
“لا داعي، فقط أرسل لي العنوان، وسأذهب بنفسي. لا أريد أن أؤخّرك عن دروسك.”
“ليس لديّ محاضرات غدًا بعد الظهر، إذا لم أذهب لاستقبالك، فلن أرسل لك العنوان، فماذا ستفعل حينها؟”
ابن خالته: “…”
تبادل معه بضع كلمات إضافية، ثم أنهى الاتصال.
سأله تان يوي:
“ابن خالتك؟”
“أجل، سيصل غدًا عند الخامسة مساءً.”
قال تان يوي:
“خذ سيارة واذهب لاستقباله. وادعه إلى منزلنا على العشاء.”
هزّ سونغ لين تشو رأسه وقال:
“لا حاجة للعشاء. الرحلة طويلة وسيكون مرهقًا. سأصطحبه لتناول شيء خفيف، ثم ندعوه لاحقًا بعد أن ننتقل بعد غدٍ.”
أومأ تان يوي موافقًا على الترتيب.
في تلك اللحظة، وصلت شريحة لحم سونغ لين تشو. ورغم أنها بدت مطهوة أكثر من اللازم، فإنها كانت طيبة الرائحة، وملائمة تمامًا لذوقه.
أنهى طبقه، ثم غادرا المطعم سويًا.
وعند مدخل المطعم، لمح سونغ لين تشو لافتة كُتب عليها:
“نافورة الأمنيات – جرّب حظك!”
أضاءت عينا سونغ لين تشو ببريق طفولي، وحدّق إلى تان يوي قائلاً بحماس:
“جيجي، لنذهب لنتمنى أمنية!
نستخدم تلك القطعة النقدية التي أعطيتني إياها!”
تان يوي كان نموذجًا للرجل التقليدي الجاف، لا يهتم بمثل هذه الطقوس، لكنه—رغم ذلك—تبع سونغ لين تشو على مضض نحو نافورة الأمنيات.
ويبدو أن كل ما كان في السابق باهتًا وغير لافت، ما إن يصبح مع سونغ لين تشو حتى يغدو مشوّقًا ومليئًا بالحياة.
“حسنًا.”
وبينما كانا يهمّان بالخروج، سمعا صوتًا صاخبًا قادمًا من الخارج، ومن نفس الاتجاه الذي تقع فيه نافورة الأمنيات.
رفض تان يوي عرض أحد العاملين بمرافقتهما، فسحب سونغ لين تشو يد تان يوي واتجه به نحو الصوت.
غير أنه سرعان ما أدرك أن ثقته الزائدة بذاكرته المكانية لم تكن في محلها؛ إذ بدأ يشعر بأنه لا يعرف الطريق بدقة.
وقبل أن يسأل أحدًا من العاملين، تناهى إلى سمعه صوت حديثٍ يدور عند الزاوية:
“طلب شريحة لحم ناضجة تمامًا؟ لم أرَ مثل هذا من قبل.
هل هذا حقيقي؟”
توقفت خطوات سونغ لين تشو على الفور.
“صحيح، أنا أيضًا لم أره من قبل.
وكان فتى وسيمًا جدًا.
عندما قال ذلك، شعرتُ أنني تلقيت صدمة كهربائية!”
“…هل طلب شريحة لحم ناضجة أمرٌ صادم؟!
الأمر يثير الغيظ حقًا!”
ضاقَت عينا تان يوي في صمت.
“تظنون أنه ابن أحد أثرياء العائلات؟”
“لا أعتقد. ربما شخصٌ مدلّل يعيش على حساب غيره. الرجل الذي رافقه هو زبوننا من فئة كبار الشخصيات السوداء. تفهم ما أعني، أليس كذلك؟”
“آه، فهمت. بعض الناس، مهما لبسوا من أثوابٍ فاخرة، يظلون في قرارة أنفسهم يحملون دماء الريف في عروقهم.”
“وماذا عن دمائكم أنتم؟”
جاء صوتٌ بارد من خلفهم، فقطع الحديث فجأة وأصابهم بالذعر.
استدار الاثنان، ورأت النادلة وجه سونغ لين تشو وتان يوي، فأصفرّ وجهها كأنما فقدت الدماء من وجهها.
“أ-أنتما… كيف وصلتما إلى هنا؟!”
كان هذا المكان استراحة الموظفين، وليس مسموحًا للزبائن بدخوله. لم يكن لديهم أدنى فكرة كيف تمكّن الاثنان من دخول هذا الركن.
لم يردّ تان يوي بشيء، واكتفى بنظراته الثلجية القاتلة نحوهما.
وفي تلك اللحظة، خرج المدير مسرعًا من الداخل بعدما سمع الهرج، وبمجرد أن رأى تان يوي، زبونهم المهم، أسرع نحوه وهو ينحني ويعتذر.
“السيد تان، نعتذر بشدة إن كان هناك ما أزعجك. هل صدر من موظفينا ما أهانكم؟”
لكن تان يوي لم يلتفت إليه، وظلّ يحدّق في النادلتين بعينين لا ترحمان.
قال بصوت خافت لكنه مزلزل:
“قولوا لي… أي شريحة لحم تأكلانها أنتما لتغدوا بهذه النُبل؟”
“…”
تبادلت المرأتان النظرات، وقد ضاعتا في الصمت.
زجرهما المدير بصوت خافت غاضب:
“السيد تان طرح سؤالاً، أجيبا!”
خفضت النادلتان رأسيهما، ثم تمتمت إحداهما، وقد بدا عليها بعض التجرؤ:
“نعترف أننا لسنا نبلاء، لكن لا أحد قال إننا لا نحق لنا التحدث عن علية القوم. وما قلناه كان صحيحًا، لم نختلق شيئًا. لماذا تغضبون؟”
قبض تان يوي يده بقوة حتى بدا وكأنه على وشك اللكم.
ولو لم تكن امرأة، لربما فعلها حقًا.
بدأ العرق يتصبب من جبين المدير:
“شياوشياو! ما هذا الكلام الفارغ؟ السيد تان… أعتذر! أعتذر بشدة.
لم تقصد الإهانة، سأجبرها على الاعتذار لكم.”
أما سونغ لين تشو، فلم يكن غاضبًا إلى ذلك الحد.
فكلامهم، وإن كان جارحًا، لم يكن كاذبًا.
هو في الأصل وُلد في بيئة بسيطة، فلاحية، وهذه حقيقة لا يخجل منها ولا يستطيع تغييرها.
ابتسم ابتسامة هادئة وقال:
“لا حاجة للاعتذار. هذا ‘الفلّاح’ الذي في دمه شيء من طائر الحجل، لا يستطيع تحمّل الاعتذار.”
ثم نظر إلى النادلة بابتسامة مستفزة وتابع:
“لكن، آنسة، ذلك السوار في يدك يبدو عزيزًا عليكِ. إنه نسخة مزيفة من أحد تصاميمي.
الإصدار المقلد يبدو خاليًا من الإتقان. وأنتِ، بما أنكِ بهذه النُبل، لا تدعي التقليد ينزع عنكِ هيبتك.”
تجمّد وجه النادلة، وتبدلت ملامحها بين الأحمر والأزرق، وكأنها صُفِعت أمام الجميع.
ثم التفت سونغ لين تشو، وأخذ بيد تان يوي قائلاً:
“هيا بنا، زوجي.”
أظهرت النادلتان تعبيرًا مصدوماً ما إن سمعتا كلمة: ' زوجي. '
ألَم تكن العلاقة بين هذين الرجلين مجرد علاقة إعالة أو دعم؟
كان تان يوي لا يزال غاضبًا، لكن تلك الكلمة
—زوجي—بمفعولها العجيب، سحبت الغضب من أعماقه كنسمة ربيعٍ عابرة.
همس بصوت خافت: “حسنًا.”
ومهما قال المدير من اعتذارات، لم يلقِ تان يوي نظرة واحدة على الحضور، بل أمسك بيد سونغ لين تشو وغادرا سويًا.
ولمّا خرجا من المطعم، سأله تان يوي:
“ألستَ تريد أن يعتذروا؟”
ردّ سونغ لين تشو دون أن يلتفت:
“لا أرغب في سماع اعتذارهم. لا معنى له.”
شدّد تان يوي من قبضته على يد الفتى، وهمس بصوتٍ منخفض لكنه حاسم:
“سأجعلهم يدفعون الثمن.”
ابتسم سونغ لين تشو بخفة:
“لا داعي. فقد خسروا زبونًا بمكانتك. لا بد أنهم سيندمون.”
لم يقل تان يوي شيئًا، لكن في داخله، كزوجٍ واقٍ،
لم يكن ليسمح للأمر أن يمرّ هكذا ببساطة.
حين وصلا إلى المنزل، شعر سونغ لين تشو، الذي غاب عنه لفترة، وكأن المكان بات غريبًا عنه بعض الشيء، وربما فارغًا.
أسرع كبير الخدم ليو يوضح:
“بعض التحف الثمينة والأغراض الدقيقة نُقلت إلى المنزل الجديد مسبقًا.”
كان سونغ لين تشو يشعر بالتعب، فتوجّه إلى الطابق العلوي ليرتاح.
تبعَه تان يوي بصمت، وقد خيّمت عليه مشاعر من الكآبة، وهو يراقب الشاب يتّجه نحو غرفته الخاصة.
لم يكن من السهل إقناعه بالعودة.
الصبر… عليه أن يتحلى بالصبر.
“جيجي…”
ناداه سونغ لين تشو فجأة، قبل أن يفتح تان يوي باب غرفته.
“همم؟” استدار إليه. “ماذا هناك؟”
“هل… هل أُحرجك أحيانًا؟”
ففي النهاية، هو مجرد طالب جامعي عادي، لم تطأ قدماه أروقة الطبقة الراقية من قبل.
مرافقته لـ تان يوي إلى أماكن فاخرة، تشبه إلى حد كبير دخول الجدة ليو إلى حديقة القصور الكبرى.
(ملاحظة: الجدة ليو شخصية من رواية حلم المقصورة الحمراء، وهي امرأة ريفية تزور قصرًا فخمًا وتُصاب بالذهول من البذخ).
مثل تلك المرة الأولى التي خرجا فيها لتناول الطعام، شعر حينها بعدم الأمان في ذلك المطعم الزجاجي المعلّق كالقصور في السماء.
كان يخشى المرتفعات، ما جعل تان يوي يطلب من النادل إغلاق الستائر.
ولا شك أن النادل، في أعماقه، كان يتساءل كيف لشخص مثله أن يكون بهذه البدائية.
أجاب تان يوي، دون أدنى تردد:
“لا.”
“لستَ مضطرًا لمواساتي. أستطيع التحمّل.
أنا فقط أخشى أن أحرجك دون أن أدري، أكثر من خوفي من السخرية.”
قال تان يوي:
“أياً كان ما تفعله، فلن تُحرجني.”
… هذا الرجل المستقيم المتحجر… هل قال لتوّه كلامًا بشريًا؟!
والأدهى… أن كلماته كانت فاتنة بشكل لا يُحتمل.
ابتسم سونغ لين تشو دون أن يشعر، وقال:
“أريد أن أتعلم… أن أتغير لأجلك.”
اقترب تان يوي منه، ووقف أمامه، محدقًا في عينيه.
قال بصوت ثابت وجادّ:
“في هذا العالم، لا يوجد تفاضل في الأذواق الشخصية.
إن كنت تحب شريحة لحم مطهوة بالكامل، فهي ما ألفته نفسك.
لا حاجة أن تغير شيئًا لأجلي.”
كانت نبرته كأنما يعلّم طفلًا صغيرًا، مليئة بالحنوّ والجدّية.
رفع سونغ لين تشو عينيه، فوجد في ملامح تان يوي صدقًا لا لبس فيه.
رفع تان يوي يده، ووضعها بلطف على عيني الشاب النقيّتين، ثم قال بصوت رصين:
“ولا حاجة أن تفرض على نفسك قيودًا فقط لأنك شريكي.
كن كما أنت… أفهمت؟”
رمش سونغ لين تشو مرّتين.
“فهمت، بروفيسور تان.”
مرت رموش الفتى بخفة على راحة يد تان يوي كأنها ريشة، فاهتز قلب الرجل لحظةً.
سحب يده بهدوء، فبدت له من جديد عيناه البريئتان، تتألّقان بابتسامة خفيفة.
لم يقل أيّ منهما شيئًا.
الليل كان ساكنًا، وضوء المصابيح الصفراء الدافئة في فناء المنزل امتدّ عبر النوافذ في آخر الممر، لينكسر على الأبواب ويشكل أشكالًا هندسية غير منتظمة.
من الطابق السفلي، خفت صوت كبير الخدم ليو وهو يعطي تعليماته للخدم، بدا الصوت أحيانًا واقعيًا، وأحيانًا كأنه صدى حلم.
لكن في هذا الركن… كان الزمن متوقفًا.
السكون في الأجواء جعل صوت دقات قلبيهما مسموعًا… ينبضان بوتيرة متسارعة.
“جيجي…”
كسر سونغ لين تشو الصمت أولاً.
“همم؟”
جاء صوت الرجل عميقًا، كأنه صدى من صدره.
نظر سونغ لين تشو إليه، ورفع رأسه قائلاً:
“أريد أن أقبّلك.”