كانت الليلة ساكنة، يعمّها هدوءٌ لا يُكسره إلا همسات النسيم.
انسكب ضوء القمر من خلف الستائر المفتوحة، وامتزج بنور المصباح الأصفر الدافئ قرب السرير، فكوّنا معًا مشهدًا ضبابيًا تغلّفه الرومانسية، وتُشعل فيه الأنفاس العابرة لهب التوتر في الغرفة الدافئة.
في تلك الظلال المتراقصة، انكشف وجه الرجل بالكامل، وكان الحزام الذي بدأ بالهبوط كأنه نصل سيف، صارخًا بحضوره، فجعل أعصاب سونغ لين تشو تتصلّب في لحظة.
وقد تلاشى احمرار وجهه، وبدأت الصحو تدب في ذهنه، شيئًا فشيئًا، حتى تسلّل إليه شعور بالخوف، زاحفًا على امتداد عموده الفقري.
“أنت… أنتَ… جيجي…”
تحت تأثير الخمر والهلع، بدأ نظام اللغة في دماغه ينهار.
تشبّث بيد الرجل بقوة، محاولًا دفعه بعيدًا.
شعر تان يوي بالمقاومة، فتردّد لحظة، لكن في هذه المرحلة، لم يكن من الممكن التراجع.
قال بصوت منخفض، يحمل بحّته رنّة مغناطيسية تخطف القلوب:
“انتظر… لن أفعل شيئًا.”
ثم طبع قبلة خفيفة على شحمة أذنه، بحنوّ الصياد الخبير، يهدّئ فريسته، ويغويها في آنٍ واحد.
ربما كانت حرارة المكان، أو دفء كفّ الرجل، أو ربما ما تبقّى من الخمر في دم سونغ لين تشو… كل ذلك اجتمع ليغرقه تدريجيًا في دوامة الإغواء.
كان عيد الحب يوشك أن ينتهي، لكن الجو المشحون بالحب ظلّ يُغذي لحظتهما، حتى أن الأبراج البعيدة بدت وكأنها ترسم شكل قلب في السماء.
في الخارج، كان الهواء يداعب الأشجار، تصدر أوراقها همسًا ناعمًا كتهويدة، تُريح الأعصاب.
وبينما واصل الرجل تهدئته بلطف، خفّت مقاومة الشاب شيئًا فشيئًا.
وفي الخلفية، بدت أصابع يده الرقيقة، البيضاء الشفافة، تتراخى على الملاءة الداكنة.
حتى…
غزاه الألم فجأة، كشيطان باغت النعاس، فانقبضت يده الجميلة بقوة، وتصلّبت عروقها من شدة التوتر.
“أنت…” أراد أن يقول شيئًا، لكن كلماته تحطّمت إلى أشلاء.
كان كسمكة صغيرة تقطّعت بها السبل، تواجه شاطئًا مجهولًا وشيطانًا يتربّص بها، لا تعرف سوى الذعر. أرادت أن تعود إلى مياهها، إلى عالمها المعتاد، إلى صخرة تغطّيها في قاع البحر… تهرب من هذا العالم المليء بخداع البشر.
لكن الشيطان كان أقوى.
كلما حاولت الهرب، اجتذبها مجددًا، بضعفها ذاته، ثم عاد ليغرقها معه في قعر هاوية لا قرار لها.
لم يكن جسدها اليافع مهيئًا لمثل هذه الصدمة، فبدأت أنسجته تنهار واحدة تلو الأخرى، حتى تناثرت في الهواء كألعاب نارية في سماء ليل مظلم.
لا أحد يعلم كم مر من الوقت… ربما قرن من الزمان.
لكن البركان، الذي تراكمت حممه طويلًا، انفجر أخيرًا، وتدفقت مجاريه الحارقة على جدران الروح، محدثة زلزالًا عنيفًا، انشق معه البحر.
ثم… جاء الصمت.
وفي ذلك الصمت المعلّق، لم يُسمع سوى أنفاس مُتقطّعة، لم تهدأ بعد.
كان سونغ لين تشو مُتكوّرًا بين ذراعي تان يوي، أعصابه قد تلاشت تمامًا تحت سيل من الإثارة لم يعهدها يومًا. لم يكن يعرف… هل عليه أن يضرب تان يوي؟ أم أن يلعن تان مينغ تشينغ؟
لا أحد من عائلة تان يستحق الثقة!
جميعهم… كذبة!
كذبة… بل سلسلة أكاذيب!
تان يوي — الكاذب الكبير — شعر باهتزازات خفيفة تصدر من الشاب بين ذراعيه، فحرّكه قليلًا ليواجهه، فرأى عينيه تلمعان بالدموع، وقد اختلط البكاء مع اللمعان، وامتلأت نظراته بالحزن، وكأنه قد تعرّض للتنمر العاطفي الأشد قسوة.
وكان البركان الذي هدأ للتو، يوشك أن ينفجر من جديد.
مدّ تان يوي يده ومسح دمعةً عند طرف عينه، وقال بصوتٍ ناعم:
“لا تبكِ.”
لكن الصغير اختنق بالكلمات وقال، وهو يكاد ينهار:
“كاذب… وغد!”
“نعم، أنا كاذب وغد.” ردّ تان يوي، دون أن يخجل، وبنبرة أقرب إلى الاعتراف الخالي من الدفاع.
زاد ذلك من غضب سونغ لين تشو.
خصوصًا حين شعر بأن الحزام — ذاك الحزام الذي لم يكن حقيقيًا — قد عاد واحتكّ به مجددًا.
ارتعب سونغ لين تشو حقًا، وانكمش فورًا نحو الخلف. لكن قواه المنهكة، التي استُنفدت للتو، لم تسعفه. لم يتراجع إلا قليلًا، قبل أن يُسحب مجددًا بين ذراعي الرجل.
“لا أستطيع بعد الآن…” همس متوسلًا، “جيجي، سأموت…”
“حسنًا، لن أفعل شيئًا… فقط سأحتضنك فقط.”
ولأن سونغ لين تشو كان يؤمن بخداع هذا الرجل، فقد صدّقه مرة أخرى… واستسلم لعناقه.
طبع الرجل قبلة خفيفة على شعره، وأخذ يُدلّك بلطف مؤخرة عنقه بأطراف أصابعه، كمن يهدّئ هرة صغيرة مذعورة.
تحت هذا اللمس الهادئ، استرخى الهر الصغير، وتسلّل إليه النعاس شيئًا فشيئًا. لكنه لم يلاحظ نظرات الرجل التي أصبحت أكثر عمقًا وظلامًا.
وكما ثبت لاحقًا، فهناك لحظات… لا يجب فيها أن تثق حتى بعلامات الترقيم في كلام الرجل.
فعندما عاد الشيطان مرة أخرى، كانت الهرة الصغيرة قد أنهكها التعب ولم تكن مستعدة.
فوقعَت فريسة مرة أخرى، دون مهرب.
وأخذت الهرة تعضّ كتف الشيطان مرات ومرات، تعبيرًا عن ضيقها وغضبها.
لكن الألم لم يثنه… بل زاد من غريزته اشتعالًا.
فكما أن البركان، بعد أن ينفجر مرة، يصبح أكثر صبرًا في سكونه، فإنه رغم ضغط الأرض لم يعُد ينفجر… بل يختمر.
ولم يتوقف حتى انهارت الهرة تمامًا، وبدت على وشك الإغماء، فتركها الشيطان أخيرًا… برحمة مشروطة.
هذه المرة، لم تصرخ الهرة، بل بدت كدمية قماشية مرمية. حملها الرجل إلى حوض الاستحمام.
كان الماء الدافئ يُحيط بجسدها، فتنهدت تنهيدة طويلة من الراحة.
ملامح وجهها كانت متعبة، عيناها نصف مغمضتين، وكأنها تسمح للرجل بغسلها، بينما أطرافها تتدلّى كأنها فقدت القدرة على الخدش أو المقاومة.
حتى—
“تاااان يوي!!”
جاء صراخ الهرة الصغير مثل قطة دُعِس على ذيلها.
لكن… الشيطان يبقى شيطانًا.
لن يُطلق سراح فريسته إلا بعد أن يشبع تمامًا.
تناثرت مياه الحوض على الأرض في موجات، ارتطمت بالأرض فنثرت قطراتٍ متلألئة.
المشهد في الحمام انعكس في تلك القطرات، ثم تكسّر مرة أخرى بموجة ماء جديدة، فانفجرت إلى آلاف الشظايا…
وكان ضوء القمر في تلك الليلة… رائعًا جدًا.
واستمرت تلك المعركة الحسية حتى غطّت الأرض طبقة لامعة بيضاء… ثم خيّم الهدوء.
انهار سونغ لين تشو هذه المرة حرفيًّا، ولم يعرف كيف عاد إلى السرير.
وفي غيبوبةٍ نصفها سكر ونصفها إرهاق،
بدا له أن تان يوي وضع شيئًا ما في إصبعه.
ما هو؟
لا يهم… كل ما أراده هو النوم.
اقترب تان يوي من وجهه المنهك، ولم يستطع مقاومة رغبة التقبيل. انحنى على زاوية شفتيه المتورمة قليلًا، وطبع قبلة حنونة.
لكن سونغ لين تشو، الذي ربما أُصيب برهابٍ من هذا الرجل، تراجع لا شعوريًا، وشدّ شفتيه، وكأنما يحرسهما من كذبة جديدة.
ضحك تان يوي بصوت خافت:
“نم جيدًا.”
غطّاه بالبطانية، وتركه ليستريح أخيرًا.
مرّ نصف الليل، فيما قضى سونغ لين تشو النصف الآخر في كوابيس مزعجة.
وفي حلمٍ مشوّش، كان أرنبًا صغيرًا يستمع للناس وهم يتهامسون عن ذئب رمادي يُدعى تان يوي، شجاع وشرس… لكنه نباتي.
صدّق ذلك، وقفز بمرح نحو بيت الذئب الرمادي ليكوّن صداقة معه.
وكان الذئب بالفعل رائعًا، يرعاه، ويهتم به، ويأخذه إلى أجمل المراعي، ويطعمه حتى امتلأ وزاد وزنه.
ثم، في ليلة عاصفة ومظلمة، قال له الذئب فجأة:
“دعنا نلعب لعبة اسمها أكل الأرنب، لن آكلك، فقط نلعب.”
وافق الأرنب بسعادة، ودخل الذئب الحمّام وقال له:
“سألعقك فقط، لن آكلك.”
لكن في غفلةٍ منه، فتح الذئب فمه الكبير… وابتلعه دفعة واحدة.
استفاق سونغ لين تشو من هذا الكابوس المرعب وهو يتصبّب عرقًا… وكان النهار قد أشرق.
كانت صباحية نادرة من شتاء صافٍ، تسلّلت فيها أشعة الشمس الدافئة عبر شقوق الستائر، وارتسمت على عنقه الأبيض، كاشفة عن آثارٍ حمراء متناثرة.
حرّك جسده قليلًا، فتأوه من الألم.
وكأن كل ما تحت رقبته لا يعود إليه… تأوه من جديد.
كان ذهنه لا يزال في حالة دوار، مثل تروسٍ قديمة تصرّ وتئنّ، وبالكاد استوعب ما حدث.
من الشرفة، التي لم تكن مغلقة تمامًا، تسلّلت أصوات خافتة:
“…همم، ٣٧.٨ درجة، لا حاجة لخفض الحرارة؟… حسنًا، فهمت.”
“نعم، فحصت للتو، الانتفاخ فقط… أحضر الدواء، شيء لا يسبب تهيّجًا… تمام، سأراقبه قليلًا.”
كانت هذه الكلمات كالمفتاح.
فتحت صمام الذكرى.
وفي لحظة، اندفع كل ما حدث ليلة البارحة إلى عقله، كعاصفة رعدية لا ترحم.
وانهمرت المشاهد أمامه، تتكرر وكأنها شريط سينمائي.
تجمّد جسده… شبرًا بعد شبر.
ما الذي فعله…؟
لا، الأمر لم يكن في من وضع الخاتم، بل في أمرٍ آخر أكثر خطورة…
ألم يكن تان يوي غير قادرٍ على ' ذلك '؟!
إذًا من كان ذاك الذي فعلها البارحة؟!
ما كان ذاك السلاح الذي طعنه ثلاث مرّات؟!
تان مينغ تشينغ، ذاك الكاذب الكبير، خدعه تمامًا.
أي مرض هذا الذي لا يشفيه حتى أطباء المسالك البولية؟ لا بدّ أنه مرض في رأسه، لا في جسده!
في هذه اللحظة، كان سونغ لين تشو يرغب بكل جوارحه أن يسدّد لكمة مباشرة إلى رأس ذلك الكلب الكاذب، المغرور، والخطير.
تذكّر كيف أغواه بكلماته، وكيف قال تلك الجمل الغبية وهو غارق في سُكره… واحمرّ وجهه بلونٍ أشبه بعلبة ألوان انسكبت.
اختلطت فيها كلّ الألوان، وانتهت جميعها بدرجات من القرمزي المشتعل.
لدرجة أن أصابع قدميه التوت من شدّة الحرج.
هل لا يزال بإمكانه الهروب… بالقطار؟
لكن الوقت قد فات.
كان باب الشرفة المنزلقة يُصدر صوت احتكاك خفيف، وتان يوي دخل من الخارج بهدوء.
أغلق سونغ لين تشو عينيه بسرعة، وتظاهر بالنوم.
اقترب تان يوي ووضع راحة يده على جبين سونغ لين تشو. حرارة كفه تسلّلت إلى جبينه وأيقظت ارتجافًا لا إراديًا داخل جسده.
هذه اليد… ارتكبت عددًا لا يُحصى من الجرائم الليلة الماضية!
كم تمنى سونغ لين تشو لو تمكّن من عضّها.
لكن اليد لم تكن على دراية بجرائمها؛ انزلقت بلطف على جبينه، ثم على خده، ثم شفته، ثم ذقنه، ثم عنقه… ولم تبدُ عليها أي نية للتوقف.
حين أوشكت على التسلّل إلى داخل البيجاما الناعمة، لم يحتمل سونغ لين تشو أكثر، وأمسك بها فجأة.
لكن هذه الحركة حرّكت خيطًا غير مرئي، شدّ كل عصب في جسده، فشعر بألمٍ حادّ جعله يكاد يقفز من السرير.
“توقفت عن التظاهر بالنوم؟”
قال تان يوي بنبرة ممزوجة بالضحك.
كان يبدو كمفترس شبعان، مليء بالطاقة، ولا يمتّ بصلة لذلك الرجل الذي كان في غيبوبة قبل أيام.
حدّق فيه سونغ لين تشو بنظرات قاتلة.
لو كانت النظرات سيوفًا، لكان الرجل في القبر منذ لحظة.
تان يوي، الذي كان يعلم تمامًا أنه تجاوز كل الحدود البارحة، لم يُظهر ندمًا.
بل تمادى، أمسك بيده وقال بصوت خافت:
“إن نظرت إليّ بهذه الطريقة مرة أخرى… سأطعنك بالحزام مرة ثانية.”
هاه؟!
ماذا قال للتو؟!
هل هذه جملة صالحة للنطق في حضارة بشرية؟!
ردّ عليه سونغ لين تشو بنظرة أكثر شراسة، وكأنما يلعنه في داخله:
أيها الكلب الوقح!
كان يعلم أنه شرب أكثر مما يجب، ووثق برجل عجوز لا يستحق، فوقع فيما وقع.
واليوم؟
لن تلمسني مجددًا، يا كلب!
تان يوي شعر بجفاف في حلقه بسبب تلك النظرات الغاضبة، والمشكلة أن عيني سونغ لين تشو، مهما غضبت، ما زالتا تحملان شيئًا من البراءة… وشيئًا من المذلة، ما جعله يرغب في التنمّر عليه مجددًا.
لكنه، لحسن الحظ، أدرك أن سونغ لين تشو لم يعد قادرًا على التحمل.
فقال بهدوء:
“لديك حمى خفيفة.
سأطلب من الخادم ليو أن يحضّر لك شيئًا لتأكله، ثم تنام قليلًا.”
كان رأس سونغ لين تشو يدور، حلقه جاف، جسده يؤلمه من كل موضع، وكأنما أصيب بزكامٍ حاد وأُجبر على الجري ٨٠٠ متر فوقه.
أحضره تان يوي كوبًا من الماء الدافئ، وحين جاء كبير الخدم ليو بصحن شوربة، كان سونغ لين تشو قد غطّ في النوم مجددًا.
في غفوته، شعر بمن يضع كمادة باردة على جبينه، وجسمًا باردًا يُخفف من حرقة الحمم التي غزت جسده سابقًا.
وحين استيقظ، كانت الشمس تميل إلى الغروب.
استعاد سونغ لين تشو بعضًا من طاقته.
صحيح أنه كان جائعًا، ومنهكًا، ويشعر بألم في مواضع محددة، لكن حُمّاه تراجعت، وقوته البدنية بدأت تعود.
لم يجد أثرًا للكلب البشري.
نزل عن السرير بحذر، يفكر في الطعام.
لكن قبل أن يخطو خطوة، اهتز هاتفه على منضدة السرير.
مسح على خصره المتألم، وبينما يُعدّ في ذهنه “أساليب الضرب الـ 108” خاصة لتان مينغ تشينغ، نظر إلى الشاشة…
رقم محلي غريب.
تردد، ثم أجاب، بصوتٍ لا يزال مبحوحًا:
“مرحبًا؟”
جاءه صوت مألوف من الطرف الآخر:
“أنا… لين تشو، أنا مينغ تشينغ.”
ظهر الشيطان!
من فكّر فيه، فها هو يتصل.
أراد أن يُغلق الهاتف فورًا. لكن الصوت من الجهة الأخرى استمر، بنبرة خافتة يملؤها الرجاء:
“رجاءً لا تغلق، أرجوك، لدي أمر مهم جدًّا… هل يمكن أن نلتقي؟ أرجوك، لين تشو، أتوسل إليك.”
تفاجأ سونغ لين تشو من نبرة التذلل المفاجئة. شعور غريب اجتاحه، لكن الفضول غلبه، فأبعد إصبعه عن زر الإغلاق وقال ببرود:
“قل ما لديك عبر الهاتف.”
المساعدة؟ مستحيل.
لكن الفضول؟ لا مفرّ منه.
قال تان مينغ تشينغ بصوت مرتجف:
“أريدك أن تُقنع العم الصغير بألا يقطع طريق عمي… سينهار تمامًا، وسيفلس!”
سونغ لين تشو:“…”
هاه؟! ما هذه المهزلة الجديدة؟!