🦋

 في اليوم السابع من الشهر القمري الأول، حمل سونغ لين تشو مسودةً مصمَّمة بعناية لتغليف المنتج، وتوجَّه بها إلى شركة وانوو.

كان اليوم يومَ عمل رسمي، وعلى عكس هدوء اليوم الثاني من السنة القمرية، كانت وانوو تعج بالحياة. وما إن دخل عبر الباب الزجاجي الأوتوماتيكي في الطابق الأرضي، حتى استقبلته موظفة الاستقبال بابتسامة معتادة.

قالت له بلطف:

“أهلًا وسهلًا، هل حضرت لمقابلة الرئيس تان؟”

كانت قد تعرّفت عليه سابقًا من خلال حفل العشاء السنوي للشركة.

أومأ سونغ لين تشو برأسه:

“نعم.”

“حسنًا، من فضلك تفضل معي.”

قادته إلى المصعد وضغطت له على الزر بنفسها بمراعاة. صعد المصعد حتى الطابق الثامن والثلاثين، وحين خرج سونغ لين تشو إلى الممر المؤدي إلى مكتب تان يوي، صادف مساعده الشخصي، تشينغ بين.

خرج تشينغ بين من المكتب وملامحه غارقة في القلق، لكنه ما إن رأى سونغ لين تشو، حتى أشرقت عيناه بأمل.

قال بسرعة:

“شياو لين، أرجوك حاول إقناع السيد تان أن يأخذ قسطًا من الراحة. 

لم يغمض له جفن منذ أكثر من ستين ساعة.”

صُدم سونغ لين تشو من الرقم، وسأل بقلق:

“ماذا حدث؟ هل الأمور سيئة لهذه الدرجة؟”

تنهد تشينغ بين وقال:

“الشركة المنافسة حصلت على جزء من تقنيتنا الأساسية، وتستعد لإطلاق منتجها الجديد في يوم عيد الحب.”

وكان عيد الحب بعد غدٍ فقط.

بينما أعلنت وانوو أن إطلاق منتجها سيكون في مهرجان الفوانيس، الذي لا يزال بعد عدة أيام. 

ما يعني أن الطرف الآخر يخطط للتفوق عليهم بالسرعة واحتلال السوق أولًا.

سأل سونغ لين تشو:

“أليس لدينا دليل على سرقة التصميم؟ 

ألا يمكننا مقاضاتهم؟”

هزّ تشينغ بين رأسه بأسى:

“ظاهريًا، لا علاقة للشركة التي ذكرتها لي لي بالشركة التي سرقت التقنية. 

الأدلة غير كافية، والقانون لن ينصفنا في هذا الوضع. لكن السيد تان لديه خطة بالفعل، فلا تقلق. فقط حاول أن تقنعه بالراحة.”

أومأ سونغ لين تشو برأسه وقال:

“حسنًا.”

فتح له تشينغ بين باب المكتب، وما إن دخل، حتى صُدم من حال تان يوي.

كان يبدو مرهقًا للغاية، ووجهه شاحب، وذقنه أصبح أكثر بروزًا من شدة النحول. 

كان يبدو وكأن النوم لم يعرف طريقه إليه منذ أيام.

قال تان يوي، دون أن يرفع رأسه لينظر من دخل:

“أحضر لي كوب قهوة، شكرًا.”

لكن هذه المرة، لم يتلقَ الجواب المعتاد: “حسنًا، سيد تان”، بل سُمع صوت حزمة أوراق تُلقى على المكتب بحدة “طاق!”.

في كل الشركة، لا أحد يجرؤ على التصرف هكذا أمامه.

رفع تان يوي رأسه، ليقع نظره على وجه غاضب.

قال له سونغ لين تشو:

“سمعت من المساعد تشينغ أنك لم ترتح منذ أكثر من ستين ساعة. 

جيجي، ألا تهتم بجسدك؟”

قطّب تان يوي حاجبيه بانزعاج، متذمرًا من ثرثرة المساعد.

قال ببرود:

“لا تقلق، أعرف حدود جسدي.”

لكن سونغ لين تشو ازداد غضبًا:

“تعرف حدود جسدك؟! أنت أكثر إنسان متهور رأيته في حياتي عندما يتعلق الأمر بصحتك! ألست الرئيس؟ لماذا لا توكل المهام للآخرين؟”

مسح تان يوي أنفه بإحراج، لا يعرف كيف يشرح لطالب جامعي لم يختبر صراعات العمل بعد.

حاول تهدئته:

“بمجرد أن ننتهي من عمل اليوم، سأرتاح.”

همّ سونغ لين تشو بالرد، لكن هاتف المكتب رن من جديد. أمسكه تان يوي، استمع للطرف الآخر، ثم قال:

“فهمت.”

نظر إلى سونغ لين تشو وسأله:

“هل أنهيت تصميم عبوة التغليف؟ 

علينا اتخاذ القرار اليوم.”

كان سونغ لين تشو قد جاء بالفعل لتسليم التصميم، لكن بعد أن رأى طريقة تعامل تان يوي الباردة، لم يعد يرغب في إعطائه شيئًا.

أجاب بعينين لامعتين:

“ارتح أولًا، وسأعطيك المسودة.”

قال تان يوي:

“سأنهي مراجعتها، ثم أحضر الاجتماع، وبعدها أرتاح.”

وقبل أن يتمكن سونغ لين تشو من الرد، وقف تان يوي ووضع يديه على كتفيه، ودفعه للجلوس على الكرسي.

كان المقعد لا يزال يحتفظ بحرارة جسد تان يوي، ما جعل سونغ لين تشو يشعر بدفء محرج يلفّه من كل اتجاه.

اقترب تان يوي من جانبي الكرسي، وأسند ذراعيه إلى المسندين، وبدأ ينظر إليه من الأعلى.

الوضعية كانت خانقة ومفرطة في القرب، لدرجة أن أذني سونغ لين تشو احمرتا فورًا، وحاول تجنب نظراته والقيام من مكانه، لكن تان يوي دفعه بلطف للجلوس من جديد.

قال بصوت جاد:

“هذا المشروع مهم جدًا، ليس فقط للشركة، بل لعائلتنا أيضًا. يجب أن أشرف عليه بنفسي حتى أطمئن. أعدك أن هذا هو اليوم الأخير.”

أدار سونغ لين تشو رأسه بعيدًا، ولم ينبس ببنت شفة.

فجأة، انحنى تان يوي نحو شفتيه، وقبّله.

كانت هذه أول مرة يُقبّله وهو مستيقظ. 

ومع اقتراب وجه تان يوي الوسيم، ونظراته التي كانت باردة دومًا وقد تحولت الآن إلى ناعمة رقيقة يمكن للمرء أن يغرق فيها، شعر سونغ لين تشو وكأنه وقع في شركٍ حلو.

تمتم بتلعثم:

“إذًا… لا بأس.”

ارتسمت ابتسامة خفيفة في عيني تان يوي، مدّ إبهامه ومسح طرف شفتيه. ومع ارتعاش جسد الشاب الخفيف، ابتعد عنه، ثم التقط المسودات التي وُضعت على الطاولة وسأله:

“هل هذه هي تصاميم عبوة التغليف التي أعددتها؟”

أومأ سونغ لين تشو بخجل، مكتفيًا بـ”هممم”، 

بينما قلبه لا يزال ينبض كطبول المعركة.

فتح تان يوي حقيبته الجلدية وسحب منها مسودات تصميم التغليف التي أعدها سونغ لين تشو. كانت الرسومات دقيقة ومتعوبة، لم يقتصر فيها على عرض الأبعاد الثلاثية، بل أرفق معها مخططات تفصيلية لعملية التفكيك، وشرحًا وافٍ لكل جزء من التصميم. تكدست الأوراق، وأخذ تان يوي يتصفحها واحدة تلو الأخرى.

ومثلما اعتاد، لم يظهر شيء من مشاعره على ملامحه أثناء القراءة، ما جعل سونغ لين تشو عاجزًا عن تفسير انطباعه تجاه التصميم.

كان قلبه يخفق بعصبية، وكأنّه ينتظر نتائج امتحان القبول الجامعي.

ففي النهاية، كان تان يوي هو رئيس مجلس إدارة وانوو، وتقييمه يوازي في ثقله نتيجة مصيرية.

في تلك اللحظة، طُرق باب المكتب.

كان تان يوي على وشك أن يرد بدعوة الداخل، حين سمع حفيف حركة خلفه. 

التفت فرأى أحدهم يحاول بتوتر تغيير مقعده من كرسي المكتب إلى المقعد المجاور.

ارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة وقال:

“ادخل.”

دخل الشخص المسؤول عن قسم التغليف، وتبدو عليه علامات التوتر.

قال بقلق:

“الرئيس تان، لقد رفضت المقترحين اللذين أرسلتهما لك. هل يمكن أن تخبرني ما الخطأ فيهما، حتى أطلب من الفريق إجراء التعديلات اللازمة؟”

أجابه تان يوي ببرود مباشر:

“كلاهما سطحي ورديء.”

اصفرّ وجه الرجل من وقع الكلمات. 

فتعليق كهذا يعني بكل وضوح أن التصميمين غير صالحين إطلاقًا.

قال الرجل مدافعًا، وقد بدأ يتملكه الانفعال:

“الموعد النهائي يقترب، والفريق يعمل فوق طاقتهم منذ أيام. التصميمات الحالية، حتى وإن لم تكن مثالية، فهي مقبولة. 

وحتى لو أردنا استخدام تصاميمنا الداخلية الآن، فلن نتمكن من إخراج عمل قياسي بهذه السرعة.”

في الأحوال الطبيعية، لم يكن ليتجرأ على الحديث بهذه الطريقة مع تان يوي. 

لكن الإرهاق والتوتر جعلاه يتجاوز حدود التحفظ.

أضاف بنبرة تتحدى:

“ألم تطلب من شريكك أن يتولى الأمر؟ 

إن كان فعلاً بهذه الكفاءة، فليقدّم لنا شيئًا ليس رديئًا، بل يُبهر الجميع.”

كان قد عرف من دردشة سابقة مع سونغ لين تشو عبر ويتشات أنه يدرس تصميم المجوهرات. 

ورغم أن الكلمتين تصميم تكررتا، إلا أن الفارق بين تغليف المنتجات وتصميم المجوهرات، كالفارق بين الرياضيات والكيمياء.

ولذا لم يكن يتوقع أن يتمكن سونغ لين تشو من تقديم تصميم يعتد به في وقتٍ قصير كهذا.

لكن تان يوي لم يقل شيئًا، بل ألقى بالأوراق التي كانت في يده على الطاولة أمامه بصوت حاد.

“انظر بنفسك.”

تناول الرجل الأوراق بشيء من الازدراء، لكن ما إن وقعت عيناه على الرسومات، حتى تقلصت حدقتاه من الدهشة.

راح يقلب الصفحات واحدة تلو الأخرى، 

وعيناه تتسعان تدريجيًا بدهشة متزايدة.

ولم يكن ذلك غريبًا، فتصميم سونغ لين تشو كان فعلاً مذهلًا.

كان موضوع المنتج الجديد هو ' الربيع '، وقد جسد التغليف هذا المفهوم بدقة مدهشة. 

كل زخرفة ونقش لها أصل، وكل تفصيلة متصلة بثقافة الشركة، ما كشف عن نية تصميم مدروسة وواعية.

بالمقارنة مع هذا، كان وصف تان يوي لتصاميم الشركة الخارجية بأنها سطحية مجرّد لطف. 

ففي المعتاد، لكان قال بصراحة: 

“كومة من ورق النفايات”.

سأل تان يوي بنبرة هادئة بعدما أنهى الرجل تصفح الأوراق:

“هل وسّع نظرتك للأمور؟”

أجابه الرجل، وهو يمسح عرقًا بدأ يتجمع على جبينه:

“نـ نعم، فعل.”

كان قد استغل سونغ لين تشو كدرع بشري، ظنًا أن تصميمه سيكون ضعيفًا، ما سيجعل تان يوي أقل صرامة في أحكامه.

لكن الأمور لم تسر كما ظن.

سونغ لين تشو، ذلك الشاب الذي يُفترض أنه دارس تصميم مجوهرات، كيف له أن يتفوق على متخصصين محترفين؟

بعد حفل الشركة السنوي، ظل كثيرون يتهامسون عن شريك رئيسهم، ويخشون أن يكون مجرد مزهرية جميلة، لا يعرف إلا التأنق، مثل زوجات الأثرياء اللواتي لا يجيدن سوى التباهي بالثروة والتزين لأزواجهن.

لكن مع صدور هذا التغليف، سيضطر كثيرون لمراجعة أحكامهم.

سأل الرجل أخيرًا:

“هل سنعتمد تصميم السيد سونغ إذن؟”

رد تان يوي بهدوء:

“ارفعه إلى مجموعة المشروع، ودع الجميع يصوّت.”

في الحقيقة، كان بوسعه أن يتخذ القرار بمفرده، وربما بعد التشاور مع بعض المدراء التنفيذيين فقط. لكنه لم يرد أن يُعتمد تصميم سونغ لمجرد أنه شريكه. 

كان يريد أن يثبت جدارته بموهبته، لا بعلاقته.

أومأ المسؤول بسرعة وقال:

“حسنًا، سأقوم بمسحه ضوئيًا الآن.”

حاول سونغ لين تشو طوال هذا الوقت أن يُبقي فمه و 'ذيله ' في وضعية الصمت والانضباط، غير مشاركين في لحظة الانتصار هذه أمام أشعة الشمس – أو بالأحرى، أمام نظرة تان يوي.

رمش بعينيه وسأل:

“جيجي، هل نجحت؟”

توقف تان يوي لحظة، ثم نطق بأربع كلمات فقط:

“أنت رائع فعلًا.”

ابتسم سونغ لين تشو فورًا وقال مبتسمًا بمكر:

“يعني طلاب الجامعة أفضل من الخنازير، صحيح؟”

تان يوي: “…”

نظر إليه سونغ لين تشو، وقد بدا أن كلماته أذهلت تان يوي لدرجة الصمت، ثم وقف من الكرسي بسعادة:

“تابع عملك، جيجي.”

كان يعلم أن تان يوي مشغولٌ للغاية، ولم يُرد أن يشغله طويلًا. لكنه لم يغادر أيضًا، بل بقي في المكتب. أراد مراقبته، مراقبة متسللة. الآن وقد انتهى من مهمة تصميم علبة التغليف، يمكنه أن ينتظر حتى ينتهي تان يوي من اجتماعاته ليرتاح.

طلب تان يوي من المساعد أن يقوم بمسح رسومات التصميم، وعندما رفع رأسه من الشاشة، رأى سونغ لين تشو يراقبه وكأنه رئيس عمّال.

دفع كوب القهوة الفارغ تجاهه وقال:

“حضّر لي كوب قهوة. بدون سكر.”

“حسنًا.” أمسك سونغ لين تشو الكوب، لكنه لم يتمالك نفسه وأضاف:

“لكن الإكثار من القهوة مضر.”

ردّ عليه تان يوي مازحًا:

“أعلم، أيها الرئيس.”

فاحمرت أذنا سونغ لين تشو فورًا من شدة الخجل من هذه المزحة، فاستدار مسرعًا نحو الباب.

تابعه تان يوي بنظره، وشفتيه ترتسمان بابتسامة خفيفة، لكن فجأة… رأى ثلاثة ' سونغ لين تشو ' وهم يبتعدون. 

هز رأسه، ثم مدّ يده إلى طرف المكتب محاولًا الجلوس على الكرسي.

لكن الكراسي أصبحت فجأة تتضاعف في عينيه، سبعة أو ثمانية منها تترنح.

ثقل في رأسه، وكأن العالم يضغط على جمجمته بآلاف الأرطال.

في تلك اللحظة، أدرك تان يوي أنه ينهار.

كان سونغ لين تشو يحمل كوب القهوة في طريقه إلى الخارج، وحين همّ بإغلاق الباب خلفه، التفت بلا وعي إلى الداخل… وما رآه جعله يشعر وكأن روحه قد سُحبت من جسده.

تان يوي كان يسقط أرضًا!

“جيجي!!”

اندفع سونغ لين تشو عائدًا بسرعة، لكن سرعة سقوط تان يوي كانت أسرع من ردّة فعله.

ارتطم جسده الثقيل بالسجادة السميكة، 

ودوّى صوت مكتوم في الغرفة… “طخ!”

مستشفى آيكانغ.

حين وصل الجد تان وعمه تاو يون لي، كان تان يوي لا يزال في غرفة الطوارئ. 

وقد تم إرسال كل المديرين التنفيذيين والمساعدين الذين تبعوه إلى منازلهم. والآن، لم يبقَ في الخارج سوى سونغ لين تشو وتشينغ بين.

كان سونغ لين تشو جالسًا على الأريكة أمام غرفة الطوارئ، وعيناه محمرتان.

سأله الجد تان بقلق:

“شياو لين، كيف حال آه يوي؟”

في تلك اللحظة، كان سونغ لين تشو لا يزال في حالة صدمة. صمت برهة، ثم تمتم أخيرًا:

“قال الطبيب إنه ليس في خطر مباشر على حياته.”

تنفّس الجد الصعداء. لقد سمع عن حالات وفاة مفاجئة بسبب الإرهاق الزائد، فطمأن سونغ لين تشو، الذي بدا شارد الذهن:

“لابد أن السبب هو الإجهاد المفرط. 

لا تقلق، لقد تجاوز الأمر سابقًا، وسيتمكن من تجاوزه هذه المرة أيضًا.”

“مم…” أجاب سونغ لين تشو بصوت مختنق.

الآله وحده يعلم كم كان خائفًا حين رأى تان يوي ينهار أمامه. 

لم يعد يتذكر كيف استدعى الناس، ولا كيف اتصل بالإسعاف، ولا حتى كيف وصلا إلى المستشفى. 

كل ما بقي في ذهنه هو تلك اللحظة… لحظة سقوط تان يوي.

لطالما كان يعلم أن تان يوي يُرهق نفسه أكثر من اللازم، وكان يتوقع أن ينهار في أي لحظة… لكن حين تحولت الفرضية إلى واقع، لم يكن مستعدًا، ولم يستطع التماسك. 

شعر بالخوف، بالقلق، بل بشيء أشبه بالرعب.

قال العم تاو يون لي أيضًا:

“نعم، لا تقلق. ثق بالطبيب. سيكون بخير.”

وفي تلك اللحظة، انفتح باب غرفة الطوارئ، ودُفِع السرير المتنقل للخارج. 

كان تان يوي لا يزال فاقد الوعي، حاجباه معقودان كأن عقله يرفض أن يستسلم للراحة.

تجمّع الجميع حوله…

خلع الطبيب كمامته وقال بصوت مطمئن:

“لا داعي للقلق. السيد تان تعرّض لصدمة ناتجة عن انخفاض سكر الدم بسبب نقص الغذاء والإجهاد العقلي المكثف الناتج عن الإفراط في العمل. مشكلته الصحية القديمة أيضًا عاودت الظهور بسبب اضطراب مواعيد الأكل. رغم أننا استخدمنا أدوية لتثبيتها، إلا أنه يجب التعامل معها بجدية.”

كانت المشكلة الصحية القديمة لدى تان يوي هي التهاب المعدة. 

وكان من المعروف أن عادته في تناول الطعام كانت فوضوية لدرجة أنه أحيانًا يأكل وجباته الثلاث دفعة واحدة. لم يكن هذا مفاجئًا.

لكن سونغ لين تشو لم يكن يعلم ذلك.

عضّ شفتيه وغمغم، رغم أنه كان يتوقع الأمر:

“هل له علاج؟”

أجاب الطبيب:

“لا يمكن القول إن له علاجًا جذريًا. 

عليه فقط أن ينتظم في طعامه ويحافظ على صحته. إن التزم بنظام غذائي منتظم، فلن تتكرر النوبات بسهولة.”

ولو لم يكن ذهن سونغ لين تشو مشوشًا بالقلق والخوف، لربما أدرك أن ما قاله الطبيب ليس دقيقًا تمامًا. فليس هناك مرض مزمن لا يعود إذا اتبعت نظامًا غذائيًا فقط. 

لكن عقله كان مشغولًا بالكامل بقلقه على تان يوي، فلم يستوعب سوى الشطر الأول من الجملة.

أومأ برأسه وقال:

“فهمت، شكرًا لك يا طبيب.”

ذهب تشينغ بين لإتمام إجراءات الإدخال إلى المستشفى.

أما الجد تان وعمه تاو يون لي فقد بقيا لبعض الوقت، ولكن بعد أن أخبرهم الطبيب أن تان يوي لن يستفيق قريبًا، قررا العودة وطلبا من سونغ لين تشو وتشينغ بين أن يبلّغاهما بأي جديد.

كان تشينغ بين ينوي في البداية أن يقنع سونغ لين تشو بالعودة إلى المنزل للراحة، لكن الأخر أصرّ بعناد على البقاء، فلم يُلحّ عليه أكثر.

كان من الواضح أن تان يوي قد استُنفد حتى آخر رمق. ظل فاقدًا للوعي أول الأمر، ثم ما لبث أن غرق في نوم عميق، بمساعدة المهدئات التي تم ضخها في وريده.

نام حتى صباح اليوم التالي.

حين فتح تان يوي عينيه، كان أول ما وقعت عليه عيناه هو رأس مكسو بشعر ناعم بجانبه. 

كان الشاب نائمًا فوق بطانيته، ونصف وجهه مدفون في القماش الأبيض. 

خصلات شعره السوداء تتناثر على الغطاء، وذراعه تحت رأسه، وأصابعه الرفيعة نظيفة ومنحنية قليلاً، وكأنها بقعة حبر مرسومة بريشة فنان قديم.

لكن صاحب تلك الملامح لم يكن نائمًا بعمق. حاجباه كانا معقودين، دليل على قلقٍ دفين.

تذكّر تان يوي ملامح الرعب التي ارتسمت على وجه سونغ لين تشو حين اندفع نحوه قبل أن يسقط مغشيًا عليه. لا بد أنه أرعبه.

شعر بالذنب، فمد يده بلطف وربّت على شعره.

كان سونغ لين تشو عادةً ينام بعمق، لكن هذه الحركة الصغيرة كانت كفيلة بأن توقظه. 

رفع رأسه بسرعة، والتقت نظراته بنظرات تان يوي.

“جيجي، استيقظت! 

كيف تشعر؟ 

هل يؤلمك أيّ موضع؟”

قال تان يوي بصوت مبحوح:

“أنا بخير… فقط عطشان قليلًا.”

أسرع سونغ لين تشو ليصب له كوبًا من الماء الدافئ.

شرب تان يوي كوبين دفعة واحدة، ثم سأل:

“ماذا حدث لي؟”

كان سونغ لين تشو لا يزال متأثرًا وخائفًا، فأجابه بقصد التهويل:

“نوبة من مرضك. لا علاج له. قال الطبيب إنك إن أرهقت نفسك مرة أخرى دون نوم، ستموت.”

“…”

ضحك تان يوي بخفة، وقد شعر بالأسف:

“آسف… أخفتك.”

رمى سونغ لين تشو نظرة جانبية عليه وجلس بجانب السرير، وعيناه في الأرض:

“تعلم أنني أقلق عليك… ومع ذلك لا تهتم بنفسك.”

كان صوته منخفضًا. 

توقّف تان يوي لحظة، ثم مد يده وأمسك يد سونغ لين تشو الموضوعة على ركبته وقال بصوت خافت:

“كانت مجرد حادثة، أعدك أنها لن تتكرر.”

لكن من يصدق ذلك؟! 

لا يمكن الوثوق حتى بعلامة الترقيم في كلام رجلٍ مثل هذا!

خفض سونغ لين تشو رأسه ولم يرد. 

اعتقد تان يوي أنه لا يزال غاضبًا، وهمّ بقول شيء، لكنه شعر فجأة بقطرة دافئة تهبط على ظهر يده.

كانت دمعة.

صُدم تان يوي.

هل كان… يبكي؟

كان هذا أشد وقعًا على قلبه من الصراخ أو التجاهل.

وكأن شيئًا انكسر داخله فجأة، وتدفقت مشاعر دافئة اجتاحت صدره، كأشعة الشمس التي تدخل من النافذة وتملأ الغرفة.

تلك المشاعر الدفينة التي لم يكن واعيًا لها، انفلتت مثل خيوط رقيقة ونشطة.

مدّ يده ومسح طرف عين سونغ لين تشو.

“لا تبكِ…” قالها بصوت منخفض، “أنا حقًا بخير.”

“من قال إنني أبكي؟!” ردّ سونغ لين تشو بسرعة، وهو يمسح عينيه بعشوائية، ثم استدار وقال بغيظ:

“أيها الرجل الفولاذي الغبي! أتمنى أن تموت بسرعة حتى أصبح أرملًا غنيًا وأجلب شابًا صغيرًا لطيفًا وحنونًا… و…”

لكن قبل أن يُكمل، تجمّد في مكانه.

كان تان يوي قد احتضنه من الخلف، جسده دافئ ومشتعل، يلفه بعمق.

أراد سونغ لين تشو أن يتملص غريزيًا، لكن ذراعي تان يوي شدّتاه بقوة.

كان يحتضنه وكأنه كنز حياته الأثمن، وكأنه يريد أن يُذيب جسده فيه.

“أنا آسف…”

كانت أنفاسه قريبة من أذنه، صوته عميق، يحمل رعشة خفيفة تُحرّك كل شيء.

في البداية، حاول سونغ لين تشو المقاومة، لكن جسده ما لبث أن استرخى تدريجيًا، وأسند رأسه إلى صدره.

وبعد لحظات، استدار واحتضنه هو الآخر.

هل وجدت خطأ؟ قم بالإبلاغ الآن
التعليقات

التعليقات [0]