🦋

المهمة على الأرض كانت… سخيفة ببساطتها، لدرجة أنها بدت وكأنها من المستوى F، وكان الهدف منها جمع عشرين عيّنة نباتية.

اشبه بلعبة أطفال. 

سهلة لدرجة أن أي غريب عن الأرض يستطيع إنجازها، فكيف بـ شي تشينغ، وهو ابن الأرض نفسها؟!

لكن…

ما لم يلاحظه شي تشينغ هو تفصيل بالغ الأهمية يتعلق بالشخصية التي انتقل إليها.

لقد تحوّل إلى قط.

لم يبدُ ذلك مزعجًا له كثيرًا.

فالفارق بين الباندا والقط ليس كبيرًا من وجهة نظره.

كلاهما ليس بشريًا، وهو يتأقلم بسهولة.

لكن… مضيفه؟

استدار شي تشينغ ببطء، وهو يلف برأسه المكسوّ بالفرو، لينظر إلى القط الأسود الأنيق الجالس بجانبه.

فراؤه اللامع، وضعية جسده الرشيقة، وعيناه الزرقاوان العميقتان—أقرب إلى محيطٍ هادئ من أن تكون أعينًا ذهبية كالعادة—كانت تشعّ بسحر لا يُقاوم، مثل خرزٍ زجاجي أزرق صافٍ.

يا له من قط جميل بشكل لا يُصدّق!

وبينما فكّر في مضيفه، كادت حدقة شي تشينغ العمودية أن تنفجر بفقاعات وردية من الحماس.

كما هو متوقّع…

حتى بعدما أصبح قطًا، لا يزال مضيفه أروع قط في الكون!

القط الوحيد الذي أسر قلبه من النظرة الأولى!

في البداية، شعر بشيء من الرهبة، أما الآن…

فلم يتبقّ سوى حماس طفولي صادق.

انحنى شي تشينغ للأمام، وفتح فمه ليتحدث مع القط الآخر.

لكن ما خرج كان:

“مياو… مياو مياو… مياو مياو مياو…”

صوت هريرةٍ ناعم، أشبه بصوت هِرٍ وليد.

وقد أثار ذلك الصوت ارتجافة خفيفة في شوارب القط الأسود.

أراد شي تشينغ قول المزيد، لكن قبل أن يتمكن، اقترب منه القط الأسود، خفض رأسه، ثم التقطه بلطف من قفاه.

فُوجئ شي تشينغ حين ارتفع عن الأرض فجأة، وقبل أن يستوعب الأمر، انقلب جسده واستقر على فراء القط الأسود الناعم.

مواء مواء… مواء؟!

لكن القط الأسود تجاهله تمامًا.

مواء مرة أخرى… لا استجابة.

قفز القط الأسود للأمام برشاقة، دون أن ينبس بكلمة.

لم تكن سرعته بطيئة، ما دفع شي تشينغ إلى أن يثبت نفسه سريعًا خوفًا من أن يقع على الأرض بشكلٍ مخزٍ!

أثناء سير القطين، مرا بجانب واجهة زجاجية ضخمة لمتجر.

وهناك، رأى شي تشينغ أخيرًا صورته في الانعكاس.

قط أسود رشيق، يمشي بأناقة كالنمر،

وعلى ظهره كرة فرو بيضاء صغيرة، لا تكاد تُرى، بحجم كف اليد.

صعب معرفة نوعه، لكن فراءه الكثيف والناعم كان كافيًا ليجعل أي أحد يمدّ يده ليلامسه.

تباين لونيّ مبهر—أبيض نقيّ على أسود فاحم—مع هيبة في الخطى وهدوء في الحركة.

لم يستطع المارّة تجاهلهما، لا سيما الفتيات اللاتي تجمّعن حولهما بحماسٍ شديد:

“يا له من مشهد رائع! أب يحمل ابنه! لكن… أليس من المعتاد أن تحمل القطط صغارها من القفا؟ لماذا هذا القط يحمله على ظهره؟”

“الأهم من الطريقة هو المظهر! 

إنه لطيف إلى درجة لا توصف!”

“انظروا كيف يستلقي القط الصغير بهدوء… كأنه ملاك!”

“والقط الكبير وسيم! وقور ومهيب!”

“خطر في بالي الآن فكرة رواية جديدة! 

أب وابنه… والقط الكبير يتحوّل إلى إنسان! 

رجل قوي، حنون، يعتني بالقط الصغير الساذج! 

إنها علاقة سيّد وتابع مثالية!”

“سمعت أن لدى القطط أشواك في… أعني، عند التزاوج، يحدث شيء مثير…”

“كفّ عن هذا الكلام الفاضح! 

لكن… لا أنكر أن الفكرة مثيرة فعلًا.”

“تخيلوا معي القصة… يا لها من مادة دسمة للكتابة!”

“اخفضن أصواتكن! قد يتعرض أحدنا للعقوبة!”

أما شي تشينغ، الذي كان يسمع كل ذلك، فقد ارتعد جسده.

رغم مرور الزمن، فإن فتيات وطنه لا يزلن كما كنّ: مرعبات، وخيالهن جامح على نحو لا يُطاق!

إنهما مجرد قطين! قطان لا أكثر!

أب وابن؟ علاقة سيّد وتابع؟ أشواك؟!

ويا للعجب، منذ متى يمكن لقط أسود أن ينجب قطًا أبيض؟!

لكن، بما أنه لا يستطيع الحديث بلغة البشر، لم يكن أمامه سوى أن يُطلق مواءً خافتًا ويواصل استلقاءه على ظهر مضيفه في استسلام.

منذ تحوّله إلى قط، لم ينطق مضيفه بكلمة واحدة.

لولا أن شي تشينغ كان متأكدًا من هويته، لظنّ أنه قط عادي.

كان يتمنى سماع مياو واحدة منه.

لا شك في أن صوته سيكون آسِرًا.

ربما… ربما لا يحب أن يصدر صوتًا كهذا؟

فجأة، تخيّل شي تشينغ مضيفه وهو على هيئة بشرية بأذني قطة، يطلق مواءً خافتًا محرجًا، والخجل يغمر وجهه…

ارتفع ضغط دمه فجأة، وكاد ينزف من أنفه.

لكن خياله توقّف فجأة، حين استدار القط الأسود إلى أحد الشوارع، ليدخل طريقًا مألوفًا جدًا.

وفور أن رأى شي تشينغ المكان، انقبض صدره.

إنه طريق العودة إلى المنزل.

اجتاحه ذلك الشعور المعهود—كلما اقتربت من المنزل، زاد التوتر.

ثم، حين وقع بصره على الرجل الذي أقبل من بعيد، تجمّد.

كان شابًا طويل القامة، يرتدي قميصًا داكنًا، 

وسروالًا أسود أنيقًا، ومعطفًا أسود يكسو كتفيه.

رغم بساطة ملابسه، كان يتمتّع بحضور طاغٍ، قويّ، مهيب، رجل نضج قبل أوانه.

لم يعد فتى صغيرًا، بل ربّ أسرة.

تمتم شي تشينغ في قلبه:

“شي يوي… أخي الأكبر… مضى وقت طويل.”

قفز القط الأسود على حائط قريب، ليمنحه رؤية أوضح.

كان شي يوي قد خرج لتوّه من السيارة، ثم فُتح الباب الخلفي، وخرجت منه امرأة نحيلة، بيضاء البشرة، ترتدي فستانًا أسود بسيطًا أنيقًا.

وما إن التفتت، حتى تعرّف عليها شي تشينغ فورًا.

يا تشينغ جي.

كانت حبيبة أخيه منذ أيام الجامعة، لكن بسبب ظروفه، لم يتزوجا قط.

أما الآن… فربما باتا معًا أخيرًا.

وبينما هو شارد، خرج من المقعد الخلفي طفل صغير، في الخامسة أو السادسة من عمره، ممتلئ الذراعين والساقين، يرتدي معطفًا مخططًا بالأبيض والأسود، وعلى رأسه قبعة تحمل أذني باندا، ووشاحًا ناعمًا يحيط بعنقه.

قفز الطفل إلى حضن شي يوي، وزرع قبلة كبيرة على وجهه.

تجمّد شي تشينغ للحظة، ثم غمره شعور جارف بالفرح.

ذلك الطفل… ابن شي يوي!

لديه ابن!

لديه ابن!

لديه ابن!

ووالديه… أصبح لديهما حفيد.

الأسرة الصغيرة المؤلفة من ثلاثة أشخاص كانت قد خرجت لتوّها من السيارة، تستعد لقرع جرس الباب، حين انفتح الباب فجأة. 

ظهرت امرأة في منتصف العمر، تنحني عيناها برقة، تغمرها ملامح الحنان والدفء.

نظرة واحدة فقط كانت كافية؛ وما إن وقع بصر شي تشينغ عليها، حتى انهمرت دموعه بلا سيطرة، كأن الغيوم الثقيلة في قلبه أخيرًا أمطرت.

والدته… لقد رآها حقًا مجددًا.

ركض الطفل الصغير نحو جدّته، قفز في حضنها، وطبع قبلة كبيرة على خدها.

ازداد دفء ابتسامتها، وردّت له القُبلة بحنان، تمسح بيدها شعر حفيدها وكأنها تمسح غبار الفقد عن روحها.

فيما استغرقوا في الحديث، خرج والد شي تشينغ من الداخل.

في ذاكرة شي تشينغ، كان والده دومًا شامخًا، رجلاً قويّ البنية، كالجبال الراسخة، يبعث على الطمأنينة بمجرد وقوفه.

لكن الآن، كان ظهره منحنياً قليلاً، وعند صدغيه، تسللت خصلات من الشيب، كالطعنة في قلب الابن العائد من العدم.

اجتاحت الذكريات قلبه كمدٍّ جارف.

طفولته، مراهقته، حتى لحظاته الأخيرة قبل أن يلفظ أنفاسه،

كلها كانت مليئة بالحب والسعادة.

عائلة بسيطة، تخاصمهم الحياة أحيانًا، لكنهم يبقون قلبًا واحدًا، وروحًا واحدة، لا تفرّقهم الأيام ولا تقوى عليهم الأحزان.

حتى في النهاية، حين استسلم جسده للمرض، لم يستسلموا هم.

والده، والدته، أخوه، عائلته بأكملها، تمسكوا بأمل شفائه، تمنّوا له حياة سعيدة.

بينما كان شي تشينغ غارقًا في شروده، كانت العائلة قد صعدت إلى السيارة من جديد.

تحركت السيارة السوداء بهدوء، وعندها فقط حمل القط الأسود شي تشينغ، وانطلق خلفها دون أدنى عناء.

تابعها بدقة، حتى وصلوا إلى وجهتهم بعد قرابة الساعة.

وحين نزل الجميع من السيارة، أدرك شي تشينغ ما هو هذا اليوم.

إنه يوم ذكراه.

قبل تسع سنوات، خسر معركته مع المرض، ودُفن هنا.

وقفت العائلة أمام قبره في صمتٍ مهيب.

أغمض والداه أعينهما، يرفعان الدعاء بصمتٍ صادق، راجين أن يكون ابنهما في سلام، في عالم آخر بعيد.

كان شي تشينغ جامدًا، ينظر إليهم دون أن ينبس بكلمة،

حتى رأى دمعة تنزلق من عين أمه.

حينها فقط، انهار داخله.

دفن رأسه في فراء القط الأسود، وبكى بصمت.

رغم مرور كل هذه السنوات،

لا يزال حيًّا في قلوبهم.

مهما امتد الزمن،

مهما فرّقتهم الحياة والموت،

فهم عائلة.

وسيظلون يذكرونه حتى النهاية.

انتهى الطقس،

سارت يا تشينغ جي وهي تُمسك بذراع الأم،

وسار الأب إلى جانبها،

وشي يوي يسير خلفهما، يحمل الطفل الصغير بيده.

وقبل أن يختفوا تمامًا عن الأنظار،

لاحظ الطفل شيئًا من الزاوية.

كرة فرو بيضاء صغيرة.

اقترب بهدوء، عيناه مستديرتان، متألقتان بالدهشة، نظر إلى القط الأبيض الصغير وقال:

“لماذا تبكي؟”

ارتبك شي تشينغ.

مدّ الطفل يده، ربت على ظهره بلطف وقال:

“لا تخف… هل ترغب في العودة معي إلى المنزل؟”

في الثالث عشر من نوفمبر، في الذكرى التاسعة لوفاة شي تشينغ،

رحّبت عائلة شي بعضوين جديدين.

مو مو وشياو باي.

قط أسود وقط أبيض، أحضرهما الطفل الصغير، شي تان، إلى المنزل.

هذان القطّان الأسطوريان، بقيا مع عائلة شي لسنوات طويلة.

حتى حين انتقلوا إلى منزل جديد، وكبر شي تان،

ظلّ الجميع يروي قصّتهما.

كان القط الأبيض لطيفًا، وهادئًا، يملأ أيام والدي شي بالسعادة.

أما القط الأسود، فلم يُظهر يومًا دلالًا، ولم يصدر صوتًا قط،

لكنه كان دومًا قريبًا من القط الأبيض، ليلًا ونهارًا، لا يفارقه.

هذان القطّان الذكيّان رافقا الوالدين في شيخوختهما،

وساعداهما، بصمت، في تجاوز جرح الفقد.

لم يتخيّل شي تشينغ قط أنه سيعود إلى منزله بهذه الهيئة،

لكنه…

كان سعيدًا بعمق.

لقد عاد إلى جانب والديه،

وأصبح بإمكانه إسعادهما، ولو بطريقة بسيطة،

أن يبقى معهما… دون أن يغادر مجددًا.

بصفته قطًا، أتمّ مهمته الأخيرة: أن يحمي عائلته، مرة أخيرة.

أبي… أمي… لقد عدت.

أنا هنا الآن.

دعوني هذه المرّة، أعتني بكما.

في فضاء النظام.

لا يزال شي تشينغ يشعر بفراغٍ في داخله،

حتى تحدث تشين مو أخيرًا، بعد ثلاثين سنة من الصمت.

مرر أصابعه على عنق شي تشينغ بلطف، 

وقال بصوتٍ منخفض، أجش:

“تشينغ تشينغ…”

رفع شي تشينغ رأسه، مصدومًا للحظة،

ثم نظر إليه، فرأى في عينيه العميقتين انعكاس شخصٍ واحد فقط—هو نفسه.

ابتسم شي تشينغ، ووقف على أطراف أصابعه،

ثم قبّله على شفتيه.

“شكرًا لك، تشين مو.”

تعمّقت القبلة، أصبحت طويلة، دافئة، حميمية.

وبينما كانا متعانقَين،

همس شي تشينغ في أذن تشين مو، بكلماتٍ كانت كافية لتمنح قلبه سلامًا أبديًا:

“ليس لي سواك. لا تتركني.”

نملك بعضنا البعض.

وذلك…

كافٍ تمامًا.

[ النهاية. ]

هل وجدت خطأ؟ قم بالإبلاغ الآن
التعليقات

التعليقات [0]