الفصل 99 – إضافي: ماضٍ غابر (2)
بعد سنوات طويلة، حين بدأ شي سيان في فحص أعماق قلبه، أدرك أنه ربما منذ تلك اللحظة، لم تعد عبارة
' أنا أحب الرجال ' كذبة،
بل كانت بداية حقيقة لم يعترف بها.
لكن في ذلك الوقت، كانا يعيشان في عالمين مختلفين تمامًا.
كانا من النوعين الذين لا يلتقيان في المدرسة.
مرات لا تُحصى كانا يمران ببعضهما في الفصل،
في خطابات العلم الأسبوعية تحت العلم الوطني،
أو يلتقيان في الطريق.
لم يكونا غريبين تمامًا، بل كانا أشبه بغرباء مألوفين.
هذا النوع من الألفة، كان كأنه تفاهم صامت.
على سبيل المثال، كان شي سيان يعلم أن تشين مو، تحت كل تلك التسميات مثل :
“تقليد يانغ شو لي”
“الطالب المنقول البارد الذي يدفن رأسه في الكتب”
”الشاب الحقيقي الذي تم تبادله خطأً في عائلة غنية”
كان يطعم القطط الضالة خلف الجبل في المدرسة بعد الظهر، وكان يركب الحافلة من محطة محددة بعد أن يشتكي سائق عائلة يانغ من تأخره في مغادرة الفصل كل يوم، وكان ينتقم بمرارة من خلال حبس يانغ شو لي في غرفة وإشعال علبة سجائر كاملة فيها.
كان يانغ تشي يشتكي بغضب: “إنه ببساطة غير معقول!”
“قلت له ألا يدخن، ففعل هذا! فقط لأن شو لي في الليلة السابقة أخطأ في حقيبته وظن أنها قمامة وجعل الخادمة تتخلص منها! إنه حقًا بارع في إثارة الغضب، ما فعله لا يقل عن قلب الطاولة في العشاء، وإحراج الجميع أمام الوالدين، ودفع الخدم للبكاء والتهديد بالاستقالة، إنه حقًا، حقًا…”
ربما لم يدرك يانغ تشي، وسط شكاواه المتكررة، مدى اهتمامه الحقيقي.
الأمر نفسه ينطبق على والدي عائلة يانغ.
لم يدركوا أن اعتقادهم بأنهم يعاملون الجميع بالتساوي، كان في الواقع تجاهلاً جعل منزل يانغ في حالة من الفوضى.
كان شي سيان يراقب ببرود، لكن تلك السنة كانت أيضًا الفترة التي زار فيها منزل يانغ أكثر من أي وقت مضى.
السبب لم يكن سوى حفلات الزملاء التي نظمها يانغ شو لي، والزيارات المتبادلة بين الكبار، ومختلف الحفلات الأخرى.
أما تشين مو، فكان يعرف شي سيان من خلال مواقف مثل حفلة عيد ميلاد، حيث فتح الباب بالصدفة ورأى يانغ شو لي يحاول تقبيله، فابتعد شي سيان وقال باندفاع: “اللعنة”.
أما عن تلك العبارة “اللعنة”، فقد فهمها تشين مو على أنها نفور من رؤيته لهما معًا، وكأن شي سيان قد انزعج لأن الأمر كُشف أمامه.
لكن الحقيقة؟
نعم، لقد كان الأمر كذلك… لقد انزعج فعلًا، لكن ما آلمه أكثر أنه هو بالتحديد من رآه في تلك اللحظة.
هو الذي اقتحم المشهد.
هو الذي كُشف أمامه ما لا يجب أن يُكشف.
لقد تكررت بينهما مثل هذه اللحظات كثيرًا —
في منزل يانغ، وفي منزل شي، في أروقة المدرسة،
وفي أماكن متفرّقة كثيرة.
يلتقيان…
تتلاقى أعينهما لثوانٍ، ثم يمضيان في طريقين متوازيين، دون أن يقترب أحدهما من الآخر،
غريبان… لكن مألوفان.
وكأن كليهما يعرف الآخر بقدر كافٍ ليتجاهله.
لا ألفة، ولا عداوة.
لا ود، ولا عداء.
مجرد نظرات صامتة تمر، كأنها لا تريد أن تُخلّف أثرًا.
حتى جاء يوم المسابقة.
وكان ذلك في النصف الأول من السنة الثالثة من المرحلة الثانوية —
حين بدأت الملامح تتغيّر، والخطوط التي تفصل بينهما تتصدّع بصمت
ذلك المصير المتوقع، وتلك النتيجة المحتومة، كانت كفيلة بأن تفتح له باب الخروج من حياة المرحلة الثانوية بلا رجعة.
لكن لحظة واحدة من التردد…
كانت كافية لأن تفتح عينيه على حقيقة لم يكن يعيرها انتباهًا — حقيقة ترسّبت بهدوء، نبتت دون أن يشعر، حتى أصبحت جزءًا منه
قال تشي لين:
“يا شي، ما الذي دهاك مؤخرًا؟
تصعد إلى المنصة لتشرح الرياضيات،
وتوزّع علينا ملخصات الأسئلة المهمة بلا مقابل!
لقد صرت رجلًا فاضلًا بكل المقاييس!”
وأضاف آخر ساخرًا:
“رئيس الصف، مرة أخرى كنت آخر من غادر الفصل أنت وتشين مو، أليس كذلك؟
من الطبيعي أن يُجهد نفسه، أما أنت، فهل تنوي أن تدفع بنا إلى الهلاك بمنافستك؟”
وتساءل يانغ شو لي بدهشة خبيثة:
“أأنت و تشين مو عدتما معًا اليوم؟ هذا أمر غير مألوف، أليس كذلك، شي؟”
هل كان صعوده إلى المنصة فقط تلبيةً لرغبة طلاب الصف التجريبي؟
هل تأخّره في الفصل كان لأجل تسليم المفتاح إلى المعلم لاو شيانغ؟
وهل اصطحابه لتشين مو إلى منزل يانغ كان محض صدفة بسبب مغادرة السائق؟
في تلك اللحظة، قرر الانسحاب من المسابقة.
عاد إلى المدرسة دون سبب واضح، واتخذ مجلسه المعتاد في الصف الأخير، وهناك، من زاويته المعهودة، أبصره مرة أخرى…
تشين مو، منكبٌّ على أوراقه، رأسه مطأطأ فوق المسائل، وفي لحظة خاطفة، شعر شي سيان بأن قلبه قد هدأ…
وشيئًا ما بداخله انكشف له جليًا.
كان شعر تشين مو لينًا لا جافًا،
وعندما تُسلّط عليه أشعة الضوء، يتّخذ في طبقاته العليا هيئة زغب ناعم.
“لِمَ هو دون سواه؟” — سؤال لطالما أرقه، لكنه في تلك اللحظة، وجد جوابه.
الذين وُلدوا في العُلى، تعوّدوا أن ينظروا إلى العالم من علٍ.
غير أن الصيّاد، حين يرق قلبه لمن كان عليه أن يصطاده، حين تنبض فيه مشاعر لا تليق بدوره، حين يتعاطف مع من لا يملك شيئًا…
تكون تلك بداية سقوطه.
قال لاو شيانغ له ذات يوم:
“لست أعلم ما الذي يدور في ذهنك، لكن البقاء في المدرسة لبعض الوقت ليس بالأمر السيئ.”
وقال تشي لين، متعجّبًا مما لاحظه:
“يا شي، أحقًا سألت عن سبب تأخّر تشين مو في المغادرة؟ غريب، مع أنك رئيس الصف، لا يلزمك أن تتودد إلى الجميع هكذا.”
ثم أضاف: “أظن أن تشين مو يحمل عداءً تجاهنا.”
“ولمَ؟”
“ألا تعرف؟ الجميع يعلم أن صلتك بيانغ شو لي تعود إلى الطفولة، وعلاقتهما متوتّرة حد القطيعة، كيف له أن يُظهر لنا وُدًّا؟”
قال آخر: “بل أظنه عليلًا حقًا، وجهه كان اليوم شاحبًا كالموتى.”
لقد أُصيب تشين مو بالحمّى.
كان يعرف جسده جيدًا، على نحوٍ يثير القلق.
فما إن انتهى الدرس، حتى توجّه مباشرةً إلى غرفة التمريض.
وحين دخل عليه شي سيان، كان قد غفا لتوّه.
قال طبيب المدرسة وهو ينظر إلى ميزان الحرارة متنهّدًا:
“أربعون درجة! أنتم طلاب السنة النهائية كأنكم تخوضون حربًا، لم أرَ أحدًا يتحمّل على هذا النحو من قبل.”
وكان البرد آنذاك قاسيًا، يلسع الأجساد كما يلسع الأرواح.
خلع تشين مو معطفه الأسود ووضعه جانبًا، وكان يرتدي سترة بيضاء تحتها.
كانت يده التي يتلقى فيها المحلول الوريدي مكشوفة، وكانت عروقه الزرقاء بارزة بسبب البرد.
جلس شي سيان بجانبه، وبقي جالسًا لمدة ساعتين، حتى بدأت حرارة تشين مو في الانخفاض تدريجيًا.
دخل طبيب المدرسة لتغيير الدواء وقال مبتسمًا: “ينام بعمق”.
قال شي سيان: “إنه متعب جدًا”.
أومأ الطبيب برأسه: “لا يوجد طالب في السنة الثالثة غير متعب، فقط اصبر وستمر الأمور”.
في ذلك الوقت، فكر شي سيان أن تعب تشين مو لم يكن فقط بسبب ضغط السنة الثالثة.
لاحقًا، اشترى وجبة ووضعها بجانبه، ثم غادر غرفة التمريض.
قبل خروجه، ناداه طبيب المدرسة وقال:
“ألن تنتظر حتى يستيقظ؟”
“لا حاجة”.
“ما اسمك؟ سأخبره عندما يستيقظ”.
لم يرد شي سيان، وخرج.
في ذلك الوقت، كان قد تلقى إشعارًا من العائلة بأنه سيسافر إلى الخارج بعد التخرج على أبعد تقدير.
في ذلك اليوم، لم يكن شي سيان يعلم كيف سيعرّف قراره هذا في المستقبل.
كان يعلم فقط أن تشين مو يرى شي سيان كشخص لا يختلف عن أبناء العائلات الرأسمالية الأخرى.
لا ينقصه شيء، ويمكنه الحصول على كل شيء بسهولة.
وربما كان أسوأ.
لأنه عرف أن الطفل في عائلة يانغ كان يُدعى يانغ شو لي منذ البداية، وليس ' يانغ شو لي ' الحقيقي.
كانت تلك لحظة من الغطرسة والتحامل.
لم يتنازل أحد.
ربما حاول شي سيان التنازل، لكن ذلك لم يكن كافيًا.
لم يكن كافيًا لجعل شخص محطم يضع حذره جانبًا، لم يكن كافيًا لجعله، بعد أن ارتدى دروعًا متعددة، يتخلى عن قواعد البقاء التي ترسخت في عظامه.
ذلك القرار بالتراجع خطوة واحدة.
جعل تلك الحدود ثابتة منذ ذلك الحين.
حتى نهاية امتحانات القبول الجامعي.
لم تكن درجات تشين مو في الرياضيات كافية لدخوله الجامعة التي كان يحلم بها.
في ذلك الوقت، كان شي سيان في الخارج، وفتح بريده الإلكتروني في منتصف الليل، ورأى كشف الدرجات الذي أرسله تشي لين، مع سؤاله في الهاتف:
“عندما طلبت من لاو شيانغ كشف الدرجات، ظن أنني أريد استخدامه لإهانة تشين مو، هل هذا عدل؟
ما قصتك؟ لماذا تهتم بدرجات تشين مو؟”
رد شي سيان: “لا شيء، فقط أسأل”.
قال تشي لين:
“بصراحة، لست وحدك من يتساءل كيف كانت نتيجته، الكل فضولي بطريقة أو بأخرى.
مع أنه كان محطّ سخرية عند الكثيرين، لكني سمعت أنه قبل امتحانات القبول كان قد اتفق مع عائلة يانغ على دخوله الشركة مباشرة.
ويقال إن شقيقه الأكبر من جهة يانغ كاد ينفجر غضبًا حين علم بالأمر.”
ضحك بخفة، ثم أردف:
“تخيّل، بينما كان الآخرون لا يزالون يلهون ويتضاحكون، كان هو يستعدّ لانتزاع السلطة.
أليس ذلك مدعاة للدهشة؟”
أما شي سيان، فردّ دون أن يفكر:
“ومن قال لك إن الأمر لم يكن من تدبير عائلة يانغ نفسها؟ حتى لو أخفق في الامتحانات، فالحياة ما زالت تمنحه طرقًا أخرى للاختيار.”
قال تشي لين بدهشة وفضول:
“تبًا، هل تعرف شيئًا لا نعرفه؟”
لكن ما كان شي سيان يعرفه، هو أن عائلة يانغ تعمّدت، قبيل الامتحانات، الإعلان عن مسألة الوريث الحقيقي للعائلة.
كان ذلك الإعلان، بالنسبة إلى تشين مو، أشبه بصبّ الزيت على النار.
عائلة يانغ لم تكن ترغب في أن ينازعهم أحد في شيء.
أما هو، بطبعه، فكلّما اشتدّ الرفض، ازداد إصرارًا على المواجهة.
لكن الطريق الذي اختاره…
كان محفوفًا بالشوك، موصدًا بأبواب متشابكة،
لم يزده الزمان إلا وعورة.
ومع ذلك، لم ينقطع أثره في السنوات التي تلت.
التحق بالجامعة، ثم دخل باكرًا إلى شركة يانغ.
دخل في صراع مرير مع يانغ تشي، صراع تردد صداه في أروقة الشركات ومجالس الإدارة.
وكانت بعض مجالات عمل أسرة شي تتقاطع مع مشاريع يانغ، فصار اسم تشين مو يتردّد كثيرًا في الساحة الاجتماعية، لا سيما في المؤتمرات واللقاءات الكبرى.
ولم يكن ذلك الاسم كما كان من قبل — فقد تبدّلت النظرة إليه عامًا بعد عام.
“ابن عائلة يانغ هذا يملك طموحًا لا يُستهان به، يريد أن يبتلع مشروع جنوب الصين بأكمله. أخوه الأكبر لم يكن يملك شهيّة كهذه قطّ.”
“تشين مو، لا يُنكر أحد كفاءته. كيف لا، وهو صعد من القاع حتى صار ندًا للمدير العام؟ وإن كانت وسائله قاسية بعض الشيء.”
“تشين المدير؟ رغم أنّ اسمه تشين، إلا أنه ابن حقيقيّ لعائلة يانغ. نعم، هم أقرّوا بذلك بألسنتهم. ويقال إن يانغ الشيخ العجوز، فخور به، رغم التوتر الذي يشوب علاقات العائلة.”
“اليوم، عائلة يانغ منقسمة بالنصف.
من سيربح؟ لا أحد يعلم.”
وسط كل هذه الهمسات والتوترات، أجرت عائلة شي تغييرًا داخليًا في قيادتها.
فعاد شي سيان، الوريث الجديد، إلى الوطن.
وفي سنوات عمله في الخارج، كثيرًا ما كان يسافر ذهابًا وإيابًا، متنقّلًا بين العواصم.
وفي مرات قليلة، لمح تشين مو من بعيد.
كان يراه تارةً يتقدّم بمرافقيه في صالات الاجتماعات، وتارةً يسرع نحو وجهةٍ أخرى.
سأله مساعده ذات مرة: “سيدي، ما الذي تنظر إليه؟”
قال بنبرة خافتة: “رجل من الماضي.”
ثم حوّل نظره، ومضى في طريقه، دون أن يلتفت مجددًا.
“رجل من الماضي”… لكنه حين جاء وقت اللقاء، لم يشأ أن يُظهر أي دلالة على ذلك.
لم يرغب بأن يعترف لنفسه، بعد كل هذه السنوات،
أنه ظلّ يراقب من بعيد، متخفّيًا خلف قناع الصدفة، بينما الحقيقة كانت في كل مرة نيةً خفيّة.
في منافسة بين عدّة شركات، كان اسم تشين مو يبرز بوصفه ممثلًا رسميًا لطرف من الأطراف.
في ذلك الوقت، كان يانغ شو لي يتدرّب كمتدرب في شركة شي سيان.
كيف دخل؟ بأي وساطة؟ كيف قدّم الأمر لعائلته؟
لم يكن شي سيان يعلم، ولم يرغب أن يعلم.
فقد مضت سنوات دون أن يجمع بينه وبين تشين مو حديثٌ خاص.
وحين انتبه لوجوده، كان قد أصبح موظفًا رسميًا.
ولأن شي سيان كان رأس الهرم، لم يكن من المقبول أن يطرد موظفًا صغيرًا دون مبرر.
هل لهذا السبب، بدا تشين مو فظًا معه على مائدة الشراب؟
أم كان السبب أن الزمن غيّر مواضع الندوب، لكن لم يُشفِها بعد؟
حين مدّ إليه الكأس، ولفّ ذراعه حوله، قال شي سيان في نفسه:
كم تمنّيت أن أتنفّس تنهيدة، لكنني لم أفعل.
كان العداء واضحًا، لم يعد يخفيه حتى مجاملة.
تشين مو ذلك العام… كان قد نضج.
لكنه نضج خشن، نضجت فيه الصلابة، وصار كمن أقام دروعًا من حديد داخل روحه.
كان وجهه أكثر حدةً من أيام شبابه، وفي حركاته سطوةٌ تُخيف من هم دونه، حتى وهو صامت.
ثم، فجأة، كان هو من سقط تحت وطأة الكأس.
سكر حتى الثمالة، وتهاوت عنه تلك القشرة الفولاذية، لتنكشف تحته ذاتٌ لا تزال تحاول أن تكون صلبة، لكنها مرهقة.
قال وهو يهذي، مستندًا إليه:
“شي سيان، إن كنت تسعى لتحطيمي، فلا بأس.
أنا، تشين مو، لم أرتجف من أحد في حياتي.”
“وأخبِر عشيقك الصغير، يانغ شو لي، أن يتوقف عن ألاعيبه خلف ظهري. لا أستطيع تحمّل سماع اسمه في كل وجبة… آ… يزعجني.”
“أما يانغ تشي، فذاك أحمق بكل ما تحمله الكلمة من معنى.”
كان يلهث وهو يمزّق ربطة عنقه، وقميصه قد انحلّ عن صدره، فكشف عن رقبته وعظمه، وعلى وجهه علامات الاحتدام.
“تلك العشرون بالمئة من الأسهم تعود للشيخ الكبير… أريد أن أرى كيف سيفوز.”
وبعد أن فرغ من انفعاله، خارت قواه تمامًا.
نزل من السيارة بصعوبة، كاد يسقط، فتعلّق بعنق شي سيان متشبثًا به ليتوازن.
حينها، بعد سنوات من الانقطاع، تواصل شي سيان مع زميله القديم، لاو غاو.
ردّ لاو غاو على الهاتف مذهولًا، حتى سقط فكه من الدهشة.
ولكن ما إن سمع أن تشين مو سكران، حتى قال بسرعة:
“سآتي حالًا. لكن… شي، حين يسكر تشين مو، لا يكون كما عهدته. أرجوك تحمّله. ثم إنه يعاني من قرحة شديدة في المعدة، سأجلب له دواءً.
أرجو أن تعتني به ريثما أصل.”
قال شي سيان بهدوء: “حسنًا.”
ولا يعلم إن كان هذا “حسنًا” بدت في أذن لاو غاو باردةً أو متحفظة.
لكنه لم يرغب في قول المزيد، لئلا يندفع شيء مما كتمه، ويظهر ما أخفاه طويلًا.
ربما آلمته معدته فجأة، فانفلت منه، ومال إلى الأرض جاثيًا.
وجلس شي سيان بجانبه، صامتًا، يرافقه بصبر…
كان جاثيًا على الأرض، رأسه منخفض، لا صوت يصدر عنه.
ناداه شي سيان بصوت هادئ: “تشين مو.”
لم يُجِب، ولم يرفع رأسه.
فعاد شي سيان يناديه مرة أخرى، باسمه ذاته:
“تشين مو.”
عندها فقط رفع رأسه.
كانت عيناه محتقنتين، متورّدتين بآثار الخمر،
وفي أعماقهما بريق ألمٍ صامت، يكاد يُكتم.
مدّ شي سيان يده، ووضعها برفق فوق موضع معدته، يحاول أن يخفف عنه شيئًا من الألم الذي يعصف بجوفه.
وتشين مو… لم يقاوم.
تركه يفعل ما يشاء، دون رفض، دون كلمة،
وكأن التعب قد سلبه القدرة على الرد.
تأمل شي سيان هامته المنخفضة، ثم قال بهدوء:
“المشروع الذي كنت فيه، لم أضع لك فيه عراقيل.
أنت تعلم ذلك، أليس كذلك؟”
هزّ تشين مو رأسه بإيماءة خافتة: “أعلم.”
ثم تابع شي سيان قائلاً:
“ويانغ شو لي… لم يكن يومًا عشيقي.
لم يتجرأ حتى أن يناديني بـ ' آ يان ' وجهًا لوجه.
هو لا يملك تلك الشجاعة.”
ردّ تشين مو ببرود: “آه، فهمت.”
قالها دون اهتمام، لكن الغصة لم تفارقه.
سأل شي سيان بعدها، بصوت فيه ما يشبه الرجاء:
“فهل يمكنك أن تتوقف عن معاملتي بتحامل؟”
رفع تشين مو حاجبيه قليلاً، وقطّب جبينه، ثم قال ساخراً:
“ومن تكون أنت؟”
شعر شي سيان برغبة في وضع يده على جبينه، لكبح الإحباط.
كان يعلم أن الحديث مع رجل مخمور، بهذا الحال، لا يجدي.
لكن… لم يستطع أن يصمت.
كل ما كتمه لسنوات، لم يفتر، لم يخمد.
كان مثل شتلة صغيرة ظنّها الزمن ستذبل، لكنها نبتت في الظلّ، ونمَت، وتمددت، حتى أصبحت شجرة باسقة تضرب بجذورها في قلبه.
رفع يده إلى رأس تشين مو، مرّر أصابعه بين خصلاته.
كان شعره أكثر خشونة مما تخيّله في أيام الصبا، وخز أطراف أنامله بخشونته، وكأنما أراد أن يترك أثرًا ملموسًا في راحة يده.
قال شي سيان، صوته مشوب بأسى عميق:
“هل يجب أن ترهق نفسك إلى هذا الحد؟”
رفع تشين مو جفنه بصعوبة، وبتعبٍ واضح، نظر إليه وقال:
“لأنني إن لم أفعل… فلن أملك شيئًا.
لا، في الواقع، لم أملك شيئًا من البداية.
منذ أول الطريق، لم يكن لي شيء قط.”
وفي تلك اللحظة، شعر شي سيان بما يُسمّى:
الوجع الحقيقي.
وجع لا يُحتمل.
كأن كلماته لم تكن مجرد حديث سُكر، بل اعترافًا صارخًا، مرًّا، مستسلِمًا.
رفعه عن الأرض، حمله إلى كتفه،
بينما كان جسد تشين مو قد خارت قواه تمامًا،
وانزلق رأسه ليستقر عند عنق شي سيان، ساكنًا، لا حركة فيه.
وفي تلك اللحظة، همس شي سيان بجدية لم يسبق لها مثيل: “لايمكن”
لن يكون الأمر كذلك.
لن تظلّ بلا شيء.
من هذه اللحظة، تبدأ الحياة من جديد.
وما زال كل شيء… ممكنًا.
 عضو
عضو