بكلمات معدودة فقط، جعل تشين مو عقل شي تشينغ يتوقف لوهلة، ثم سرعان ما غرق في دوامة من التفكير العميق.
عندما استرجع مجريات المهمة بأكملها، أدرك شي تشينغ أن تشين مو لم يقم فعليًا بالكثير من الخطوات الظاهرة؛ فقد صنع الحبة الطبية المعجزة، وطلب من شخص أن يقدمها للمحظية لي، ثم ذكّرها برغبتها القديمة في استعادة شبابها.
بعد ذلك، لم يكن الأمر سوى قيادة اللاعبين على رقعة الشطرنج التي رتبها لهم بعناية.
لو لم يكن الإمبراطور العجوز طامعًا في الخلود، مهووسًا بالقوة والنفوذ، لما وقع ضحية خدعة بهذه البساطة، ولما تجرأ على تناول دواء مجهول المصدر.
أما الأمير الثاني، رونغ شيانغ، فلو لم يكن قلقًا إلى هذا الحد بشأن تثبيت مكانته، لما دخل القصر في ذلك التوقيت. ولو بقي في الخارج، لكان تفادى الفخ الذي قاده إلى نهايته المحتومة.
في النهاية، كان الجشع الدنيوي للرجلين هو من قادهما بأنفسهما إلى الهاوية.
طبعًا، هذا كله لم يكن ليحدث لولا تلك الإسهامات الصغيرة التي قدّمها تشين مو في خفاء.
ومع أنه استعرض ما جرى، بقيت في قلب شي تشينغ رجفة من الفزع.
كان يعلم من قبل أن تشين مو، نتيجة لما عاناه من استغلال على يد زوج أمه أولًا، ثم والده البيولوجي، قد تحول إلى شخص مظلم، أشبه بمضطرب نفسي كامل.
لكنه لم يتوقع أن يكون على هذا القدر من البراعة في قراءة أعماق النفس البشرية، يعرف بدقة مفاصل الضعف في طبيعة البشر، ويجيد توظيف هذه المعرفة بمهارة مقلقة.
شعر شي تشينغ بالرهبة… ليس لأن العمل مع مضطرب نفسي أمر مريع فحسب، بل لأن تشين مو، بمعامل ذكاء مذهل، وذكاء عاطفي لا يقل عنه، لم يكن من الممكن وصف العلاقة معه بـ ' العمل المشترك ' أساسًا!
بهذه الوتيرة… ألا يعني أنه سيُلتهم دون أن يبقى منه حتى عظام؟!
انتابه الكآبة.
شي تشينغ كان يعرف نفسه جيدًا؛ حينما كان حيًا، كان ذكاؤه بالكاد يلامس الحد الأدنى للمعدل الطبيعي مقارنة بأبناء بلده.
لم يكن معتوهًا، لكن الفجوة بينه وبين العباقرة كانت شاسعة لا تُقاس… والآن يريد أن يتعايش مع هذا المجنون؟ QAQ… ربما كان عليه أن ينتظر خمسمئة عام إضافية بدلًا من هذا.
وبينما هو غارق في ندمه، دوّى فجأة صوت إنذار حاد في أذنه، فأفزعه بشدة.
أسرع بالخروج من القلادة اليشمية، وتحول إلى كتلة ضباب أسود، اندفع بها نحو الدليل السريع. فتح الصفحة التي كان ينوي الوصول إليها، وما إن قرأ ما فيها حتى انقبض قلبه بشدة.
صرخ نحو تشين مو بصوت عالٍ:
“تشين مو، استعد! خلال ثلاثين ثانية ستغادر فضاء النظام وتعود إلى جسدك!”
لكن صوته اختفى تدريجيًا… فقد بدأت هيئة تشين مو بالتلاشي.
لعن شي تشينغ في سره، وعاد فورًا إلى داخل القلادة اليشمية، ملتحقًا بتشين مو.
وفي اللحظات التي كان فيها جسد تشين مو يتلاشى، أظهر شي تشينغ قدرة خارقة على سرعة الكلام، وسارع في شرح الوضع:
“في السابق، أخطأت بعدم التوضيح. في كل مرة تدخل فيها النظام لتنفيذ مهمة، يتوقف الزمن في عالمك مؤقتًا، لكن بعد انتهاء المهمة، يحتاج النظام إلى ثلاث ساعات لإعادة التشغيل ومراجعة المهمة. خلال هذه الفترة لا يمكن البقاء في فضاء النظام… لذا لا خيار أمامك سوى العودة إلى عالمك. فقط ثلاث ساعات، ثلاث ساعات وحسب!”
وما إن انتهت كلماته، حتى تبدّل المشهد من حولهم فجأة — لقد عادا إلى عالم تشين مو.
ولضمان السلامة، صمت شي تشينغ تمامًا، وقفز فورًا إلى حضن تشين مو ليختبئ هناك.
لكن تشين مو، الذي كان قد دمّر زراعته بيده، كان يتألم بشكل لا يُحتمل؛ فالطريقة الوحيدة لاستعادة مرحلة الروح الجنينية تتطلب خضوعه لحمام دوائي، لا يمكن لإنسان عادي تحمّله.
تشين مو، الذي اعتاد الألم، كان قد حصل على فترة راحة أثناء وجود روحه في النظام.
طوال الأيام التي نفذ فيها المهمة، لم يشعر بأي ألم.
ولكن الآن، وقد عاد إلى جسده، اجتاحه الألم بشدة تكاد تطيح بوعيه.
رغم تحمّله العالي، أغمض عينيه وهو يرتجف، وقطرات عرق باردة تسيل من ظهره.
كان يكافح جسده، يحاول التكيّف مع الألم الذي كان أشبه بكسر عظامه وتمزيق لحمه.
شي تشينغ، الذي راقب ذلك، كان قلقًا إلى أبعد حد، لكن لم يكن بيده شيء…
حتى الكلمات لم يستطع قولها.
فجأة، أخرج تشين مو شي تشينغ من حضنه، وقبض عليه بشدة في راحة يده. كان اليشم الأبيض البارد على تضاد تام مع جلده المحموم.
رغم أن القبضة القوية زادت الألم سوءًا، إلا أن شعور السيطرة على شيء ما، والشعور بأنه يمسك بزمام الأمور، أعاد بعض الاستقرار إلى ذهنه المضطرب.
بدأ تدريجيًا بتجميع طاقته الروحية ليدعم بها جسده.
وعندما ظن شي تشينغ أنه سيختنق، خفّت قبضة تشين مو أخيرًا.
تحررت القلادة من الظلام والضغط العنيف الذي كان على وشك سحقها.
تنهد شي تشينغ براحة شديدة، وشكر الآلهة أنه مصنوع من اليشم… فلو كان حيوانًا صغيرًا، لكان قد اختنق بلا شك.
حتى مجرد تخيل ذلك… يا ويلي، يا له من رعب.
الرجال الحقيقيون لا يبكون بسهولة، لكن هذا… كان مخيفًا بحق!
أطلق زفيرًا طويلًا في محاولة للاسترخاء، وفي تلك اللحظة، أضاء الظلام من حولهم فجأة.
رفع تشين مو رأسه. وجهه الشاحب لم يحمل أي أثر للون، وشفاهه شبه شفافة، أما عيناه السوداوان فكانتا عميقتين كأن لا قرار لهما.
كان جسده لا يزال قويًا، جذابًا، ويحمل كبرياءً لا يتزحزح.
بدا كأنه رسول من الجحيم… مصاص دماء يتجول في الليل. حتى بعد سقوطه، بقي نبيلاً بشكل مؤلم.
ألقى لو جيويوان عليه نظرة ساخرة، وقال بازدراء:
“لقد ورثت جسدًا جيدًا بالفعل.”
فرد عليه تشين مو ببرود: “للأسف، يسرِي فيه دمٌ قذر.”
بجملة واحدة فقط، اشتعل غضب لو جيويوان، ورفع يده ليضرب تشين مو.
لكن ما إن قابلته نظراته الباردة القاتلة، حتى تراجع بسرعة.
قال بتحذير: “لا تختبرني… لا أعطف عليك.
ومع ذلك، سأهتم بك حتى تستعيد زراعتك.”
حدّق فيه تشين مو مطولًا، ثم ابتسم فجأة، وهمس بنبرة باردة: “دورك سيأتي قريبًا.”
كان صوته منخفضًا، وضحكته خفيفة…
لكنها أبثّت فيمن سمعها شعورًا غريبًا بالقلق.
عبس لو جيويوان — رغم أنه خَبِرَ البشر وأتقن التلاعب بهم، إلا أن ابنه هذا بقي بالنسبة له غامضًا لا يُفهم.
كان يظن أنه يسيطر عليه تمامًا… لكنه الآن يكتشف أنه فقد السيطرة وكل ملامح كبريائه.
نظر لو جيويوان إلى تشين مو، وأخفى شيئًا من احتقاره التام
لم يكن يرغب في تبديد هذا ' المرجل البشري ' المثالي، ولا في إعادة الكرّة مجددًا: أن يجهد نفسه في ترقيته ثم يخسره من جديد.
لقد قرر أن يستهلك ثمار جهده شيئًا فشيئًا…
حتى لا يتبقى شيء.
استعاد تركيزه، ومد يده إلى خاتم التخزين الخاص به، ليخرج منه برميلاً خشبيًا ضخمًا كان قد جهّزه مسبقًا، ممتلئًا بإكسير يغلي بحرارته وعدد لا يُحصى من الأعشاب.
كان البرميل ينفث رائحة كريهة تخنق الأنفاس، ولون السائل الذي بداخله رماديّ داكن معتم، أشبه بسمّ كثيف… بدا وكأنه سيذيب الجسد لا يشفيه.
رمقه لو جيويوان بنظرة شيطانية وقال بتهديد:
“هل ستدخل بنفسك؟ أم أساعدك؟”
دون أن يرد أو ينظر إليه، وقف تشين مو، وخطا بخطوات ثابتة نحو البرميل، ثم جلس داخله وأغمض عينيه بهدوء.
أسند ظهره إلى حافة البرميل، في وقت كان جسده يتفجر ألمًا من كل جانب، كما لو أن أعضائه تنفجر من الداخل.
لم يغادر لو جيويوان الغرفة فورًا، بل بدأ يُجري بعض التعديلات على تركيبة الدواء.
كان يعلم جيدًا أن هذه الأدوية، رغم فائدتها في تسريع الزراعة، إلا أنها لا تأخذ في الاعتبار راحة الجسد.
فكلما كان التقدّم سريعًا، كان الألم مروّعًا بالقدر نفسه.
كان الشعور أقرب إلى آلاف الحشرات تنهش كل شبر من الجلد، كل عصب يُدمّر، ثم يُوقظ، ثم يُرمّم، ثم يُعيد تكوين نفسه… ويُكرر الدورة مرارًا وتكرارًا.
ذلك الألم قادر على إذلال أكثر الرجال كبرياءً، وكسر أقوى المحاربين؛ أي إنسان لن يقوى على تحمّله.
لو جيويوان كان يتعمّد تعذيب تشين مو — أراد أن يُفهمه أن هذا هو ثمن أفعاله، أنه لا يجب أبدًا أن يفرّ من قدره.
حتى وإن أصلح جسده، أراد له أن يُشوى في النار، يُقلّب في المقلاة، يصرخ من شدّة الألم، ثم، من شدة الرعب، يركع على ركبتيه ويتوسّل غفرانه!
لكن خيبته كانت كبيرة…
تشين مو بدا وكأنه نائم.
شعره الأسود الطويل ينسدل خارج البرميل، ورداؤه الأسود قد ذاب بالكامل تحت مفعول الإكسير، وجلده بدأ يتصبّغ بالسواد، إلا أن وجهه… بقي نقيًا، باردًا، لا يتغيّر.
ولا حتى عضلة من وجهه اهتزّت.
قطّب لو جيويوان حاجبيه، غير مصدّق.
لا، هو يرفض أن يصدّق أن تشين مو يملك القدرة على الصمود حتى النهاية.
أما شي تشينغ، فقد شتم في قلبه ثمانية أجيال من سلالة لو جيويوان.
اللعنة! هل هذا الحثالة والده البيولوجي حقًا؟
أي إهانة لكلمة ' أب ' هذه؟!
حتى أقلّ مخلوق يتحلى بذرة من الإنسانية لا يمكن أن يُصدر حكمًا بالموت على ولده هكذا!
صحيح أن جسد شي تشينغ مصنوع من اليشم، لكنه لم يكن عاجزًا عن الشعور.
جسده، وإن كان لا يتألم كالبشر، إلا أنه يمتلك الحواس، منها اللمس. والألم، وإن كان مخففًا مئات المرات، إلا أنه لم يكن غائبًا تمامًا.
لكن ما إن غاص في حمّام الدواء مع تشين مو… حتى شعر وكأنه يُسلخ حيًا!
في حياته السابقة، عندما كان يصارع السرطان، ظنّ نفسه سيّدًا في تحمّل الألم… لكنه الآن، كان يعض على أسنانه من شدة ما يعتصره:
أي ذنب ارتكبه هذا الرجل، بحق السماء، ليستحق هذا العقاب الجحيمي؟!
فكّر مجددًا في تشين مو.
رغم أنهما لم يكونا مقرّبين، إلا أن شي تشينغ شعر في هذه اللحظة باستياء وغضب طاغيين دفاعًا عنه.
لو جيويوان، هذا القذر… إن لم أقتلك مئة مرة، فلا أستحق حتى أن أُدعى رفيقه!
لم يجرؤ على إصدار أي صوت، واكتفى بتحمّل ضغط قبضة تشين مو عليه بصمت.
تشين مو، من رأسه حتى أخمص قدميه، لم يتحرك، ظل ممسكًا بالقلادة بإحكام وكأن كل قوته تتركز فيها.
شي تشينغ ظن أنه ربما منح تشين مو بعض الشجاعة، لكن لم يكن بإمكانه أن يسأله ليتأكد.
ثلاث ساعات… بدت وكأنها دهر كامل.
كل ثانية تزحف، تتوقف، ثم تزحف مجددًا.
ولو جيويوان، ذلك الوغد، جلس يراقب من بعيد، متشوّقًا لرؤية النهاية… وعندما خاب أمله، سكب المزيد من الأعشاب في البرميل.
ذلك السائل الداكن… لا يمكن لعاقل أن يظن أنه دواء، لا، إنه أقرب للسم.
شي تشينغ، بطبيعة الحال، لم يعرف كيف ستُستعاد زراعة تشين مو، لكنه شعر أن الألم بعد تلك الإضافات صار أكثر… وحشية.
وأخيرًا، انقضت الثواني الأخيرة، وانتهى الانتظار الطويل.
فتح شي تشينغ بوابة النظام فورًا، وسحب تشين مو إلى فضاء النظام من جديد.
وما إن وصلا، حتى طار شي تشينغ من القلادة — التي باتت الآن رمادية وسوداء — ليحرر نفسه من العذاب.
أما تشين مو، فقد أغلق عينيه، واستند إلى الجدار.
بدأ قلب شي تشينغ يخفق بقلق، إذ ساوره الخوف من أن تشين مو قد يكون قد مات بالفعل.
اندفع نحوه بسرعة، وهتف بقلق شديد:
“تشين مو! تشين مو! كيف تشعر؟!”
لم يفتح تشين مو عينيه، وظل صامتًا للحظات…
ثم سأل أخيرًا، بصوت خافت، دون أن يحرّك شفتيه كثيرًا:
“لماذا تبعتني؟”