🦋

 حين سمع آيميا كلمات ياليك، اجتاحه الذعر.

لكن بعد أن أُلقي به في السجن، بدأ يستعيد هدوءه شيئًا فشيئًا. 

لم يكن ميتًا، إذًا لا بد أن هناك سبيلًا للنجاة. 

كل ما كان عليه فعله هو انتظار الفرصة المناسبة.

وفي وحدته تلك، راح يستعرض في ذهنه مجريات الأحداث، يفككها تفصيلًا تلو الآخر. 

وكانت الصدمة حين أدرك أن رهبة ياليك في تلك اللحظة هي التي زلزلت كيانه، فأربكته وأفقدته توازنه، فانجر من خطأ إلى آخر حتى سقط في النهاية.

لم يكن آيميا قادرًا على استيعاب الأمر. 

لطالما كانت علاقته بـياليك جيدة، وكان يظنه يفهمه جيدًا. نعم، لقد كان ذلك الرجل لامعًا كما تقول الشائعات، لكنه في نهاية المطاف مجرد رجل وحش آخر، يستمتع بلذائذ الحياة التي يمنحها له رفيق، متخم بالمزايا والامتيازات. 

كان يعتقد أنه يحيط بـياليك علمًا، إلا أن ما حدث في ذلك اليوم قلب كل الموازين. ياليك وضعه تحت ضغط هائل، حتى إنه بالكاد استطاع التنفس.

وبعد أن هدأ روعه، أخذ آيميا يواسي نفسه: 

“كل شيء كان استثنائيًا في ذلك اليوم.” 

ظهور ياليك المفاجئ جعله يفقد صوابه، وضميره المثقل بالذنب زاد من ارتباكه، ومع كل تلك العوامل النفسية مجتمعة، بدأ يرى ياليك ككابوس مفزع.

بمرور الوقت، بدأت التوترات تنحسر عن صدر آيميا. 

حتى وإن كان سجينًا، فقد كان واثقًا أن ياليك سيعود. 

وإن لم يعد بدافع شخصي، فبسبب تورطه مع قبيلة كرو، الأمر الذي لا بد أن يثير قلق الزعيم ويدفعه للبحث عن الحقيقة.

وهنا، يجب أن ينتهز الفرصة حين تأتي… ويستعيد السيطرة على ياليك!

فهو يعرف جيدًا كيف يفتن رجال الوحوش بجمال ونعومة شبه الوحش.

خطط آيميا كل شيء بدقة، وحين ظهر ياليك كما تمنى، نظر إليه مباشرة… لكن ما إن وقعت عينه على وجهه حتى ارتد إليه ذلك الشعور الكاسح من الرعب. 

انهار كل ما بناه من صلابة نفسية، وتهاوى كقلعة من ورق، يمكن أن تخترقها بإصبع.

صاح في نفسه فجأة: لا! لا بد أن ياليك جاء لهدف ما، لا يمكن أن يظهر هكذا فقط! لا بد أنه بحاجة لشيء!

ولكأنه تمسك بأمل أخير، رفع عينيه إلى ياليك، ذاك الرجل القوي الصلب البارد، وقال: 

“أعلم أنك لا تثق بي الآن… لابد أنك تعتقد أنني خنتك، وأنك تثق برجال الوحوش الآخرين الذين لطالما احتقروني، إنهم…”

لكنه لم يُكمل.

قبل أن يتمكن من البوح بكلمات الولاء، قُطع عليه حديثه تمامًا.

رأسه الجميل دُفع نحو الأرض بقسوة، 

وجزمة جلدية صلبة سحقت وجنته الناعمة. 

ياليك وقف شامخًا فوقه، يحدّق فيه بازدراء، وكأنه لا يراه إلا كحشرة صغيرة.

“أنا لا أقول تفاهات”، جاء صوته الغليظ يتردد في أرجاء الزنزانة الكئيبة، يتسلل كالنصل إلى قلب آيميا. “ولا أريد سماع التفاهات.”

دون أي ذرة شفقة، سحق وجه آيميا إلى الأرض، 

ثم انحنى نحوه وحدق مباشرة في عينيه وقال:

“لدي شيء هنا يناسبك تمامًا.”

ابتسم بخفة عند طرف شفتيه، 

لكن عينيه كانتا مثل الثلج، تخلو من أي شعور.

هل هذا هو ياليك حقًا؟

وعندما رأى آيميا بوضوح ما في يد تشين مو، شحب وجهه تمامًا.

بدأ جسده يرتجف بلا توقف، وانطلقت من فمه صرخة فزع هستيرية: “لا! لا… لا يمكنك أن تفعل هذا بي! أرجوك، لا تعطيني ذلك الشيء!”

“اسألني فقط، ياليك، وسأخبرك بكل شيء! كل شيء!”

رد تشين مو بصوت هادئ قاتم: “آه، تريد أن تتكلم؟”

انهار آيميا تمامًا، سُحقت كرامته أمام ذاك الشيء. 

لم يكن يتصور يومًا أن ياليك سيعذبه حقًا. 

وما إن استحضر في ذهنه الرعب المرتبط به، حتى خانته الكلمات.

“ياليك… نعم، أنا… أنا…”

“لكنني لا أريد أن أستمع.”

جاء صوت تشين مو كالموت، كثيفًا كالسواد، حادًا كسكين الحصاد.

لم يستطع آيميا النطق بعدها. 

في عينيه انسكب اليأس كله، كأنه أدرك فقط في تلك اللحظة إلى أي مصير دفع نفسه.

الرعب، والفزع، واليأس.

مشاعر سوداء تزحف داخل قلبه كأفعى سامة.

وأخيرًا، فهم أن مصدر تلك الهيبة القاتلة التي كانت تزلزل قلبه لم يكن مجرد حضور رجل… بل لأن الرجل الذي أمامه قد تحول إلى شيطان.

شيطان لا يعترف بروابط الماضي، يحتقر الحياة والموت، ويسيل الدماء دون أي تردد.

شيطان مجنون، بكل معنى الكلمة.

أتدري لماذا لم تمت بعد؟ لأني لا أريد لك موتًا يسيرًا.

ترددت تلك العبارة في رأسه، واضحة كالكابوس، مفهومة الآن بكل معانيها.

الموت، كان خيارًا أرحم.

لم يخطر في بال آيميا يومًا أن يفكر بالانتحار، 

لكنه الآن لا يتمنى شيئًا أكثر من الموت الفوري.

حاول يائسًا أن يعض لسانه، لينهي كل شيء… لكن الشيطان لم يسمح له بذلك.

تشين مو أمسك بذقنه، ودفع داخل فمه ذلك الشيء بحجم الإبهام.

“استمتع بدودة تآكل العظم، من أمة الظلام.”

دودة تآكل العظم، كانت أفظع ما عرفه عالم رجال الوحوش.

كائن لا يحمل أي قوة، ضعيف، يموت فور تعرّضه لأشعة الشمس.

لكن ما إن يدخل جسد كائن حي، ينقلب جحيمًا.

يبدأ بافتراس الجسد من الداخل، دون المساس بالأعصاب، التي تبقى سليمة… ليتعذّب الضحية بألم ممزق لا يحتمل، كأن جسده يُقطع ألف مرة.

لكن هذا ليس كل شيء.

فبعد أن يُلتهم الجسد، تُجبر الخلايا على التجدد، ليعود الجسد كما كان، استعدادًا لجولة جديدة من الألم.

تتكرر الدورة سبعة أيام، وفي نهايتها، تتدمر نخاع العظام بالكامل، ويتوقف الجسد عن التجدّد.

لكن طوال تلك الفترة، يبقى الضحية في وعيه الكامل، يعايش العذاب بكل تفصيلاته.

إنها الدودة الملعونة، إبليس أمة الظلام، الكائن الذي قيل إنه انقرض منذ قرون.

ومع ذلك…

ها هو الآن حيّ، ناشط، داخل جسد آيميا.

غادر تشين مو الزنزانة، واستبدل ملابسه، ثم غسل وجهه قليلًا.

كان الأفق آنذاك قد بدأ يلوح بأولى خيوط الضوء. وبعد نحو ساعة، ستشرق الشمس.

أخفض نظره إلى الكائن الصغير الراقد في كفّه، والذي لا يزال غارقًا في نومٍ عميق.

جسده المغطى بالفراء كان ملتفًا في راحة اليد ككرة صغيرة من النعومة، لا توصف إلا بكلمة: ظريف.

مدّ تشين مو إصبعًا وراح يمرره على ظهر شي تشينغ المغطى بزغبٍ أسود وأبيض، وتحرك الجسد الدقيق تحت لمسته في تناغمٍ صامت، دافئ.

لكن بدا له أن هذا الجسد هش إلى حدٍ يجعله قابلاً للتحطم لو ضغط عليه قليلًا فقط.

ضعيف جدًا، بلا حول ولا قوة… إن فقدتك، ستموت فورًا.

ارتسمت على وجه تشين مو ابتسامة خافتة، 

لكنها كانت آسرة بحق في وهج الصباح الباهت.

ثم انحنى، وطبع قبلة ناعمة فوق رأس الكائن الصغير، وكأنه يطبع عهدًا غير منطوق.

شي تشينغ… أنت بحاجة إليّ. 

إن تركتني، فلن تنتظرك إلا نهاية واحدة: الموت، ولا غيره.

في تلك اللحظة، استدار دبّ الكف الصغير في مكانه، وأدار رأسه المستدير نحو الجهة الأخرى.

فمه الصغير انفتح قليلًا، ومنه سال خيط شفاف لامع من اللعاب.

آه آه آه، لحم خنزير حلو وحامض، لا تهرب!

ضلوع مطهية، عودي بسرعة!

ودجاج مقلي، وشرائح متبلة، وخنزير بالبخار وصلصة البرقوق… أنتم جميعًا، إلى طبقي حالًا!

استيقظ شي تشينغ على وقع الجوع.

فتح عينيه في ضيق، وتنهّد: ما زالت الشمس لم تطلع؟! لمَ لا أزال على هيئة باندا؟

ثم، وهو لا يزال مشوش الذهن، رفع رأسه ليتساءل،

“هل خرجت؟”

أجابه تشين مو باقتضاب، “همم.”

تفحّص شي تشينغ الطريق التي يسلكانه، 

وما إن تعرف على الاتجاه حتى قفز فجأة،

“أنت ذهبت إلى السجن؟”

ردّ تشين مو بنفس النبرة الهادئة، “همم.”

“آآه! لمَ لم توقظني؟! لم أنتقم بعد! 

ألا تعلم أن آيميا أسوأ شخص في العالم؟ لقد كان يعذّب ييير ويضايقه بلا رحمة!”

ثم بدأ يتصاعد غضبه، “ييير كان ساذجًا، رغم كل ما تعرّض له، بقي ضعيفًا ومسكينًا.”

ثم انفجر، “آيميا ليس خائنًا فحسب، بل حاول قتلي أيضًا! هذا الجدّ الصغير ركله فقط، يا لها من متعة!”

حدّق تشين مو إلى الحيوان الصغير الذي لا يتعدى حجم الكف، وهو الآن يغلي غضبًا ويزمجر، ثم عقد حاجبيه قليلًا…

لكن، من وجهة نظره، كل ما خرج من ذلك الرأس الصغير يمكن اختصاره بكلمتين: تصرف لطيف.

ثم مدّ إصبعه، وباغت الصغير حين فتح فمه، وأدخله فيه!

نظر إليه الاثنان، وجهاً لوجه.

الصغير: لا تضع إصبعك الكبير في فمي، إنه ممتلئ حتى الانفجار!

تشين مو: لسانه ناعم جدًا.

أنقذ ظهور إرها فم شي تشينغ من المزيد من الغزو.

“أيها الزعيم، الجميع حاضرون!”

ببرود المعتاد، سحب تشين مو إصبعه، ربت على فرو الكائن الصغير وقال: “هيا بنا.”

شعر شي تشينغ فجأة أنه عبء لا فائدة منه.

كل ما فعله هو النوم، وفي المقابل، ماذا حدث؟

هل يُعقل أن مضيفه أمضى الليل منشغلًا بالمهمة؟

يا له من تفانٍ! أعجبني!

لم يسأل شيئًا آخر، وذهب مع تشين مو إلى قاعة اجتماعات القبيلة. رغم أن قاعة الاجتماعات لم تكن إلا كوخًا طينيًا كبيرًا نسبيًا.

لكن، ما إن دخلا، شعر شي تشينغ ببعض الرهبة.

كان هناك عدد كبير من الناس.

جميع رجال الوحوش من قبيلة ياسين الذين يمتلكون أي قدر من النفوذ، كانوا حاضرين.

وعندما دخل ياليك، خيّم الصمت على القاعة، بعد أن كانت تضجّ بالأصوات.

كل العيون تحولت نحو قائدهم.

جلس إرها بجوار مويا، الذي أدار وجهه بعيدًا، لكنه لم يغادر.

تقدّم ياليك بخطوات بطيئة إلى المنصة المرتفعة في وسط القاعة.

وقف رجال الوحوش واحدًا تلو الآخر لتحيته،

ثم، واحدًا تلو الآخر، حدّقوا بالكائن الظريف في يده.

لم يمرّ وقت طويل حتى بدؤوا يدركون ما يرونه.

هذا هو ييير، أليس كذلك؟

أهلاً بك أيها الظريف!

ييير، أنت فعلًا جدير بأن تكون رفيق الزعيم!

وحين رأوا قرب الاثنين من بعض، شعر الجميع، سواء من رجال الوحوش أو شبه الوحوش، براحة عميقة.

هكذا يجب أن يكون الزعيم!

أن يُظهر القدوة الحسنة التي يحتذي بها الآخرون.

وقف ياليك أمامهم، أولًا، مسح على رأس الكائن الصغير في يده، ثم نظر إلى الحشد المحيط به.

وكانت نظرته نافذة، فاحصة، تترك في قلوب الجميع انطباعًا بأنه يرى ما بداخلهم.

الهيبة التي بثّها الزعيم، وروح الوحدة التي شعر بها كل من تحته من العشائر الست، كانت في محلها تمامًا.

وبشكلٍ غامض، شعر رجال الوحوش جميعهم براحة وسكينة.

ثم، فتح ياليك فمه، وصوته العميق الأجش دوى في أرجاء البناء الدائري، يرتفع تدريجيًا:

“أنا، ياليك من قبيلة ياسين، أعتذر عن تصرفاتي غير المقبولة في السابق.”

وحين أنهى كلمته، قبض يده اليسرى، وضعها على صدره، وانحنى بانخفاض.

في تلك اللحظة، عمّ الصمت أرجاء القاعة بشكل أعمق،

ثم…

انفجرت الأصوات من كل حدب وصوب، 

كأنها طوفان من المشاعر المكبوتة.

هل وجدت خطأ؟ قم بالإبلاغ الآن
التعليقات

التعليقات [0]