كان مويا الطبيب البيطري الرئيسي لقبيلة ياسين.
يمتلك خبرة طبية فائقة، وبراعته تتجلّى تحديدًا في معالجة الإصابات التي تلي المعارك والتعامل مع التئام الجروح.
علاوة على ذلك، وبما أنه كان من فئة شبه الوحوش، فقد حظي بقدرة فريدة على التهدئة، مما منحه القدرة على كبح الاضطراب الذي يعتري الوحوش في بعض الأحيان، بل وحتى تهدئة بعض الحيوانات غير الوحشية.
لهذه الأسباب، كان مويا محبوبًا للغاية في القبيلة.
وخلال الفترة الأخيرة التي خلت من الحروب، لم يكن لديه الكثير من العمل سوى عدد من الزيارات الطبية القليلة، وغالبًا ما كان يستقبل عددًا من الوحوش العازبين ممن يتذرّعون بالمرض لزيارته يوميًا.
كان يعيش في فراغ شبه تام.
ولأنه بلا مهام تُذكر، فقد كان قد أنهى لتوّه غسل وجهه وتنظيف أسنانه في بداية المساء، وتهيأ للصعود إلى فراشه.
وفي تلك اللحظة تحديدًا، لمح كلبًا أحمق يتسلّل إلى منزله.
تغيّر وجه مويا، وقال بنبرة غاضبة:
“إرها، وقاحتك باتت لا تُطاق! كيف تجرؤ على اقتحام منزلي ليلًا؟ أحقًا ترغب في علقة ساخنة؟!”
الزائر لم يكن سوى ذلك الهوسكي المولع بشبه الوحوش، الذي اعتاد التردد كثيرًا على منزله.
فقد كان مويا، بجماله وذكائه وقدراته، محطّ إعجاب الكثيرين، والأهم من ذلك… أنه لا يزال أعزب! فكيف لا يفتتن إرها به؟
ولهذا، لم يكن يتوقف عن تقديم تقارير يومية عن مرض أو إصابة جديدة.
ورغم مضايقاته، لم يكن مويا يضيق به ذرعًا حقًا.
ففي نظره، كان إرها مختلفًا عن باقي الوحوش الذين لا يشغلهم سوى التباهي بفروهم الأملس وعضلاتهم البارزة؛ كان إرها أكثر حيوية، وربما حتى لطيفًا.
لكن هناك حدود لا يمكن تجاوزها.
وكان مويا يضع قاعدة صارمة:
لا يسمح لأي وحش بالدخول إلى منزله ليلًا.
فالليل هو الوقت الأخطر على الإطلاق، خاصة بعد أن يخلد شبه الوحوش للنوم، حينها يفقدون السيطرة على طاقتهم الروحية التي تصبح جاذبة بشكل فتاك للوحوش من حولهم.
وفي حال لم يتمكن الوحش من المقاومة… فإن العواقب قد تكون كارثية.
غير أن تصرفات إرها هذه الليلة بدت بعيدة عن غبائه المعتاد. كان عبوسه واضحًا، ونبرته جادة بطريقة غير مألوفة:
“مويا، تعال بسرعة! لقد أصيب الزعيم بمكروه!”
اتسعت عينا مويا من الصدمة.
دون أي تردد، التقط عباءته وأمسك بصندوق الأدوية، ثم اندفع خارج الباب.
ورغم كونه من فئة شبه وحش، وصاحب بنية ضعيفة نوعًا ما، إلا أن العيادة لم تكن بعيدة جدًا عن مقر الزعيم.
لكنه أدرك أن الركض إليها سيضيع وقتًا ثمينًا.
ومن دون أن ينبس بكلمة، انطلق إرها نحوه وانحنى، حاملاً مويا على ظهره، ثم انطلق بسرعة نحو وجهتهما.
لم يكن مويا معتادًا على هذا القرب الجسدي، وكونه رجلًا متحفظًا بطبعه، فقد شعر بشيء من الارتباك.
قال إرها بصوت منخفض:
“تمسّك جيدًا، سأزيد السرعة.”
ولم يكن أمام مويا خيار سوى أن يطوّق عنقه بذراعيه ويقرب جسده من جسد الوحش لمجاراة سرعته.
ورغم أن إرها لم يكن متخصصًا في الجري، إلا أن قوته العامة كانت لا يُستهان بها. حتى وهو يحمل رجلاً على ظهره، لم يتباطأ على الإطلاق.
وفي غضون دقيقتين أو ثلاث، كانا قد وصلا إلى كوخ الزعيم.
ترجّل مويا بسرعة، حاملًا صندوق الأدوية، واندفع إلى الداخل.
كان قد سمع عمّا حدث في النهار—أن بعض الوحوش من قبيلة أخرى شنّوا هجومًا مباغتًا.
لكنه لم يسمع بإصابة أحد. والآن وقد حلّ الليل، هل يُعقل أن الزعيم أصيب وخبأ إصابته؟
وإن كان الأمر كذلك، فمَن يعلم إلى أي مدى قد تفاقمت حالته بعد أن أُهمل علاجه طوال اليوم؟
خاصة وأن ييير لم يكن قادرًا على تهدئة ياليك، مما سيصعّب العلاج أكثر. وإذا فقد الزعيم وعيه، فقد تعمّ الفوضى أرجاء القبيلة—خطة ماكرة من الأعداء، لا شك!
ازداد قلق مويا، ودفع الباب بقلق بالغ، ليجد أمامه ياليك بكامل قوته وعافيته، لا أثر فيه لإصابة واحدة.
حدّق به في حيرة.
لكن عينيه سرعان ما وقعتا على من يحمله ياليك بين ذراعيه.
شعرٌ فضي قصير وناعم، وأذنان سوداوان مغطاتان بالفرو؛ ملامح مميزة لا يمكن أن تُخطئ.
إنه ييير!
ماذا جرى له؟
نشأ مويا وييير معًا منذ الطفولة.
فقد كلاهما والديهما في سن مبكرة، وتشاركا الحياة كأخوين لا يفترقان.
ورغم أنهما لم يُعاملا بسوء داخل القبيلة، إلا أن الوحدة والمصاعب قرّبت بين قلبيهما كثيرًا.
وحين خطر بباله احتمال أن يكون ييير قد جُرح، شحب وجهه من الرعب.
يعرف تمامًا مدى هشاشة أجساد الاشباه.
حتى إصابة طفيفة، إن لم تُعالج سريعًا، قد تودي بحياتهم!
تقدم مويا وهو يحمل صندوق الأدوية، وبما أن ياليك ما يزال ممسكًا بـييير، لم يتردد في الطلب:
“سيدي الزعيم، من فضلك، ضع ييير حتى أتمكن من فحصه.”
لكن ياليك لم يتحرك.
أجابه بصوت بارد كالصقيع: “افحصه كما هو. لن أعيقك.”
تجمدت الكلمات في حلق مويا، ولم يستطع كتمان سخطه في داخله:
أي حب هذا الذي تمثّله الآن؟!
لكنه لم يجرؤ على الاعتراض.
أخرج جهاز الفحص وبدأ يعاين جسد ييير.
وكلما تقدم في الفحص، ازدادت حيرته.
أعاد تغيير زاويته أكثر من مرة، لكنه لم يجد ما يفسّر حالته.
كان تشين مو، الذي كان بداخل جسد الزعيم ياليك، يقف إلى جواره، ووجهه يزداد تجهمًا، والجو من حوله بدأ يبرد بشكل ملحوظ.
أما إرها، فبدأ جسده يرتجف من البرودة، لكن مويا بدا وكأنه لم يشعر بشيء. شيئًا فشيئًا، بدأ التوتر على وجهه يتبدد، ليحلّ مكانه بريق من المفاجأة والدهشة.
أعاد الجهاز إلى صندوقه، ثم وضع راحة يده فوق صدر ييير مباشرة، وأغمض عينيه.
وبعد دقيقة، اختفى أي أثر للقلق عن وجهه.
ابتسم ابتسامة خفيفة، وقال مطمئنًا:
“لا تقلق، سيدي الزعيم، ييير في فترة بلوغه!”
قطّب تشين مو حاجبيه:
“فترة بلوغه؟ ولماذا فقد وعيه؟”
كان يملك ذكريات ياليك، ويعرف كيف تمر فترة تطور الاشباه، لكنها لا تتضمّن فقدان الوعي.
قال مويا، الذي طالما اشتهر ببروده كثلوج الجبال، بنبرة يملؤها الحماس النادر:
“في العادة، تمر فترة تطور الاشباه على ثلاث مراحل. وغالبًا ما تكون خلال النوم دون أي أعراض ملحوظة. لكن حالة ييير نادرة جدًا، وإن لم تكن فريدة، فهي قليلة الحدوث.”
ثم تابع، متحمسًا أكثر:
“فقدان الوعي هذا خلال التطور يعني أن طاقته الروحية خارقة! جسده لم يتحملها، فدخل في حالة غيبوبة لحماية نفسه.”
وختم كلامه بلهفة: “يا سيدي الزعيم!
هذه بشارة عظيمة!
هذا يعني أن ييير هو من ورث سلالة نبي الإله!”
وفي اللحظة التي بدأ فيها شي تشينغ يستعيد وعيه، كان صوت مويا لا يزال يتردّد في الأجواء.
أغمض عينيه لوهلة، وعرف من يكون مويا—الأخ المقرب لييير، الطبيب البيطري الشهير في القبيلة.
استعاد شي تشينغ تفاصيل ما مرّ به بنفسه،
وكان في قرارة نفسه يدرك أن الوقت قد حان أخيرًا.
ييير، ذلك الفتى الذي تأخر نموه بنسبة ثمانين بالمئة مقارنة بأقرانه، بدأ أخيرًا مرحلة النضوج…
لم يشكّل ذلك صدمة حقيقية له.
ما جعله يشعر بالدوار حقًا كان كلمات مويا.
قال مويا محذرًا:
“سيدي الزعيم، ييير دخل الآن في مرحلة النمو، ويجب حمايته بعناية فائقة. مهما حصل، يجب أن لا يشارك في أي سلوك حميمي من أي نوع.
هذا قد يثير قلبه ويتسبب له بالألم والمعاناة!”
رد تشين مو بهدوء: “همم.”
تابع مويا بجدية أشد: “حتى التقبيل ممنوع.”
ازداد وجه تشين مو برودًا وثباتًا: “حسنًا.”
ثم ألقى نظرة نحو الفتى الصغير الذي يحتضنه بين ذراعيه، وسأل بجدية واهتمام: “وماذا عن المداعبة؟”
فكّر مويا للحظة، وبعد أن رأى جديّة ياليك وتحفظه، أجاب على مضض:
“يمكن… ولكن لا تبالغ. لا تلمس النقاط الحساسة، ولا تثيره بأي شكل…”
لم يحتمل شي تشينغ أكثر.
فتح عينيه فجأة وسعل بقوة، قاطعًا حديث مويا بنجاح.
يا إلهي! أيها الإخوة الكبار، ما الذي تتحدثون عنه بحق الجحيم؟
توقفوا عن تحطيم مفاهيمي الثلاثة عن العالم!
راقبوا حدود أخلاقكم، إنها عارية وتركض في العراء!
لكن مويا لم ينزعج من المقاطعة، بل نظر إلى شي تشينغ باهتمام بالغ.
ذلك النصف الوحش الشاب أمامه كانت وجنتاه محمرتين، وشفاهه الوردية شبه مفتوحة، وبشرته ناعمة كمشمشة مقشرة. والأسوأ من كل ذلك، عيناه اللامعتان المتلألئتان بللتهما رطوبة جذّابة…
في أعماقه، لم يستطع مويا كبح شكّه:
حتى لو تمكن ياليك من كبح جماحه، فهل يستطيع ييير الصغير فعل ذلك؟
يكفي أن تنظر إليه، فتشعر بموجات من الغزل تتطاير منه!
فالجميع يعلم أن شبه الوحوش يمتلكون جاذبية قاتلة للوحوش، لكن لماذا لا يكون العكس دائمًا؟
لا أحد يدرك هذا أكثر من مويا.
ييير يحب ياليك حبًا صادقًا، فإذا تُركا وحدهما،
فلن يكون من المفاجئ أن يقع ما لا يُحمد عقباه!
فبينما يمر بمرحلة المراهقة ومرحلة النمو معًا،
إذا أطلق الرصاص أثناء تنظيف البندقية، فلن يمكن إصلاح الضرر أبدًا!
بعد تفكير، نظر مويا إلى ياليك مقترحًا:
“من أجل سلامة ييير، أقترح أن يتحوّل مؤقتًا إلى هيئته الحيوانية. سيكون ذلك أكثر أمانًا لكما معًا.”
تجعدت حواجب تشين مو قليلًا—فقد فهم تمامًا ما قصده مويا. رغم أنه لم يتفق تمامًا مع مخاوفه، لكنه، بالنظر إلى طبيعة هذا العالم الغريبة، لم يرفض الفكرة مباشرة.
وبتفحّصه لذاكرة ياليك، لم يجد أي معلومة حول شكل ييير الحيواني. مما دلّ بوضوح أن الزعيم لم يكن يعير اهتمامًا حقيقيًا له من قبل.
وقد لاحظ مويا ذلك أيضًا، فشرح بصوت هادئ، وإن بدا عليه بعض الاستياء:
“ييير حيوان نادر ولطيف للغاية. جسده الحيواني صغير جدًا، مما يجعله أسهل للحماية.”
جسد صغير جدًا… هذه الكلمات الثلاث أرضت تشين مو بشكل غريب.
فكر لبرهة، ثم وافق قائلًا: “لا بأس.”
تغيّر وجه شي تشينغ في الحال.
كان يعلم تمامًا شكل ييير الحقيقي، فحاول المقاومة، لكن مويا لم يمنحه الفرصة.
فتح فمه وأدخل فيه حبة صغيرة مستديرة، ثم ابتسم قائلاً بلطف:
“ييير الصغير، كن مطيعًا، نحن نفعل هذا لأجلك.”
من أجلي؟ تفوو!
لكن الحبة قد ابتُلعت بالفعل، ولم تمضِ لحظات حتى بدأ شي تشينغ يشعر بجسده ينكمش… ثم ينكمش أكثر… ثم أكثر!
قبل قليل كان بين ذراعي تشين مو، والآن أصبح مستلقيًا في راحة كفه.
لقد فُرغ الخشب وصُنع منه قارب بالفعل.
أدار شي تشينغ عينيه ثم تمدّد بكآبة في راحة اليد، يائسًا تمامًا.
ييير… يا لك من خيبة!
لقد تحوّلت إلى كنز قومي… باندا!
حسنًا، قد يكون الأمر مقبولًا، فالباندا البالغة يمكن أن تكون قوية ومهيبة… لكن لماذا يجب أن تكون نسخةمصغّرة؟ بحجم كف اليد فقط!
باندا بحجم كف… ما الفائدة منها غير كونها “كيووت”؟
شي تشينغ: لا يعجبني هذا… أنا مرهق.
لكن على النقيض من حالته المزرية، بدا تشين مو في مزاج رائع.
حدّق في ذلك المخلوق الصغير الممتلئ، الأسود والأبيض، الملقى في كفه، وارتسمت على شفتيه ابتسامة دافئة.
كان أثقل قليلًا من القلادة المصنوعة من اليشم، لكنه كان ألطف بكثير عند الإمساك به.
رمق مويا الزعيم من طرف عينه.
ياليك القديم لم يكن يبتسم، ولم يكن أحد يجرؤ على التحديق به نظرًا لهالته المهيبة.
لكن تلك الابتسامة الخفيفة ظهرت فقط عندما رأى شكل ييير الحقيقي، كاشفة عن لمحة خافتة من شخصيته الحقيقية.
وأخيرًا، رأى مويا ما كان يجب أن يُرى منذ زمن بعيد.
ييير كان يتصرف بعفوية مع ياليك، أما ياليك،
فقد بدا واضحًا أنه لا يريد أن يتركه لأحد سواه.
رغم أن ذلك لم يكن الحال في الماضي، إلا أن مويا شعر في أعماقه أن هذه العلاقة… كانت كما ينبغي أن تكون.
ففي النهاية، هما شريكان قد اختارهما إله الوحوش نفسه.
تظاهر مويا بأنه لم يرَ شيئًا، رتّب أدواته بهدوء، ثم استدار وغادر المكان.
تحوّل شي تشينغ إلى باندا.
ورغم أنه كان منزعجًا في البداية، إلا أنه ما لبث أن تقبّل الوضع. ولحسن الحظ، تأثير الدواء لن يدوم سوى حتى صباح الغد، ومع بزوغ الفجر، سيتمكن من استعادة هيئته البشرية.
لن يُعيقه هذا كثيرًا.
بدأت السماء تميل إلى العتمة.
وبعد يومٍ حافلٍ بالمفاجآت، بالإضافة إلى دفء الكف التي يستلقي عليها، شعر شي تشينغ بطمأنينة غريبة.
تغلّب عليه النعاس.
دفن رأسه الأبيض الصغير في تجويف كف تشين مو.
مدّ أطرافه القصيرة بكسل حتى تمدّد تمامًا، وضغط بطنه المستدير على راحة اليد.
ثم فتح فمه الصغير في تثاؤب مبالغ فيه.
داعبه تشين مو بلطف، ومع كل تمريرة، انجرف شي تشينغ أعمق في عالم الأحلام…
وكأنه كان على موعد مع دوق الأحلام شخصيًا.
وحين غطّ الصغير في النوم، وضعه تشين مو على صدره، ثم نهض وغادر الكوخ مستغلًا خفوت الليل.
كان سجن قبيلة ياسين باردًا وكئيبًا، لا تصل إليه أشعة الشمس. وحدها بلورة مضيئة تنبعث منها أشعة خافتة بالكاد تضيء الظلام.
كانت ملابس أيميا ممزقة، ورغم أنه لم يكن مصابًا بجراح خطيرة، إلا أن ضعف بنية الأنصاف جعله يبدو منهكًا للغاية. ومع ذلك، حافظ على مظهره الرقيق، البريء، والمثير للشفقة.
كلاك!—صوت فتح باب الزنزانة جعله يرفع رأسه.
لمح رجلاً يسير نحوه بهدوء.
هيئة طويلة، خطواتها رشيقة، ووجه وسيم خفي عن الضوء.
ضحك أيميا في سرّه بسخرية، لكنه قال بصوت ضعيف: “ياليك، بعد كل ما فعلته بي، لا تظن أنني سأقول لك شيئًا!”
اقترب الرجل، وجهه الوسيم مغطّى بطبقة من الجليد، صلب وغامض تحت ضوء البلورة الباهتة.
ردّ عليه بنبرة باردة: “ليس ضروريًا.”