🦋

 الفصل 101 - إضافي: العالم الحديث (1)


بعد خمس سنوات أخرى.

في هذا العام، أصبحت مدينة سوي واحدة من المدن المحورية في البلاد، وقد أنجزت بالفعل خطوات متقدمة في مجال الدمج الذكي الشامل.

أما شركة تشين روي، الرائدة الأولى في تكنولوجيا الذكاء الصناعي على مستوى البلاد، فقد وسعت نطاق بحوثها، والتي بدأت في المجال الطبي، لتغطي في السنوات الأخيرة مجالات متعددة كصناعة الروبوتات والقيادة الذاتية، وغيرها من التقنيات الذكية.

الدكتور تشين ظهر في المشهد كنيزك يخترق السماء.

هذا الشاب، خريج جامعة Q المرموقة، كان قد صنع لنفسه اسمًا كبيرًا منذ أيام دراسته الجامعية، حين طوّر مشروع R2D، فكان له بذلك أول إنجاز حقيقي يسلّط عليه الأضواء.

ولسنوات طويلة، انغمس في بحوثه، ونادرًا ما ظهر في العلن.

“دكتور تشين، لِم لا تذهب؟”

في مركز بحثي خاص على ساحل البلاد، وهو مشروع استراتيجي يخضع لإشراف الدولة، نادى عليه رئيس الفريق بان بو، بينما كان تشين مو لا يزال يحدق في البيانات خلف نظارته، منهمكًا فيها.

قال بان بو: “كفى تدقيقًا، كلما نظرتَ أكثر، ازدادت صداعًا. 

دعنا نغيّر الأجواء قليلاً، نخرج لتناول الطعام.”

رفع تشين مو رأسه ونظر إليه.

بان بو سحب نفسًا عميقًا، ولم يستطع إلا أن يعترف في قرارة نفسه بأن هذا النجم الذي بالكاد تمكّنوا من جذبه إلى المركز البحثي، لا يملك فقط عقلاً لامعًا، بل وجهًا يجذب الأنظار بطريقة لا يمكن تجاهلها. 

ونتيجة لذلك، ازدادت شعبيته بين الزميلات إلى مستويات غير مسبوقة.

أما تشين مو، فلم يكن يدري ما الذي يضحك له رئيس الفريق.

خلع قفازيه وأومأ برأسه قائلاً: “لا بأس.”

كان بان بو في السادسة والثلاثين من عمره، 

أعلى رتبة من تشين مو، أما الأخر، فكان يشغل حاليًا منصب نائب رئيس الفريق.

وما إن وقف حتى رفع يده إلى مؤخرة عنقه، وأدار رأسه، فغمره شعور حاد بالتيبّس والألم، مما جعله يقطب حاجبيه.

لاحظ بان بو حركته، فسأله: “آلام في الرقبة؟ 

هذه مهنتنا للأسف، أعاني منها أنا أيضًا. 

لدي لصقات علاجية، إذا عدنا إلى السكن لاحقًا، أعطيك اثنتين. مفعولها مضمون.”

سار تشين مو بجانبه وقال: “شكرًا لك، رئيس بان.”

فأجابه الرجل بابتسامة: “آه، نحن نعمل معًا منذ نصف شهر، لِمَ هذه المجاملة؟”

كان بان بو شخصًا ودودًا بطبيعته، سريع الاندماج، وقال بحماسة: “هذا المشروع يحظى بدعم واهتمام الدولة، هناك أكثر من عشرة أقسام تعمل تحت ضغط كبير. لو سارت الأمور بسلاسة، سننتهي خلال شهر، وإن لا، فلا أحد يعلم كم من الوقت سنقضي. لذا، طالما نحن في فريق واحد، علينا أن نتعاون.”

ابتسم تشين مو وقال: “حسنًا، سأترك الرسميات إذًا.”

“هكذا أفضل!”

كان المركز البحثي مجهزًا بشكل جيد، ليس فيه ما يُنتقد، سوى كونه مغلقًا.

في وقت الغداء، كان المطعم يغص بالبشر.

فهذا المركز، الذي يضم مئات الأشخاص، يبدو كمهرجان بشري وقت الطعام. ولا عجب، فكل من يدخل هذا المكان هو من نخبة العقول في البلاد، ولو ذُكر اسم أحدهم أمام طالب جامعي مبتدئ، لأصيب بالذهول من ألقابه وحدها.

وكان الفريق الذي ينتمي إليه تشين مو مسؤولًا عن معالجة البيانات واتخاذ القرارات—مهمة معقدة ومزعجة للغاية، تعتمد على تجارب متكررة، ومعايرة دقيقة للبيانات، وتستهلك طاقة هائلة.

في وسط هذا الضغط اليومي، لم يكن لدى تشين مو وقت للتفكير في أي شيء آخر.

ورغم ذلك، لم يكن بوسعه الهروب من شهرته.

ففي المطعم، كان الكثيرون يحيونه عندما يرونه.

“دكتور تشين، دكتور بان، وقت الغداء؟”

“دكتور تشين، فريقكم آخر من حضر كالمعتاد، آخر طبق من الأضلاع المطهوة قد نفد، لا ترهق نفسك كثيرًا، نحن نبدأ نشعر بالضغط!”

أما من هم أكبر سنًا، كالأساتذة والأكاديميين، فكانوا ينادونه باسمه مباشرة.

وكان من بينهم أستاذه خلال فترة الدكتوراه، الأستاذ وو بويو، أحد قيادات هذا المشروع، والشخص الذي رشّحه للمشاركة فيه.

وعندما وصل تشين مو إلى الطاولة، سارع الجميع للمزاح مع الأستاذ وو، قائلين:

“أستاذ وو، لم أتخيل أنك ستتخلى عن هذا التلميذ النابغة وتأتي به إلى هذا العمل الشاق.”

فأجابهم: 

“قولوا إنكم تغارون وانتهى، ما الحاجة للمراوغة؟”

قال أحدهم ضاحكًا: “دعنا نأخذه معنا، 

فريقنا يفتقر بشدة لمثل هذه المواهب.”

أجابه الأستاذ وو وهو يضع بعض الخضار في صحنه: 

“لا يمكن، لا تحلموا.”

مرّت إحدى الباحثات من فريق آخر، وقالت مازحة: “أستاذ، توقف عن التفكير في ذلك. أجمل فتيات المركز جرّبن كل أساليبهن، لكن الدكتور تشين لم يتأثر إطلاقًا.”

ابتسم تشين مو بابتسامة فيها بعض الحرج، وقال: “أرجوكِ، أختي تشو، لا تمزحي.”

قال أحد الأساتذة ممازحًا: 

“حتى جمال النساء لم ينجح؟ هذا مذهل.”

علق الأستاذ وو بمرارة: 

“طلابي ليسوا طموحين كثيرًا، لقد تزوج مبكرًا.”

“ماذا؟ الدكتور تشين متزوج؟”

“لكن في مجالنا، كثيرون تجاوزوا الثلاثين ولم يتزوجوا بعد. كيف تزوج بهذه السرعة؟”

حتى بان بو بدا مندهشًا، وهو الذي يشاركه الغرفة، 

ولم يكن يعلم بهذا.

خفض تشين مو نظره نحو إصبعه الخالي من الخاتم.

كان قد وضع خاتمه في حقيبته لسهولة العمل، فلم يكن يرتديه كثيرًا.

وبما أن الحديث دار حوله، لم يجد مانعًا من المصارحة، فأومأ برأسه وابتسم: “نعم، تزوجت.”

بان بو قال بدهشة: “مستحيل، من هي؟ 

وأي جمال خارق استطاع أن يخطف قلبك؟”

فكّر تشين مو قليلاً، ثم قال:

“بصراحة… شكله، كان مذهلاً.”

خصوصاً في يوم الزفاف، حين ارتدى تلك البدلة السوداء… وسامته كانت جريمة بحق الآلهة والبشر.

حتى تشي لين والبقية كانوا على وشك رفعه ورميه في المسبح من شدة غيرتهم.

أُقيم حفل الزفاف في منطقة سانت روك على جزيرة سايبان،

كنيسة على الساحل، تطل بالكامل على البحر.

ذلك الزفاف، لا يمكن وصفه بالبسيط إطلاقًا، لكنه أيضًا لم يكن صارخًا أو مبتذلاً.

الحقيقة أنه كان فخمًا إلى درجة مذهلة—طائرة خاصة، فندق خمس نجوم، كل التفاصيل من طعام وشراب وترفيه كانت مثالية.

لم يُدعَ الكثير من كبار السن، عائلة تشين مو اقتصر تمثيلها على عائلة تشو،

أما عائلة شي، فلم يحضر منها سوى أقرب الأقربين.

الباقي؟ شباب فقط.

من التحضير إلى التنفيذ، لم يتدخل تشين مو في شيء.

بل حتى لم يُلقِ نظرة على التفاصيل.

كان وقتها منشغلًا بتوسّع تشين روي في مجالات جديدة، يركض بين الاجتماعات والمختبرات، بالكاد يلتقط أنفاسه.

ولهذا، لم يفهم أبدًا كيف وجد شي سيان وقتًا ليهتم بكافة تفاصيل الزفاف شخصيًا، وسط جدوله المجنون.

تذكّر أنه في أحد الأيام سأل شي سيان:

“ولِم لا؟ أنا ما زلت شابًا، والطاقة عندي بلا حدود.”

وفي اليوم التالي، كان تشين مو قد استيقظ بصعوبة بعد ليلة طويلة ' مُجهِدة '، فعبس وقال ببرود:

“تقصد أنني عجوز؟”

شي سيان، وهو يرفع عنه رداء النوم، 

ينظر إلى آثار الليل الماضية على بشرته الناعمة:

“أبدًا. فقط المرة القادمة سأكون أحنّ.”

رفع تشين مو ساقه وركله بخفة.

كلما طالت العِشرة بينهما، أدرك تشين مو أنه أمامه يتصرف أحيانًا كفتى صغير،

بتصرفات لم يسبق له أن سمح لنفسه بها أمام أي شخص آخر—لحظات من الدلال، أو مزحات طفولية خفيفة،

كان لا يظهرها سوى له.

في يوم الزفاف،

تحت سماء مشرقة،

حين نطقا عهود الزواج التقليدية والمبتذلة،

وجد تشين مو نفسه يشعر بأن عينيه تسخنان.

تلك اللحظة التي كنت تحلم بها منذ المراهقة،

حين تصل أخيرًا مع ذلك الشخص الوحيد،

الشخص الذي لا يتكرر،

الذي يُشكّل نصف روحك.

لكن الزفاف لم يكن كل شيء.

كان هناك مئات التفاصيل الصغيرة، يومًا بعد يوم.

نظامه الغذائي الذي لم يخل به يومًا لسنوات،

جعله يتخلص تمامًا من آلام المعدة،

حتى أثناء السفر، كان يتلقى تذكيرات منتظمة في المواعيد.

ركبته، التي طالما تألمت في الشتاء،

لم تعد تؤلمه أبدًا،

ففي خزانة ملابسه، خصص له شي سيان درجًا مليئًا بواقيات الركبة،

معظمها كان يشتريها له بنفسه.

أما ذاك الواقي القديم الذي تهرّأ حوافه أيام الثانوية، فقد اختفى.

شي سيان أخفاه في مكان لا يعلمه أحد.

ولم يجده تشين مو حتى اليوم.

وفي كل ليلة ينامان متعانقَين،

تلك الدفء الخافت كان يُدمن.

ولهذا، عندما غادر تشين مو في هذه المهمة الطويلة،

شعر بعدم ارتياح.

لم يكن معتادًا على غيابه الطويل،

والاتصال محدود جدًا،

ولا يُتاح إلا في أوقات محددة.

لكن تشين مو أخفى ذلك الشعور جيدًا.

أخذه، ولفّه في أعماقه،

وعاد إلى واجهته المعتادة:

الرجل البارد المتزن، الجاد في عمله،

ذلك الدكتور تشين الذي يبدو دائمًا منضبطًا كآلة، حتى في أعين زملائه.

لكن خبر زواجه، تسرب سريعًا داخل الفريق الرابع لمعالجة البيانات.

كان يوم جمعة،

عقدوا آخر اجتماع لهم في الثامنة مساءً،

ثم أُعلن الانتهاء،

وانفرجت الأجواء.

كانت تلك ليلة نادرة للراحة في القاعدة:

لا عمل ليلي، لا اجتماعات إضافية، ولا تحاليل بيانات مرهقة.

عاد تشين مو إلى غرفته، استحم،

غرفته مزدوجة، سريره أقرب إلى الشرفة،

وكان يسمع بوضوح بان بو يتحدث مع حبيبته.

كانت البداية رومانسية… ثم فجأة شجار،

ثم، كما بدأ، انتهى فجأة وعادت الأجواء ناعمة.

حين دخل بان بو الغرفة متنهدًا،

كان تشين مو قد وضع ملابسه في الخزانة.

فجأة سأله بان بو:

“أنت وذلك الشخص… الا تتشاجران؟”

توقف تشين مو للحظة، غير مستعد للسؤال،

أغلق باب الخزانة وفكر قليلاً،

ثم قال: “أظن… نعم.”

“تظن؟”

“هذا يعني، انني لااستطيع التذكر متى بالضبط.”

قال بان بو بدهشة:

“الا تتشاجران مثلاً على من بيشخر، أو من يرمي النفايات، أو من يطبخ ويغسل؟”

أجابه بهدوء:

“هو لا يشخر، وأنا ايضاً.”

بان بو نظر إليه مذهولًا: “هذا هو المهم؟”

واصل تشين مو:

“هناك عاملة منزل، لا نضطر للتنظيف.

وهو أحيانًا يطبخ… طبخه لذيذ.”

بان بو شعر بأنه شُلت مشاعره.

هناك من هو دكتور لامع،

لكن لا يستطيع شراء بيت كامل في سوي،

ويتشاجر مع حبيبته يوميًا لأسباب مادية.

وهناك من هو تحت الثلاثين،

متزوج، يعيش برفاهية،

لديه طباخ، عاملة منزل،

ويبدو أن زوجته من عائلة ثرية كذلك.

قال بان بو وهو يستسلم للواقع:

“حسنا… من الواضح إنك غني، وزوجتك أغنى.

في النهاية، المال يحل 99% من مشاكل الحياة.”

رفع تشين مو حاجبه، وقال بابتسامة خفيفة:

“ربما.”

في الحقيقة، كان يمكنه أن يقول:

ليست زوجتي.

لكنه لا يحب مشاركة خصوصياته،

خصوصًا في هذا المكان.

فآثر الصمت.

بان بو كان قد رتّب موعدًا للذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية التابعة للقاعدة من أجل الاسترخاء، أما تشين مو، فقد قال إنه يرغب في الراحة، فآثر البقاء ولم يرافقه.

لم يمضِ وقت طويل حتى بدأ الهاتف الموضوع على سريره بالاهتزاز.

كان شي سيان قد أجرى مكالمة فيديو.

أجاب تشين مو: “مرحباً.”

سأل شي سيان، وكان صوته قد بدا خافتًا قليلًا لأن الهاتف موضوع على البطانية:

“هل كنتَ تستحمّ لتوّك؟”

تابع تشين مو طيّ ثيابه، وألقى نظرة على الشاشة قائلاً:

“نعم. وأنت، أين أنت الآن؟”

كان خلف شي سيان منظر من أضواء المدن المتلألئة، كما لو أنه في فندق.

فقال كما توقّع تشين مو: “في رحلة عمل.”

في هذا العام، كان شي سيان قد نقل مركز أعمال CM بالكامل إلى داخل البلاد، كما تبعت أعمال عائلته هذا التحوّل.

وإن كان تشين مو غارقًا في عمله بصورة غامرة، فإن شي سيان كان أشبه برجلٍ يحيا في السماء، لا تطأ قدماه الأرض إلا نادرًا.

ومع ذلك، فإنه متى استطاع العودة، لم يكن ليبقى خارجًا.

فكّر تشين مو في نفسه:

هل حقًا لم يسبق لهما الشجار قط؟

لكنه سرعان ما أدرك أن الأمر لم يكن كذلك.

بل لأن بينهما من الفهم والتقدير ما يكفي لتجاوز أي خلاف.

وحين يكون كلا الطرفين صادقًا في رغبته ببناء هذه العلاقة، يصبح الزمن المشترك أغلى من أن يُهدر في جدال لا طائل منه.

نظر إلى عينيه المتعبتين قليلًا، فسأله:

“هل أنت مرهق؟”

أجاب شي سيان:

“لا بأس، لدي اجتماع بالفيديو بعد قليل.”

كان يجلس على الأريكة، يسند جبينه إلى يده، وعيناه تتابعان حركات تشين مو بهدوء وتركيز وهو يطوي ملابسه.

توقّف تشين مو عن الترتيب حين أحسّ بنظراته، وحدّق فيه:

“لِمَ تنظر إليّ هكذا؟”

أجاب شي سيان بابتسامة خفيفة:

“أنظر إلى دكتور تشين، لأنه… جميل.”

صمت تشين مو قليلًا.

منذ تلك المكالمة التي سمعه فيها أحدهم يناديه بـ الدكتور تشين، لم يتوقّف شي سيان عن استخدام هذا اللقب،

لكن على لسانه، كان يحمل دائمًا شيئًا من الغزل المبطن، لا الوقار المعتاد.

لاحظ تشين مو أن نظراته تتبع خيوط الماء المنسابة من شعره، تسير نزولًا نحو عنقه وياقة قميصه،

فلم يشأ أن يكون الوحيد الذي يبدو في وضع غير مريح، فتوقّف عمّا بيده، وانحنى نحو الكاميرا.

وبسبب اتساع ياقة ثوبه، ظهرت عظمة الترقوة بانحنائها الرقيق. ثم قال بصوت منخفض:

“أليس المنظر من هذا القرب أوضح؟”

تحرّكت تفاحة آدم لدى شي سيان.

قال بصوت خافت يحمل نبرة مبحوحة:

“أظنّك تريد أن تبدأ… جلسة حميمية عبر الهاتف؟”

رفع تشين مو رأسه بسرعة وابتعد قليلًا، قائلاً:

“لن يكون مناسبًا. لدي زميل في الغرفة.”

بطبيعة الحال، كان شي سيان يعلم أنه يقيم في غرفة مزدوجة.

بل إنه يعلم عمر زميله، وحالته الاجتماعية، ومكان عمله.

واصلا الحديث في مواضيع متفرّقة، خفيفة، لا أهمية لها.

ثم ما لبث تشين مو أن أوقف ترتيب ثيابه، وأخذ هاتفه وغادر الغرفة.

في الخارج، كانت هناك بعض الأنشطة الترفيهية التي نظمها الأعضاء الشباب في القاعدة.

الأجواء كانت تعج بالحيوية.

وكان البعض قد بدأ بالشواء في الهواء الطلق.

جلس تشين مو على درجات السلّم، والنسيم الليلي يلامس وجهه، بينما كان على الطرف الآخر، شي سيان قد بدأ اجتماعه عبر الفيديو.

لكن أحدًا منهما لم يغلق الاتصال.

جلس تشين مو هناك، يستمع إلى صوت شي سيان وهو يتحدث باللغتين الصينية والإنجليزية، يناقش التسويق والاستراتيجيات،

وفي ذهنه، ظهرت صورة شي سيان كما رآه ذات مرة، حين كان هو يلقي محاضرة في هوانغ شانغ، وكان شي بين الحضور.

خلال السنوات الأخيرة، كان تشين مو منشغلاً بالأبحاث، بالكاد يقترب من الأسواق. أما تلك الجوانب، فقد تولّى أمرها العجوز كي وسو تشيان ران.

لقد مرّ وقت طويل لم يرَ فيه شي سيان في صورته المهنية.

الهاتف موضوع على الزاوية السفلية اليمنى من الحاسوب المحمول،

ومن زاويته، كان تشين مو يستطيع أن يرى ملامحه من أسفل الشاشة.

كان شي سيان ينظر إليه بين الفينة والأخرى، 

ثم يعيد نظره إلى الاجتماع ويواصل حديثه.

في الجهة الأخرى، في جناح الفندق،

كانت أجواء الاجتماع جادة للغاية.

بسبب خطأ ما في أحد المشاريع، اتشح وجه كل قائد بالحذر والصرامة، حتى هان تشيان الذي كان غالبًا ما يخفف التوتر، آثر الصمت هذه المرة.

وفجأة، قاطعتهم جملة أنثوية: “دكتور تشين!”

ثم لحقت بها أخرى:

“مع من تتحدث؟ تفضل، تذوّق هذا، من صنع أيدينا.”

لم يكن تشين مو يعلم أن شي سيان لم يُغلق الميكروفون.

نظر إلى الأسياخ المشوية المغطاة بمسحوق الفلفل الأحمر،

ثم أخذ اثنتين فقط وقال بهدوء:

“معدتي لا تتحمّل الأطعمة الحارة، عائلتي لا تسمح لي بذلك، هاتان تكفيان.”

ضحكت زميلته وقالت:

“لم أكن أعلم أن الدكتور تشين يخضع لهذه الدرجة لزوجته! لا عجب أنك لم تُبدِ اهتمامًا بكل من تُعجب بك من زميلاتنا.”

تنهد تشين مو، ورفع الأسياخ بابتسامة خفيفة:

“شكرًا.”

أما في الطرف الآخر من الاجتماع، فقد عمّ الصمت التام.

الجميع كان يعلم بأن رئيسهم متزوج،

وكانت هناك إشاعات بأن شريكه رجل.

لكن رؤية الأمر مباشرة، وسماع نبرة الطرف الآخر، ومعرفة “الدور” الذي يشغله في العلاقة…

جعل الجميع يتساءل: هل نحن حقًا في أمان هنا؟

هل سيُطرد أحد بسبب هذا؟

لكن في خضم ذلك الصمت المشحون،

أغلق شي سيان الميكروفون،

وعاد إلى الاجتماع بوجه خالٍ من أي انفعال،

تابع الحديث كما لو أن شيئًا لم يكن.

أما تشين مو…

كان تشين مو لا يزال يستمع إلى الاجتماع المنعقد في الطرف الآخر من الهاتف،

حين وصله فجأة إشعار برسالة من هان تشيان.

هان تشيان كتب:

“تسك، لم أتوقّع منكما كل هذا التكلّف في اللعب.”

تشين مو أرسل علامة استفهام: “؟”

هان تشيان تابع:

“ما هذا؟ نوع من ألعاب تقمّص الأدوار؟”

تشين مو كتب مجددًا، بنبرة تحمل تحذيرًا خفيفًا:

“؟ أنت تسرح خلال الاجتماع؟ ألا تخشى أن أخبر عمّك الثاني؟”

كان تشين مو قد عرف مصادفة بأن العلاقة بين العم الثاني شي جيانشينغ وهان تشيان ليست علاقة عادية.

لكن إن كان لا بدّ من توصيفها، فالأقرب أنها علاقة حبٍّ وعداء، مشاعر مشتبكة مستمرة منذ سنوات، دون أن تنتهي إلى شيء واضح.

حين يتشاجران، لا يبقيان شيئًا في القلب، يقسوان بلا تردّد، لكن من يراقبهما من بعيد، يعرف جيدًا أن كلاهما يَغار، ويَهتمّ.

هان تشيان تراجع بسرعة، وردّ باستسلام:

“أنت الأقوى.”

ثم أضاف:

“لكن أشكرك على أي حال، أنقذت أرواحنا… تدخلت في الوقت المناسب.”

وهنا فقط أدرك تشين مو أن شي سيان لم يُغلق الميكروفون.

ربما كانت طبيعة عملهم قد بلغت مرحلة حرجة،

وأي خلل في التفاصيل قد يؤدي إلى مشكلة كبيرة.

وكان هان تشيان، كلّما شعر بالتوتّر، أو احتاج إلى تشتيت انتباهه،

يتّخذ من تشين مو مادةً للضحك، كما يفعل الآن.

لكن تشين مو، كعادته، اختار الترفع، ولم يعلّق.

حين أنهى شي سيان الاجتماع، كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة مساءً.

أما الأجواء عند تشين مو، فما زالت تعجّ بالحيوية، ولم تتفرّق بعد.

كان قد تحرك من الجلوس على الدرج، إلى الوقوف مستندًا إلى الحائط.

وكانت رياح أكتوبر تداعب وجهه،

ليست باردة ولا حارّة، معتدلة على نحو مثالي.

تأمل تشين مو المشهد من حوله—أصدقاء وزملاء، يضحكون أو يتحدثون بهدوء. ثم، فجأة، قال:

“أشتاق إليك.”

في الطرف الآخر من المكالمة، كان شي سيان قد أغلق حاسوبه لتوّه، فتوقّف في مكانه، ونظر إلى الشاشة.

“ماذا قلت؟ أعدها.”

رفع تشين مو عينيه إليه، ونظر إليه مباشرة.

ثم قال بهدوء، وصدقٍ لا تشوبه المجاملة:

“أشتاق إليك. منذ أول يوم وصلتُ فيه إلى هنا، وأنا أشتاق إليك.”

وفي تلك اللحظة، اقتربت من خلفه مجموعة من الزملاء الذين عادوا من النشاطات.

أحدهم قال ساخرًا:“أوووه، أشتاق إليك!”

وتبعه آخر:

“لم نتوقع هذا منك يا دكتور تشين!”

وثالث قال مازحًا، وهو يوجه كلامه إلى الهاتف:

“مرحبًا أيتها الزوجة!”

لكنهم ما لبثوا أن تجمّدوا في أماكنهم حين ظهر على شاشة الهاتف رجل طويل القامة، أنيق، يبدو أكبر منهم جميعًا شأنًا وهيبة.

كان شي سيان، دون أن يتأثر، يردّ بابتسامة هادئة:

“مرحبًا جميعًا. دكتور تشين عندنا يتحدث دائمًا بشكل مباشر،

أرجو أن تعتنوا به في هذه الفترة.”

ارتبك الجميع فجأة.

“بالطبع، بالطبع!”

“لا داعي للقلق!”

“الدكتور تشين محبوب من الجميع، لا تقلق عليه.”

ابتسم شي سيان، وقال بنبرة فيها شيء من المزاح:

“بل قلقي بسبب كونه محبوبًا جدًا.

هذا ما يجعلني أشعر بانعدام الأمان أحيانًا.”

ساد الصمت بينهم.

أما تشين مو، فكان قد دسّ يديه في جيبيه،

ينظر إلى هؤلاء الزملاء—غالبهم دكاترة أو أساتذة مرموقون—وقد تحوّلت وجوههم إلى لوحات من الإحراج،

وهو الذين كانوا في الاجتماعات يفيضون بالثقة والكلمات.

قال، موجهًا كلامه إلى شاشة الهاتف:

“رئيس شي، يبدو أنك بارع جدًا في فن إحراج الناس.”

رفع شي سيان حاجبًا وقال:

“حقًا؟ كنت أظنّني شخصًا لبقًا.”

فكّر تشين مو في نفسه:

لبق جدًا… في تصويب سهامك نحو الجميع دون استثناء.

هل وجدت خطأ؟ قم بالإبلاغ الآن
التعليقات

التعليقات [1]

  1. Tota عضو
    58
    افا كنت ابي فصول من العلاقة بينهم ياخي وكيف تعرفو على بعض