🦋

في تلك الليلة، بعد عودتنا من العشاء، رأيت حلمًا غريبًا وحارًّا. كنتُ محاصرًا في دوامة حمراء متقدة، تدفعني تياراتها العنيفة بلا رحمة، وكأن فرصتي في الإفلات كانت تتلاشى تدريجيًا. 

نظرتُ إلى الأسفل، وهناك، في قلب الدوامة، رأيت شخصًا ملامحه غير واضحة، لكن حدسي أخبرني بأنه شين شو—المرشد السياحي الذي قابلته في نيودلهي، الرجل الذي كان يحدق بي دائمًا وكأنه يعرفني منذ زمن بعيد.

عندما كنتُ على وشك السقوط استيقظت فجأة.

كان شين شو قد استيقظ قبلي بالفعل، مرتديًا قميصًا بلون الطحالب، يقف بظهره لي، منشغلًا بشيء ما. كان ضوء الصباح في الغرفة مشرقًا لكنه بارد، خالٍ من الدفء الحقيقي.

ناديتُه بصوت مبحوح: “شين شو.”

استدار نحوي… ورفع كاميرته، ليلتقط لي صورة.

كان جزء من وجهه ظاهرًا خلف الكاميرا السوداء، 

لكن تعبيره كان هادئًا بشكل غريب. 

رفعتُ يدي بسرعة لأغطي وجهي، متذمرًا:

“أنا أبدو فوضويًا.”

“لا بأس،” قال وهو يراجع الصورة، “لن يرى أحد ذلك.”

كلماته الأخيرة خرجت بنبرة خافتة وغامضة، 

أو ربما كان ذلك مجرد وهم بسبب نعاسي. 

لمحتُ ابتسامة خفيفة على وجهه وهو يحدّق 

في الصورة، ثم سألني عن عشاء البارحة.

“في المرة القادمة، لا تتسرع وتدفع الحساب.” قلتُ له، “اليوم سأدفع أنا. لقد اعتنيتَ بي وأنا مريض، وأخذتني للعشاء أيضًا، هذا كثير…”

ابتسم شين شو وهو ينظر إليّ وقال مازحًا: 

“أليس هذا رائعًا؟ مرشدك السياحي جيد جدًا، 

أليس كذلك؟”

ابتسمتُ: “على الأقل، هناك واحد في نيودلهي.”

نهضتُ من السرير، بينما رنّ هاتف الغرفة عند الساعة الثامنة صباحًا. فصلتُ هاتفي عن الشاحن وسألته دون تفكير:

“إلى أين سنذهب اليوم؟”

“ماذا عن الإله شيفا الصغير؟ 

إنه في المتحف الوطني بنيودلهي.”

كان شين شو يضع ساعته في معصمه الأيسر، 

وراقبتُ أصابعه وهو يثبّت الحزام بإتقان. 

لم تكن ذراعه العضلية بارزة كثيرًا، لكنها كانت نحيفة وأنيقة، وخلال حركة بسيطة، ظهر بروز خفيف للأوتار تحت جلده. شعرتُ أنني أحدّق لوقت أطول مما ينبغي، فحرفتُ نظري بعيدًا.

كان الموسم السياحي في أوجه، مما اضطرنا 

للانتظار طويلًا في الطابور خارج المتحف الوطني. 

استخدمنا منشورات الدعاية لنُروّح عن أنفسنا من حرارة الجو، وعندما دخلنا أخيرًا، لم نرَ تمثال شيفا على الفور، بل كان علينا المرور عبر قاعات مزدحمة بلوحات مصغرة منحوتة وتماثيل نصف عارية.

وقفتُ أمام مجموعة من التماثيل التي تصور مشاهد… حميمية للغاية—ليس فقط بين شخصين، بل حتى بين ثلاث وأربع وأحيانًا خمس شخصيات متشابكة. كان هذا التعبير الصريح والجريء عن الجسد والطاقة أمرًا مألوفًا في الهند، حيث لا مكان للخجل عندما يتعلق الأمر بالقوة والرغبة.

أخذ شين شو يراقب المنحوتات لبعض الوقت، قبل أن يقول بابتسامة: “تماثيل معبد خاجوراهو أكثر جرأة من هذه. مليئة بمشاهد لا يمكن تصورها، الكثير من السياح—خاصة اليابانيين—يشعرون بالحرج، لكنهم في الوقت نفسه لا يستطيعون مقاومة الرغبة في النظر. لذا، يستخدمون كاميراتهم ويتظاهرون بأنهم يلتقطون صورًا للمناظر الطبيعية، بينما في الواقع، يقومون بالتكبير لرؤية التفاصيل عن قرب.”

ثم اقترب وهمس لي: “هل تريد الذهاب إلى هناك؟ هل ستشعر بالخجل؟”

رفعتُ حاجبيّ وسألته: “هل تشعر أنت بالخجل؟”

“لا.”

قالها بثقة وهو يُميل رأسه قليلًا نحو المنحوتات، 

حيث كانت طبقات الطلاء الزاهية قد بدأت تتآكل، لتكشف عن الحجر الخام تحته.

“إذًا، أنا أيضًا لن أخجل.”

اقتربتُ أكثر من الزجاج الذي يفصلني عن التماثيل، وضغطتُ وجهي عليه، محاولًا أن أستمع إلى الصدى الذي تحمله هذه الأشكال الحجرية من العصور الغابرة.

“أشعر وكأنني أسمعهم يصرخون.”

وقف شين شو بجانبي وقال بصوت هادئ: 

“الفن في الهند ليس مجرد رؤية، بل تجربة. 

كل شيء هنا يحمل طاقة خاصة به.”

ثم توقف لبرهة وأردف: 

“عندما أتيتُ إلى هنا لأول مرة…”

التفتُّ إليه وسألته: “ماذا حدث في المرة الأولى؟”

نظر إلى التماثيل للحظة، ثم التفت إليّ 

وحدّق في عينيّ طويلًا، قبل أن يقول بهدوء:

“لا شيء… هيا، تمثال شيفا هناك.”

توجهنا إلى القاعة التي تضم تمثال شيفا، حيث كان 

يقف تحت ضوء موجه بشكل فريد، يحيط به زوار كُثر.

ولكن… فجأة، شعرتُ بالتوتر.

تسارعت خطواتي للحاق بـشين شو، لكن قلبي 

كان يثقلني، كما لو كنتُ أرتكب خطيئة صغيرة. 

تمتمتُ لنفسي:

“أنا لم أرَ حتى شيفا الكبير بعد، فلماذا 

أشعر بالخوف من رؤية شيفا الصغير؟”

لاحظ شين شو ترددي وسألني بلطف: 

“هل لا تريد رؤيته؟”

خفضتُ صوتي: “كنتُ قد وعدتُ أن أراه مع… 

شخص آخر. هل هذا يُعتبر خيانة للوعد؟”

شعرتُ ببرودة خفيفة عندما أمسك شين شو بمعصمي فجأة وسحبني للأمام. كان جسده دافئًا، لكن راحة يده باردة، مما جعلني أشعر براحة غريبة.

“الخيانة ليست منك، بل منه.”

قالها بلهجة غامضة، 

وكأنه يحمل غضبًا مكبوتًا لا أعرف سببه.

اقتربتُ منه وهمستُ: 

“… هل تعتقد أنه سيحاول تعويضي يومًا ما؟”

توقف عن السير للحظة، ثم التفت إليّ وحدّق في عينيّ مباشرة.

“هل تعتقد… أنه لا يزال يحبك؟”

شعرتُ بأنفاسي تتباطأ. لم أعرف كيف أجيب.

أخيرًا، تمتمتُ: “أعتقد… أنه يحبني، ربما.”

لكنني كنتُ أعرف الحقيقة—الحب لا يبقى دائمًا كما هو، إنه يتفتت ويتلاشى تحت ضغط الزمن، يُترك في صورة ذكريات محطمة، عليكَ أن تنقب عنها جيدًا فقط لتستخرج منها قطرة صغيرة من العذوبة، تخدع بها نفسك.

أضفتُ بصوت خافت:

“لقد قمنا بحزم أمتعتنا معًا.”

لكن مقارنةً بالمشاعر الجارفة التي كانت تجمعنا في الماضي، فإن هذه اللمحة من الحب لم تكن سوى قطرة في بحرٍ جاف.

نظر إليَّ شين شو وقال ببساطة: “أحمق.”

لكني لم أغضب. 

ابتسمتُ قليلًا وقلت: “أحيانًا، أجدك تشبهه كثيرًا.”

“أشبهه؟” تابع شين شو المشي بجانبي، 

نبرته كانت هادئة، بلا أي انفعال، 

ثم سأل: “أشبهه كما كان في الماضي، أم كما هو الآن؟”

أجبتُ بعد لحظة صمت: “كما كان في الماضي.”

لم يُعلّق، لكنني لمحته يبتسم قليلًا، 

وكأنه وجد متعةً خاصة في الإجابة.

ثم أشار بإصبعه للأمام وقال: “انظر… شيفا.”

رأيته هناك، تمثالٌ برونزي مذهل… شيفا يرقص وسط ألسنة اللهب، قدمه تدوس على قزم صغير، وجسده يطفو فوق زهرة لوتس مزدوجة، ضوء متراقص ينعكس على منحنياته، وكأنه حيٌّ يتنفس.

“لماذا يدهس هذا القزم؟” سألتُه.

“القزم؟ إنه يُجسّد الجهل والغباء.”

“وما هذه الرقصة التي يؤديها شيفا؟”

“إنها رقصة الكون، رقصة الأبدية، رقصة الفناء والخلود معًا.”

راقبتُ النيران التي تحيط بجسده، كأنها عاصفةٌ مطرية لن تستطيع أبدًا إخماد هذا اللهب اللامحدود.

عيناه الثلاثة تبرقان وسط الزمن، وكأنها ترى الماضي والحاضر والمستقبل معًا، لا يتوقف أبدًا عن الرقص، مياه نهر الغانج تتدفق من بين خصلات شعره، تنحدر ببطء إلى العالم السفلي، تدور وتعود مرة أخرى، تخلق توازنًا دقيقًا، هشًا لكنه قويٌّ في الوقت نفسه.

شعرتُ بوخزة خفيفة في صدري، 

وكأنني فقدتُ شيئًا عزيزًا دون أن أدرك ما هو.

للحظة، تمنيتُ أن أضم بين ذراعيّ جميع الغرباء الذين صادفتهم في حياتي.

كم هو شعورٌ غريب… وغير منطقي أبدًا.

بجانب شيفا، كان هناك تمثالٌ آخر، قطٌّ يرفع مخلبه للأعلى، وجهه تآكل بفعل الزمن، وتحول إلى حفرتين مظلمتين بلا ملامح، عميقتين كاليأس، كالإصرار المفرط على شيء لا يمكن تحقيقه.

في اللحظة التي التقت عيناي بعينيه، 

استدرتُ بسرعة. لم أرد أن أنظر إليه أكثر.

ذلك الوجه… كان يوقظ داخلي أشد المشاعر اضطرابًا.

نادراً ما أشعر بعدم الأمان، لكن هذا التعبير…

لقد رأيته من قبل.

مرة واحدة فقط… على وجه شخصٍ واحد.

——

قال لي حبيبي من قبل إن والدته كانت ذات طبعٍ سيئ، لكنني لم أسأله عن التفاصيل، ولم يحاول هو أن يخبرني.

لكنه كان يعود أحيانًا بعد قضاء الأعياد معها، 

يحتضنني بقوة، يدفن وجهه في كتفي، ثم يهمس بصوت متعب:

“شياو جين، ماذا أفعل؟ أحبها… وأكرهها.”

ثم، بعد لحظات، كان يتراجع، كأنه تراجع عن اعترافٍ خطير:

“لا… لا أظن أنني أحبها.”

شعرتُ بالحيرة. “لكنها والدتك.”

قلتُها ببساطة، بينما كنتُ أحاول أن أستوعب كلامه، 

كيف يمكن لشخصٍ ألا يحب والدته؟

لم أستطع أن أفهمه حينها.

لم أشعر يومًا بالكراهية تجاه عائلتي، أسوأ ما اختبرته كان شعورًا عابرًا بـ الضيق، لكنه كان يتلاشى خلال ساعات… ربما حتى خلال دقائق.

في النهاية، كان والداي دائمًا أول من يبادر بالمصالحة، وإن لم يفعلوا، كنتُ أنا من يفعل، مدفوعًا بالندم والاعتذار.

“ما الذي حدث؟” سألته.

لكنه لم يجبني، فقط أسند ذقنه على كتفي،

راقبتُ عقارب الساعة وهي تتحرك ببطء.

“هل أُحضّر لك كوبًا من الشاي؟” قلتُ، محاولًا كسر الصمت. “اشتريتُ شاي بانغ داهاي، إنه جيدٌ لصوتك، يبدو أجشًّا اليوم.”

“لا.”

حاولتُ أن أبتعد قليلًا، لكنه تمسك بي فجأة، 

كأنني طوق نجاة وسط محيطٍ هائج.

“لا تذهب…فقط ابقَ معي قليلاً، حسنًا؟”

ثم، بصوت خافت، قال:

“شياو جين… تعال معي إلى المنزل هذا العام، 

في رأس السنة.”

“حسنًا، لا بأس.” قلتها دون تردد، لكن بعد أن وافقتُ بسلاسة، بدأ حبيبي في التردد، ثم قال إنه أخبر والدته عني، لكنه لم يذكر طبيعة علاقتنا.

“بالنسبة لجيلهم، تقبُّل هذا الأمر يحتاج إلى وقت، فلنأخذها خطوة بخطوة. فقط قل لها إنني صديقك، وإنني فوّتُ قطار العطلات وليس لدي مكان أذهب إليه مؤقتًا.” كنت قد أعددت له العذر مسبقًا حتى لا يشعر بالضغط.

أومأ حبيبي برأسه بقوة، 

مثل طفل صغير، وقال: “شكرًا لك.”

“على ماذا؟”

“لأنك تفهمني.”

تردد قليلًا، ثم أضاف: “أنا سعيد جدًا.”

كانت نبرته وكأنني منحته شيئًا عظيمًا، 

وكأنه لم يشعر بالسعادة من قبل. شعرتُ بوخزةٍ في قلبي، فمسّدتُ برفق على مؤخرة رأسه، 

وقلت: “يجب أن أكون أنا من يشكرك.”

وهكذا، في مساء اليوم الرابع من العام الجديد، 

دخلتُ منزل عائلة حبيبي  وأنا أحمل حقيبتي، 

بمزيج من القلق والامتنان. 

حبيبي من عائلة منفصلة، فقد نشأ مع والدته فقط، لذلك لم يكن هناك سوانا على طاولة العشاء. 

كان يشبه والدته كثيرًا، وخاصةً في فكّه الناعم المحدد الذي بدا وكأنه منحوت من حجر اليشم الأبيض—جمالٌ ناعمٌ لكنه يحمل برودةً متأصلة، كما لو أنه سيبعث قشعريرة عند لمسه في الشتاء.

أعدّت والدته العشاء، وتبادلنا بعض الأحاديث أثناء الأكل. 

بدت السيدة ودودة وصادقة، لكنها لم تبتسم بعينيها أبدًا. كانت إحدى المصابيح الثلاث في غرفة الطعام معطلة، لكن الجميع التزموا بالصمت حيال ذلك، كما لو أنه أمر لا يستحق الذكر. 

بعد العشاء، وضعت السيدة العيدان بهدوء وسألتني: “أين ستنام؟”

قال حبيبي على الفور: “أمي، سينام في غرفتي.”

ردت بنبرة غير واضحة، بين التساؤل والسخرية: “أوه… في غرفتك؟ إذن، أين ستنام أنت؟ في منزلنا غرفتان فقط، إذا نام في غرفتك، فهذا يعني أنك ستنام في غرفتي، وأنا؟ هل أنام على الأريكة إذن؟”

شعرتُ بقلبي ينقبض، 

فتوقفتُ عن المضغ، ونظرتُ إلى حبيبي بقلق.

كان تفكيرها… غريبًا جدًا.

خفض حبيبي رأسه وأخذ لقمةً أخرى، وقال بهدوء: “قصدي أنني وهو سننام في نفس الغرفة.”

“في نفس الغرفة…” كررت بعد لحظة تأمل، 

وهي تلمس ذقنها كما لو كانت تفكر في شيء، 

ثم أضافت ببساطة: “حسنًا.”

كنت قد تدربتُ مع حبيبي على مجريات الأمور مسبقًا—بعد العشاء، قمتُ بغسل الصحون وتنظيف الطاولة، ثم جلستُ مع السيدة في غرفة المعيشة نشاهد التلفاز القديم المتشقق شاشته. 

الأريكة كانت بالية، مع شقوق بيضاء تبرز من تحت القماش، أما اتجاه الشقة فكان جيدًا، لكن لا أعلم لماذا خطر لي فجأة مصطلح الطاقة السيئ”.

هذا المكان… كأنه مختل، 

لكن لا أحد يعرف كيف يصلحه.

قبل النوم، دخل حبيبي الغرفة بعد أن أنهى استحمامه. 

أغلق الباب خلفه، ثم توقف للحظة، قبل أن ينحني ببطء وكأنه يفكك قنبلة، وأدار القفل بحذر شديد لدرجة أنني بالكاد سمعت صوت المزلاج وهو يستقر في مكانه.

أطفأ الضوء، ثم احتضنني وقال: 

“أنا آسف، والدتي غريبة بعض الشيء.”

راودتني فكرة أن مضطربة نفسيًا قد تكون أكثر دقة، 

لكنني احتفظت بها لنفسي.

“أشعر بذلك.” همستُ، “هل هي دائمًا هكذا؟”

“نعم.” كان حبيبي يعبث بشعري، “وهذا يُعتبر جيدًا.”

“وماذا عن أسوأ حالاتها؟”

صمت للحظة، ثم قال: “شياو جين، هل تعلم؟ 

أنا أحسدك كثيرًا، وأحسد… الآخرين أيضًا. ليس لأن والديّ انفصلا، بل لأنك تملك الحرية لفعل ما تحب—الرسم، العزف على الناي، العزف على الجيتار…”

“أوه؟ تعني تلك الدروس والهوايات في الطفولة؟”

“نعم، أعلم أن والدتي عانت كثيرًا في تربيتي، 

لكن طوال هذه السنوات… لم يكن الأمر سهلًا عليّ أيضًا. 

كانت تقول لي دائمًا: أنت كل ما أملك، لذا عليك 

أن تجتهد، أن تلتحق بأفضل جامعة، أن تحصل على وظيفة محترمة ومربحة.

لم تسجلني في أي دروس هوايات، قالت إننا لا نملك المال لذلك، لكنها في الوقت نفسه أنفقت كل مدخراتها على دروس الرياضيات والفيزياء التنافسية، ثم كانت تخبرني كم هي طيبة معي.”

كان صوته خافتًا، لكنه كان يلهث وكأنه يحاول 

ضبط أنفاسه وسط الحرارة الخانقة تحت الغطاء. 

استغرق وقتًا طويلًا قبل أن يتابع:

“كنتُ متفوقًا دراسيًا، لكن ليس لدرجة أن أكون من بين القلة المختارة في منافسة بين ملايين الطلاب الأذكياء. في كل عطلة نهاية أسبوع، كنت أشعر أنني عالق في حلقة لا تنتهي، حيث يُسحق كل جهدي على يد شخص أكثر ذكاءً. كنتُ أشعر أنني على وشك الانهيار.”

“لم أكن سعيدًا، شياو جين. كنتُ أضغط على نفسي لتحقيق كل توقعاتها، لأصبح موضوع فخرها أمام الأقارب عندما تكون سعيدة، وأداة تُحقِّرها كما تشاء عندما تكون غاضبة. 

كنتُ أشعر برغبة في الصراخ، في التمرد، ولم أفهم هذا الشعور حينها. لكنني لاحقًا أدركتُ أن اسمه الحقيقي هو الألم.”

شعرتُ أنني أراه لأول مرة، ذلك الجانب المخفي منه، المختلف عن الصورة التي كنت أعرفها.

قلت: “أنت لست مجرد أداة في يدها… لمَ لا 

تحاول التحدث معها؟ أن تخبرها بما تشعر به؟”

“لا أستطيع إلا أن أسمع كلامها.” شدّني إلى حضنه، وهمس: “لقد حاولت… حاولت فعلًا. كنت أعرف مسبقًا ما سيكون ردها وما ستكون النتيجة، لكنني تشجعتُ وجربت.”

“وماذا قالت؟”

تجمد للحظة، ثم قال بصوت مرتجف: “لن أنسى أبدًا نظرتها. عندما أطبقت شفتيها، ورفعت رأسها بتلك النظرة المتغطرسة ورفضتني، شعرتُ بنفور شديد منها. لم أعد أطيق وجهها، ولا عينيها، ولا حقيبتها، ولا حذاءها، كل شيء فيها…”

“أثار اشمئزازي.”

حبستُ أنفاسي، لم أستطع رؤية تعابيره في الظلام.

مددتُ يدي لألمس وجهه، لكنه تجنبني. 

ثم قال: “أتذكر ذلك اليوم عندما مررنا بجدار منزل قديم؟ كان أبيض اللون، مع فواصل سوداء رفيعة بين الطوب، ضيقة جدًا… هل تعرف ماذا فكرتُ حينها؟”

“أردتُ أن أضرب رأسي به.”

“…”

“لا تفكر بهذه الطريقة.” قلتُ بهدوء. “لا تؤذِ نفسك.”

“أنا أمزح.” توقف للحظة

ثم أضاف: “مجرد أمور تافهة، استمع إليها وانسَها.”

شعرتُ بانقباض في صدري، فقلت: 

“لم تخبرني بعد، كيف تكون في أسوأ حالاتها؟”

أخذ نفسًا عميقًا، ثم قال كلمة واحدة، مقطعًا كل حرف على حدة:

“هيستيريا.”

في تلك اللحظة، انفتح باب الغرفة الأخرى بعنف، وسمعنا خطوات سريعة تقترب. لم يكن هناك طرق على الباب، بل صوت مقبض الباب وهو يُدار بقوة. 

لكن جبيبي كان قد أقفل الباب، فلم تستطع فتحه. وفي ظلمة الليل، بدا صوتها مرعبًا:

“عزيزي… لماذا أغلقت الباب؟”

حبستُ أنفاسي، وشعرتُ بضربات قلبي تتسارع.

“أمي…” أفلتني حبيبي وتوسل بصوت متوتر: 

“إنها مجرد ليلة واحدة، شياو جين ضيف عندنا.”

“افتح الباب على أي حال! لماذا تغلقه؟ ممن تحتمي؟ ماذا تفعل هناك؟” فجأة، انفجرت غضبًا، وكأن ماءً باردًا سُكب في زيت مغلي: “افتح الباب! افتح الباب!”

“افتح الباب!!!”

شعرتُ بمعدتي تنقبض، وصوتها الحاد جلب لي شعورًا بعدم الارتياح والخوف. 

همس جبيبي في أذني بسرعة: “أنا آسف.”

في اللحظة التالية، أُضيء النور فجأة، 

ووقف حبيبي عند السرير بلا حراك. 

رأيتُ على وجهه تعبيرًا متناقضًا من المقاومة والتمرد، ودمعتين تنزلان على خديه.

دونغ— دونغ—

شعرتُ بقشعريرة تتغلغل في جسدي. 

كانت أمه تطرق الباب، لكن الصوت لم يكن بضرب مفاصل أصابعها، ولم يكن حتى ركلة على الباب—لقد كانت تضرب الباب برأسها.

“يا وغد! يا نذل!”

قبل أن يتمكن حبيبي من الاقتراب من الباب، 

سُمع صوت ارتطام قوي، تلاه صراخها الحاد:

“افتح الباب!!!”

“افتح الباب!”

راحت تخطو ذهابًا وإيابًا، ثم سمعنا صوت مفك براغي يُدار في القفل. كانت تحاول تفكيكه، لكنها كانت في عجلة من أمرها، فسقط المفك على الأرض. 

ثم، بدت وكأنها فقدت صوابها تمامًا، فبدأت تضرب الباب برأسها بقوة، وكأنها تهدد بتدمير نفسها.

“افتح الباب!!”

“شين شو!!!” 

هل وجدت خطأ؟ قم بالإبلاغ الآن
التعليقات

التعليقات [0]