🦋

في الليل، كانت أنوار نيودلهي تسلط ضوءها على جدران الفلل البيضاء، فيما كانت النباتات عريضة الأوراق في ذروة موسمها، تنبض بالحياة بلونها الأخضر الغني.

أخذني شين شو إلى مطعم هندي بعيد بعض الشيء. 

ولأنه كان قلقًا من عدم العثور على وسيلة نقل للعودة، طلب من سائق التوك توك الذي أوصلنا أن ينتظر عند المدخل لبعض الوقت، مؤكدًا له أنه سيمنحه بقشيشًا مجزيًا.

أشرتُ إلى المطعم المزدحم وقلت: 

“هناك الكثير من الزبائن، ماذا لو أخذ أحدهم سائقنا؟”

“إذًا، سنعود سيرًا على الأقدام.” قالها شين شو وهو يفتح الباب، بنبرة مازحة، “لن تستغرق سوى أربعين دقيقة.”

ضحكتُ من طريقته في طمأنتي، ثم وجهتُ نظري إلى قائمة الطعام واخترتُ دجاجًا بالكاري الأحمر مع نوعين من خبز النان—نان بجوز الهند ونان بالجمبري والفطر، كلاهما من الأطباق المميزة للمطعم.

“ماذا أيضًا؟” سألتُ شين شو طلبًا للمساعدة. 

فذكر لي بعض الأطباق الأخرى، وطلب مني البحث عنها في القائمة.

“وجدتها.” نظرتُ إلى القائمة ثم ترددت، “أليس هذا كثيرًا؟”

“اطلب ما تشاء.” أسند شين شو مرفقيه على الطاولة ونظر إليّ مباشرة، “إذا كنتَ تحب شيئًا، فلا تتردد.”

أجبتُه بإيماءة خفيفة، متجنبًا عينيه. 

شعرتُ أن نظرته تحمل حرارة لا أستطيع تحملها.

في ركن المطعم، أظهر الساعة العتيقة أنها السادسة والنصف مساءً. 

في الوطن، يجب أن تكون الساعة التاسعة الآن. 

لا أعلم إن كان حبيبي قد تناول العشاء أم لا.

نظامه الغذائي كان فوضويًا دائمًا، فمشاغل طلابه كانت تجعله ينسى الطعام أحيانًا، وكان يعاني من مشاكل في المعدة أسوأ مني. 

بعد انتهاء فترة امتحانات الثانوية العامة، كان من المفترض أن يأخذ استراحة ويعتني بصحته، لكن…

حين كان مشغولًا في العمل، كنتُ أرسل له عدة رسائل أسأله إن كان قد تناول طعامه، لكنه لم يكن يرد حتى ينتهي من دروسه المسائية—أي في العاشرة والنصف تقريبًا. كان يجيبني أخيرًا:

“كنتُ مشغولًا، أكلتُ شيئًا بسيطًا، والآن سأقود عائدًا إلى المنزل.”

كان ذلك يعني ضمنيًا أنني لم أكن ضمن أولوياته،

 وأن جميع رسائلي السابقة كانت بلا معنى.

في الواقع، كنتُ في ذلك الوقت أجلس داخل سيارتي، متوقفًا عند إشارة حمراء، أحدق في شاشة المحادثة وأتصفح الرسائل مرارًا وتكرارًا، قبل أن أشعر بالضيق وأغلق هاتفي، ثم أضغط على دواسة البنزين وأتابع القيادة.

في شركة التصميم الهندسي التي أعمل بها، كنا أيضًا مشغولين جدًا. التعامل مع بعض العملاء كان مزعجًا لدرجة قد تدفعك للجنون، ولكن بمجرد أن أعود إلى المنزل ويحيطني دفء حبيبي، كنتُ أنسى كل شيء.

كنتُ أقول لنفسي: “يجب أن نفهم بعضنا البعض، لا أن نعذب بعضنا.”

والآن، في هذا المطعم الهندي المزدحم، خفضتُ رأسي وكتبتُ له:

[هل تناولتَ العشاء؟]

ثم تراجعتُ ومسحتُ الرسالة، وكتبتُ:

[لا بأس، أجبني عندما تتناول طعامك.]

لكن… أليس الجميع بشرًا؟ أليس لدينا جميعًا مشاعر؟

“سأذهب إلى الحمام.” قلتُ بصوت خافت، 

ولم أرفع رأسي حتى مررتُ بجوار شين شو، 

لكنني شعرتُ بذراعه تمنعني للحظة. 

توقفتُ دون أن أنظر إليه، وبعد بضع ثوانٍ، رفع يده بهدوء.

كان الحمام مكانًا مثاليًا لتهدئة المشاعر. 

تصميمه من الخشب الحديث، بإضاءة دافئة تنعكس على الجدران السوداء والأحواض السوداء، يشبه تمامًا حمام منزلي في الصين. 

كنتُ على وشك غسل وجهي عندما لاحظتُ 

بعض زجاجات العطر موضوعة على المنضدة.

كان الزبائن الهنود يفضلون عطر تير دي إيرميس، 

وبدا أن الزجاجة هنا على وشك النفاد. لكنني، دون وعي، تجاوزتُها والتقطتُ زجاجة أخرى—إيسي مياكي.

كانت ممتلئة، لم تُفتح بعد، وكأنها كانت تنتظرني تحديدًا.

ماركة يابانية في الهند؟ لم يكن أمرًا شائعًا جدًا.

في تلك اللحظة، ترددت في رأسي نبرة مألوفة—

صوت حبيبي، وكأنه يتحدث معي من الماضي:

“إيشي مياكي؟ هل المصمم أوتاكو؟”

وضعتُ يدي على جبهتي وتنهدتُ: “إنه إيسي مياكي!”

ضحك، ثم تراجع قليلًا وقال مازحًا:

“آه، صحيح، إيسي مياكي… في الفترة الأخيرة صرتُ أنسى كثيرًا، حتى أسماء طلابي! بالمناسبة، شياو جين، أتذكر أنكَ تحب عطر اللوتس من هذه الماركة، أليس كذلك؟”

في ذلك اليوم، كان يمسك بيدي عند باب المتجر، وسحبني بحماس إلى الداخل:

“لنشتريه لك.”

“ليس عطر اللوتس، إنه لوديسي.” صححتُ له مجددًا، وسحبته بعيدًا عن واجهة المتجر. “لن نشتريه، لا حاجة لذلك.”

“لماذا؟ ألستَ تحبه؟”

كان المول مزدحمًا، فسحبته إلى جانب الممر حتى 

لا نعيق حركة الناس. ثم قلتُ له بصوت هادئ:

“إنه باهظ الثمن، وأنت بحاجة لتوفير المال، 

أليس كذلك؟ ألم تكن تخطط لشراء منزل لوالدتك؟ عليكَ الادخار.”

رأيته يُخفض نظره قليلًا، وكأن كلماتي أطفأت شيئًا في داخله. تمتم:

“لقد وجدتْ مؤخرًا منزلًا آخر على ضفاف النهر، 

لكنها لم تستطع تدبير دفعة أولى كافية.”

اتسعت عيناي بدهشة: “تقصد ذلك المنزل 

الذي تبلغ مساحته أكثر من مائة متر مربع؟”

“نعم، تقول إن الستين مترًا صغيرة جدًا، 

وإنني أمارس ضدها نوعًا من التعذيب.”

لم أعرف كيف أرد عليه. أنا وحبيبي بالكاد استطعنا شراء شقة صغيرة مساحتها خمسون مترًا مربعًا بعد أن بدأنا العمل. 

كتبنا العقد باسميْنا، ومع ذلك كانت الأقساط الشهرية تشكل عبئًا كبيرًا علينا. فكرة أن عليه تحمل ضغط قرض آخر جعلت القشعريرة تسري في جسدي.

“شياو جين، يمكنني أن أطلب منك شيئًا؟”

كان مستندًا إلى جدار قرب مخرج الطوارئ، 

ينظر إليّ بجديّة.

“في العام الماضي، عندما كنتُ أتنافس على الترقية، حصلتُ على تقييم جيد. هذا العام، تريد المدرسة مني أن أكون مربي صف—أن أصبح مدرسًا رئيسيًا. الراتب… سيزداد قليلاً.”

سألته فورًا: “كم سيزيد؟”

تردد قليلًا قبل أن يذكر الرقم، فعبستُ قائلًا: 

“هل أنت متأكد؟ هذا سيجعل حياتك أكثر إرهاقًا.”

نظر إليّ وقال بهدوء: “أنت تعرف والدتي.”

بتلك الجملة القصيرة، كان قد أسكتني تمامًا. 

لأنني كنتُ أعرفها جيدًا، لم أجد ما أقوله.

تنهدتُ، ثم شددتُ على يده وابتسمتُ قائلًا: “حسنًا، لكني ما زلتُ مصممًا على عدم شراء العطر. يمكننا فقط الدخول واستنشاق رائحته.”

“حسنًا.”

دخلنا المتجر، جربنا العطر، ثم خرجنا ونحن نحمل معنا رائحته العذبة. كنا كزهرتي لوتس عائمتين في بحر الليل، يغمرنا الهدوء والعبق الساحر.

اقترب مني وهمس عند أذني:

“أحب رائحتك عندما تضع هذا العطر، 

شياو جين. انتظرني، سأشتريه لك يومًا ما.”

فجأة، ومضت الأضواء الخافتة في الحمام، 

فأدركتُ أنني كنتُ شاردًا في الذكريات لفترة طويلة.

ضغطتُ على زجاجة العطر، واستنشقتُ الرائحة التي لطالما أحببتها. كان عليّ التوقف عن أن أكون عبدًا للماضي.

عدتُ إلى الطاولة، حيث كانت الأطباق قد وُضعت بالكامل، تطلق بخارها العطر، لكن شين شو لم يلمس طعامه بعد، وظل جالسًا في نفس الوضعية التي تركته فيها، وكأنه ينتظرني.

عندما جلستُ، رفع رأسه وابتسم قائلًا: “إنها رائحة جميلة، صحيح؟ إنها رائحة اللوتس، أليس كذلك؟”

ثم لمس أنفه وأردف مبتسمًا: “أنفي حساس جدًا.”

انعكاس الإضاءة على وجهه جعل ظلال رموشه تبدو أطول، مما جعلني أُحدّق للحظة، قبل أن أتجاوز مكانه وأجلس في مقعدي. لم أتهرب من نظرته هذه المرة.

“أستاذ شين، هل تحب إيسي مياكي أيضًا؟”

“نعم، أحبه.” أومأ برأسه وأعاد تأكيد كلماته، 

“إنه عطر جميل.”

ابتسمتُ بخفة، لكنني نظرتُ إلى الأطباق أمامي، 

فوجدتها ملونة جدًا—بشكل مبالغ فيه.

كانت الألوان زاهية بشكل غير طبيعي، والجمال المتكلف فيها جعلها تبدو مُزيفة، وكأنها تحاول أن تثير الإعجاب بالقوة، بدلًا من أن تكون ببساطة… حقيقية.

حينها، شد شين شو قبضته على السكين والشوكة، 

حتى أصبحت مفاصله بيضاء. ثم رفع نظره إليّ وكأنه يبحث عن تأييد أو ثناء، وقال مبتسمًا:

“شياو جين، سأبدأ بالأكل الآن، حسنًا؟” 

هل وجدت خطأ؟ قم بالإبلاغ الآن
التعليقات

التعليقات [0]