اليوم السابع.
استيقظتُ على صوت ساعتي البيولوجية، قويًا وواضحًا، لكنني شعرت بجسدي مرهقًا، كما لو كان مجرد هيكل فارغ.
كان شين شو يحتضنني من الخلف، وهمس بصوت ناعس، كما لو كان لا يزال في الحلم، “صباح الخير.”
“صباح الخير.” استدرت بحذر واقتربت منه،
“اليوم أريد أن أذهب مجددًا إلى حمامات نهر الغانج.”
حتى في هذا الصباح الباكر المشوش، استطاع شين شو رؤية حيلتي المبتذلة بسهولة، فقال: “لن نتمكن من رؤية شيفا في الوقت المناسب.”
تمددت بين ذراعيه بتردد، محاولًا اختبار ردة فعله،
“إذا لم نتمكن من ذلك، يمكننا الذهاب غدًا.”
“وغدًا ستقول بعد غد.” التقط قميصًا من جانبه وألقاه فوق وجهي، “هيا، شياو جين، ارتدي ملابسك، ثم ننطلق إلى المطار.”
تحت القماش الداكن، ظللتُ مستلقية بهدوء، شعرتُ بمرارة تلسع أنفي، وقلت بصوت مختنق: “شين شو، هل يمكنك الاستماع إليّ ولو لمرة واحدة…؟”
كان هذا تفاوضًا محكومًا بالفشل.
نظر إليّ لفترة طويلة دون أن أتحرك، ثم جلس فوق فخذي، منحنياً برأسه بينما كان يغلق أزرار قميصي واحدة تلو الأخرى.
كانت عيناه مركزة، وشعره الأسود يرتجف قليلاً فوق جبهته، لكنه أخطأ عند الزر الأخير، فاضطر إلى فكه وإعادة ربطه مجددًا.
انا لست سعيدًا، لكن يبدو أنه أكثر توترًا واضطرابًا مني.
لقد خلق الله العالم في ستة أيام، واستراح في اليوم السابع، فهل يمكن أنه لم يمر أبدًا عبر ريشيكيش؟
هذه المدينة المخفية في سفوح الهيمالايا، حيث تسود التأملات العميقة؟
كانت ريشيكيش جميلة جدًا، تفيض بهدوء نادر في الهند، مختلفة تمامًا عن الفخامة البراقة لضريح تاج محل.
هناك، كان لكل شيء بساطة مقدسة لا تقدر بثمن.
كان سكانها يرتدون أزياء بيضاء طويلة تتدلى حتى تكاد تلامس الأرض، بينما انخفضت درجات الحرارة بالقرب من الجبال إلى سبعة عشر درجة.
أمسكت بيد شين شو بإحكام،
ولم أكن أرغب في تركها ولو لثانية.
شعرتُ كأنني حورية البحر الصغيرة، مثقلة بشعور غامض بالكآبة، وكأنني أمشي على حافة سكين حاد.
( تشبيه يشير لقصة “حورية البحر الصغيرة” لأندرسن، حيث تعاني البطلة من الألم والتضحية في سبيل الحب، لكنها تجد نفسها في وضع لا تنتمي إليه تمامًا )
الرياح القادمة من نهر الغانج لامست وجهي،
مشبعة برائحة رطبة ومالحة، مما جعل ملامح شين شو تبدو ضبابية وبعيدة.
بينما كنتُ أحدق فيه، كان هو يحدق في مبنى فضي-أزرق بسطح أبيض مدبب ذهبي، يلمع كالخزف تحت أشعة الشمس المتقطعة بين الغيوم.
سلكنا طريقنا نحو تمثال شيفا، وسط المتعبدين الذين كانوا يتحركون بعكس اتجاهنا، غير مكترثين بنا، تمامًا كما كنا غير مكترثين بهم.
ربما لأن لكلٍ منا هوسه الخاص.
بدت المسافة القصيرة التي قطعناها وكأنها غرق في حلم عميق. عدد ذرات الرمال في نهر الغانج يُقال إنها تبلغ ثمانية وأربعين ألفًا، وأنا واحدة منها، تجرفني التيارات، لكنني كنتُ أسبح عكسها، أحاول يائسًا العودة إلى قدميّ شيفا، لأكون واحدًا من أتباعه المخلصين، الثابتين بإيمانهم.
وأخيرًا، رأيناه… بوجهه الذي لم يتغير عبر العصور.
“شياو جين.” تنهد شين شو بخفة،
وكأنه يخشى أن يوقظ شيئًا مقدسًا. “لقد وصلنا.”
كان شيفا يجلس القرفصاء فوق المياه، وجهه الأملس خالٍ من أي زينة، لكنه كان مذهلاً بجماله العميق.
كان تعبيره هادئًا، لكنه ينبض بالحياة، وكأنه نقطة التقاء بين الروح والجسد، جلده العاري بدا وكأنه عاد إلى الحياة من رماد النار، ممتلئًا بطاقة لا تنضب.
——
في أحد أيام الجامعة، داخل المكتبة في فترة الظهيرة، كانت أصابعي متوقفة عند السطر الأخير من إحدى الكتب:
“من أجل إنقاذ البشرية، قبل شيفا أن يبتلع الأفعى السامة، مما جعل رقبته تكتسي بلون أزرق داكن…”
نظرت إلى شين شو، وناديته بهدوء،
ثم دفعت الكتاب نحوه وقلت: “وجدتها.”
مال جسده نحوي وبدأ بقراءة السطر بصمت.
كان مكيف الهواء يعمل بأقصى طاقته،
في الخارج، كانت الأشجار تتمايل برفق، وكان كل شيء ينمو تحت حرارة الصيف.
حدقتُ في ملامحه، حتى أدق تفاصيلها،
ورأيت جمالًا لا نهاية له.
“هكذا إذًا…” أومأ شين شو برأسه.
“السُّم تسلل إلى عروقه وجلده… لا بد أنه تألم كثيرًا.” تقلصت رقبتي لا إراديًا وكأنني أتخيل الشعور.
لكنه لم يبدِ أي تعليق.
سألته “أليس كذلك؟ يجب أن يكون ألمًا لا يُحتمل.”
هزّ رأسه ببطء، وأغلق الكتاب قائلاً: “أعتقد أنه… تحررًا.”
“تحرر؟”
تأملت الصور السوداء والبيضاء في ملحق الكتاب.
بمجرد أن قال شين شو ذلك، بدا شيفا مختلفًا في عينيّ، كما لو كان محاطًا بهالة من شخص عاد من عالم الموتى، ليصبح خالدًا داخل دائرة التناسخ.
هبت الرياح في ريشيكيش، وحدقتُ في شيفا.
عندما التفت، وجدتُ انعكاسي في عينيّ شين شو.
كان قريبًا جدًا، وبؤبؤاه ضيّقان من شدة التركيز.
في تلك اللحظة، لم يكن شيفا هو ما يشغله، بل كنتُ أنا.
لمستُ شفتيه بلطف.
تلك الشفتان الناعمتان حدَّ فقدان السيطرة.
“هل تريد أن نأخذ صورة مع شيفا؟”
بعد تلك القبلة القصيرة، ظل شين شو في مكانه،
رأسه مائل قليلًا نحوي، حافظ على وضعيته، ثم ابتلع ريقه بصمت، وخفض رأسه بسرعة، وانشغل بضبط إعدادات الكاميرا.
نزعت حزام الكاميرا من عنقه وقلت بحزم:
“أنت دائمًا من يلتقط صوري، دعني أصوّرك هذه المرة.”
تردد شين شو للحظة،
لكنه في النهاية سلمني الكاميرا وقال: “اضغط هنا.”
“حسنًا.”
تقدمتُ بضع خطوات بالكاميرا،
لكن بالكاد مر وقت قصير حتى بدأت أفتقد ملمس شفتيه. بسرعة، عدت إلى شين شو، أمسكت بمؤخرة عنقه وجذبته إليّ.
كان حركتي متسرعة، فتفاجأ للحظة، لكنه سرعان
ما شدّني إليه، يلف ذراعيه بإحكام حول خصري، ليجعل قبلتنا غارقة في الحميمية، متصلة بلا انفصال، وكأن العالم من حولنا لم يعد موجودًا.
“شياو جين، أنت أعظم حب في حياتي.”
همس بذلك، وشفتيه ولسانه يلامسانني برقة،
بينما كان ردّه على احتضاني مشبعًا بالدفء، لكن… لكن بدا وكأنها قبلتنا الأخيرة.
بدأت الحشود تزداد كثافة، لكنني كنت أتحرك إلى الخلف ببطء، رافض أن أسمح لـ شين شو بالاختفاء من مجال رؤيتي.
كان لا يزال واقفًا هناك، لم يتحرك.
وحين رفعت الكاميرا بسرعة، بدا وكأنه ابتسم.
انطلق صوت الغالق، ليلتقط صورته وهو واقف عند قدميّ شيفا، بعينيه الممتلئتين بالعاطفة، وركن ثوبه يرفرف في الهواء كما لو كان جناحًا يخفق.
“شين شو، بعد أن نرى شيفا، إلى أين سنذهب؟”
“شين شو، سأفعل ما تريد، لنذهب إلى أي مكان تختاره. سأسترجع تذاكر الطيران، لا يزال لدينا أماكن كثيرة لم نستكشفها معًا.”
“شين شو؟ شين شو؟”
أنزلتُ الكاميرا… لكنه لم يكن هناك.
المكان أصبح فارغًا، وسرعان ما احتلت المساحة مجموعات جديدة من المتعبدين بملابسهم البيضاء. بقيتُ مشدوهة، تقدمتُ بضع خطوات في الاتجاه الذي كان يقف فيه.
جاء الفراق مفاجئًا كحدّ السكين، يشق قلبي بلا رحمة. حاولتُ التماسك، لكن كان هناك شيء ما يتلاشى من داخلي، ينجرف بعيدًا دون عودة.
بدا وكأنه لم يكن موجودًا أبدًا،
لكنه في ذات الوقت كان حاضرًا في كل مكان.
وكأن صوته لا يزال يتردد في أذني:
“لا تبحث عني.”
“لا تأتي إلى الهند من أجلي.”
“شين شو!” صرختُ باسمه بيأس، أشق طريقي وسط الحشود المتدافعة، حتى تعالت فجأة صيحات فزع.
فقدتُ توازني،
وشعرت بصدمة مفاجئة قبل أن تغرق عيناي في الظلام.
اصطدمتُ بعربة يجرها شخص وسقطت أرضًا.
كان كوعي مجروحًا، لكنني لم أشعر بالألم.
نهضتُ بسرعة، وبدأت أركض من جديد.
أنا سأجده. لا، هو لم يختفِ، لقد ضاع فقط.
سأبحث في كل مكان حتى أجده.
كانت الأرض تحت قدميّ تصبح أكثر طراوة، خطواتي تزداد ثقلاً، حتى أدركت أنني وصلت إلى ضفة الغانج.
كان صوتي مبحوحًا، بالكاد قادرًا على الصراخ.
“أين أنت…؟”
أحكمتُ قبضتي على حفنة من الرمال، لكنها تسربت بين أصابعي. التفتُّ إلى الوراء، شيفا بدا بعيدًا جدًا، وكأن بيني وبينه مسافة شاسعة لا تُقاس.
حدقتُ فيه، لكن دموعي فاضت بغزارة.
“لا تتركني.”
كان شيفا صامتًا وسط الضجيج، لكن شيئًا ما بدأ يتغير.
بدأت ملامحه تتقلص، جسده يضيق ويقصر… يتحول إلى شخص من لحم ودم.
ظهر على جلده بقع الشيخوخة، ورقبته لا تزال مصبوغة باللون الأزرق الداكن. بين خصلات شعره الفضيّة، ربط وشاحًا، ثم تنفّس بحرارة وابتسم لي، وكأنه ينتظر مني أن أقول شيئًا.
في غمضة عين، تبدّل المشهد.
وجدتُ نفسي واقفة أمام كشك يبيع الفطائر،
أحدهم كان يتحدث بالصينية، والعلامة المكتوبة على الواجهة بدت مألوفة،
جعلتني أحدق فيها كمن أصابه الذهول.
“ستة يوان.” قالت امرأة مسنّة وهي تقطع الفطيرة،
ثم مسحت يديها بمنديل.
سمعت أصوات السيارات، وقع الأقدام، والأحاديث الدائرة بلهجات مختلطة، كلها تدور حولي كطنين ذباب لا يتوقف.
آه… مجرد حلم إذًا.
هززتُ رأسي، كما لو كنت أستيقظ من سبات عميق. دفعتُ ثمن الفطيرة، فالتقطت المرأة العجوز صحيفة لتغليفها بها.
ارتجفتُ فجأة، وأدرت رأسي بسرعة،
“لا! لا تستخدمي هذه.”
نظرت المرأة إلى الصحيفة، ثم ابتسمت بأسف،
ورمتها جانبًا، مستخدمةً كيسًا بلاستيكيًا بدلاً منها.
في المصعد، شعرتُ بدوار مع ارتفاعه، وبمجرد أن دخلت المنزل، وصلتني رسالة من مديري تفيد بأن إجازتي قد تمت الموافقة عليها.
“إذا كنتِ بحاجة للمزيد من الوقت،
يمكنك أخذ بضعة أيام إضافية.”
شعرت أن رأسي محشو بالغراء،
قرأت الرسالة ثلاث مرات قبل أن أفهمها.
[شكرًا لك، سأعود إلى العمل في الوقت المحدد.]
[هل ستتمكن من التأقلم وحدك؟]
[حبيبي معي، سيعود قريبًا.]
كتبتُ هذه الكلمات بينما كنت أتناول فطيرتي،
أصابعي تتحرك على الشاشة ببطء.
أغلقتُ المحادثة.
في محفظتي الإلكترونية، كانت هناك تذكرتان غير مستخدمتين.
منزلي كان فارغًا، لم يعد شين شو بعد.
كان الهاتف مستقرًا على الطاولة النظيفة، معزولًا كجزيرة وحيدة. جلستُ بصمت، أخذتُ لقمة أخرى من الفطيرة، ومضغتها ببطء.
في الخامس عشر من أغسطس،
تأخرت رحلتي لمدة نصف ساعة.
حبيبي لم يأتِ.
في حرّ نيودلهي الخانق، سرتُ وسط الحشود، أجر حقيبتي الثقيلة، أبحث عن موقف الحافلات لنقل الركاب.
مع اقتراب العصر، وقفتُ مترددًا بين حافلتين
كبيرتين بلون ترابي، ثم اخترتُ الجهة اليسرى.
على متن الحافلة، التقيت بشخصٍ ما.
كان يحمل حقيبة سفر واحدة، ويرتدي قميصًا مخططًا بألوان فاتحة، نظيفًا وأنيقًا، ملامحه آسيوية واضحة، وانطباعي الأول كان مألوفًا بشكل غريب.
كم أنا محظوظ.
بصوت دافئ وهادئ، قال لي بلغة صينية مألوفة:
“أنا اسمي شين شو.”
ابتسم، وتسللت أشعة الشمس عبر النافذة، لتضيء نصف رموشه الطويلة، تمامًا كما كان من قبل…
تمامًا كما كان حين جعل قلبي ينبض لأول مرة.
—النهايـة—
——
النهاية مفتوحه يعني انه فيه تفسيرات كثيرة
استنتاجي هو انه شين شو انتحر وطبعاً السبعه ايام هي عاشها كروح لانه في الاساطير الهندوسية و البوذية الروح تبقى سبعة ايام عالارض بعد الموت قبل ماتروح للتناسخ خصوصاً انه اسم الشابتر التناسخ يقال انه في ذي الفترة تزور الروح الأماكن اللي كانت مرتبطة فيها وتروح تشوف أحبائها للمرة الاخيرة
وفي الفلكلور الصيني يقال ان الروح تبقى في العالم المادي لمدة سبع ايام بعد الوفاة عشان تنهي اعمالها الغير مكتملة
وممكن انه كل الاحداث وهم من منظور شياو جين يمكن عانى من صدمة خلته يرفض رحيل شين شو
بس طبعاً اشوف التخمين الاول اكثر واقعيه ويناسب مجرى الاحداث